أيها الإخوة المؤمنون

أكرمنا الله تعالى بأيام معدودات وجعل فيها كثيراً من الخيرات والبركات، تلكم الأيام هي العشر الأوائل من شهر ذي الحجة، التي أقسم الله تعالى بها، فقال: {وَالْفَجْرِ*وَلَيَالٍ عَشْرٍ*وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ}، وقد قال ابن عباس وابن الزبير وغيرهما من كبار الصاحبة، وقال مجاهد وغيره من التابعين:" إن هذ الأيام والليالي التي أقسم الله تعالى بها، هي الأيام العشر الأوائل من شهر ذي الحجة".

وقد سماها الله تعالى أيضاً بأيام معلومات، حين بين أن الحج واجب على الناس، وأن الغاية من الحج والقصد فيها ذكر الله تعالى في أيام معلومات، قال تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ* لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ}، قال مفسرون هي أيام العشر الأوائل من شهر ذي الحجة.

إن الرسول صلى الله عليه وسلم بين فضل العمل في هذه الأيام في كثير من الأحاديث الصحيحة الثابتة، منها قوله صلى الله عليه وسلم:" مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ"، أي استشهد في سبيل الله تعالى وقد أنفق ماله وأزهق نفسه في سبيل الله تعالى، وهذا الحديث يعطي قيمة كبرى للعمل في هذه الأيام العشر، حتى يقبل عليها الإنسان بالإكثار من الصالحات فيها.

في هذه الأيام العشر يوم يعتبر أفضل أيام الدهر على الإطلاق، فكما أن ليلة القدر هي أعظم الليالي على الإطلاق، فكذلك يوم عرفة أفضل أيام السنة على الإطلاق، وقد ورد في فضل اغتنامه بالصيام كثير من الأحاديث، منها حديث أبي قتادة رضي الله عنه قال: وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ فَقَالَ يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ".

ولا شك أن هذا فيما يتعلق بحقوق الله تعالى، أما ما يتعلق بحقوق العباد فإنها غير داخلة في هذا العموم، ولن تتأثر بصيام هذا اليوم من حيث المغفرة إلا أن يشاء الله تعالى.

وفي هذه العشر يوم غير يوم عرفة، سماه النبي صلى الله عليه وسلم بأعظم الأيام، فقد جاء في الحديث:" إِنَّ أَعْظَمَ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمُ النَّحْرِ".

وقد فسر كثير من العلماء قوله تعالى: {وَالْفَجْرِ} بأنه فجر يوم النحر، وهو اليوم العاشر من ذي الحجة، الذي يتم فيه طواف الإفاضة، ورمي جمرة العقبة الأولى.

هذه الأيام عظيمة الأجر والقدر، وفرصة نفيسة، لا يجوز للعاقل أن يفرط فيها، وينبغي عليه أن يغتنم إكرام الله تعالى له، وهي أيام تتجدد كل عام، ومن يضمن أنه يدركها في قابل الأعوام إن فرط أو قصر فيها في هذه السنة؟

وقد جاء في حديث عن بعض أمهات المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم هذه الأيام التسع، ومن لم يستطع منا صيام الأيام التسع لعذر ما فلا يفوته صوم يوم عرفة، فليحرص كل الحرص على صيامه.

وقد تساءل العلماء عن الحكمة من تفضيل العمل في هذه الأيام، وكنه أحب إلى الله تعالى، فقد أجاب ابن حجر عن ذلك، وقال: لأنها أيام تجتمع فيها كل أركان الإسلام، من صلاة وصيام وزكاة وحج.

هذه الأيام العظيمة نغتنمها فيما يرضي الله تعالى، وليكن ذلك من خلال برنامج عملي، يكون أول بنوده التوبة النصوح، وهي التي تتحقق فيها شروط التوبة، وأولها: الإقلاع عن المعاصي جميعها، وثانيها: الندم على فعل المعصية، وثالثها: العزم على عدم العودة إلى المعاصي أبداً، هذا فيما إذا كانت المعصية في حق الله تعالى، أما إذا كانت المعصية متعلقة بحق العباد، فهذه الثلاثة، ورابعتها: الاستبراء من حق صاحبها، بطلب العفو والمسامحة ورد الحقوق المالية، وخاصة الخدم الذين جعلهم الله تعالى تحت أيدينا، فما نقدمه لهم لا يذكر بالنسبة لنا، أما بالنسبة لهم فهو يساوي الشيء الكثير، وقد أوجب الإسلام إعطاء الأجير حقه والمسارعة في ذلك، قال صلى الله عليه وسلم:" أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ".

والتوبة من جميع المعاصي والذنوب واجبة على كل مسلم ومسلمة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا}، لما يترتب عليها من الفلاح والنجاح، قال تعالى:{ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.

فمن كان عليه حق لأي عبد من عباد الله تعالى فليسارع إلى أدائه قبل أن يأتي يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وقبل أن يندم المرء في موقف لا تنفع فيه الندامة، وبالتالي يغدو مفلساً.

ولا يغترنَّ أحد فيقول: سأصوم يوم عرفة وأخرج من ذنوبي كيوم ولدتي أمي، فهذا غرور وخداع الأماني، وغير صحيح؛ لأن هذا فيما يخص حق الله تعالى، وهي أيضاً مفوضة إلى مشيئة الله تعالى.

كما يجب علينا أن نغتم هذه الأيام بصالح العمل، كذلك يجب علينا إحياء سنن النبي صلى الله عليه وسلم فيها، وقد عاصرت من كان يحييها في هذه العشر الأوائل، بالتكبير والتهليل والتحميد، وهي سنة السلف الصالح أيضاً، فقد ورد أن ابن عمر وأبا هريرة رضي الله عنهما كانا إذا دخلا سوق المدينة رفعا صوتيهما بالتكبير والتهليل والتحميد فيكبر الناس لتكبيرهما.

فلنحرص على إحياء هذه السنة في أسواقنا وبيوتنا ومجالسنا وغدونا ورواحنا، ولا نلتفت إلى الأفكار التي ترفضها وتأباها تحت ذريعة البدعة.

كما علينا أن نغتنم هذه الأيام في الصيام وقراءة القرآن وحضور صلاة الجماعة، وقيام الليل، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يترك 11 أو 13 ركعة في كل ليلة.

كل أعمال البر مضاعفة، وسبيلها كثيرة، فلنزين هذه الأيام العشر بها، ولنكثر منها، ولنحييها ولنستثمرها لعلنا نكن من الفائزين المفلحين.

الخطبة الثانية:

حرم أهل هذا البلد العزيز من مواطنين ومقيمين في هذا العام من أداء مناسك الحج، ولكن إذا نوينا الحج ثم منعنا يكتب لنا الأجر الكامل إذا صرفنا نفقات الحج في هذه الأيام العشر على الفقراء والمساكين، وقد فعل ذلك كثير من السلف الصالح دون أن يمنع، فكيف بنا وقد مُنِعْنا؟

فمن أنفق تكاليف الحج على الفقراء في العالم الإسلامي، وما أكثرهم، كتب له أجر الحج التام، فقد ذكر ابن كثير في البداية والنهاية أن عبد الله بن المبارك رحمه الله  خرج مرة إلى الحج فاجتاز ببعض البلاد، فمات طائر معهم فأمر بإلقائه على مزبلة هناك، وسار أصحابه أمامه وتخلف هو وراءهم، فلما مر بالمزبلة إذا جارية قد خرجت من دار قريبة منها، فأخذت ذلك الطائر الميت ثم لفته، ثم أسرعت به إلى الدار، فجاء فسألها عن أمرها وأخذها الميتة، فقالت: أنا وأخي هنا ليس لنا شيء إلا هذا الإزار، وليس لنا قوت إلا ما يلقي على هذه المزبلة، وقد حلت لنا الميتة منذ أيام، وكان أبونا له مال، فظُلم وأخذ ماله، وقتل، فأمر ابن المبارك برد الأحمال، وقال لوكيله: كم معك من النفقة؟ قال: ألف دينار. فقال: عد منها عشرين دينارا تكفينا إلى مرو وأعطها الباقي، فهذا أفضل من حجنا في هذا العام، ثم رجع.

الهم أصلح أحوالنا

10 / 8 / 2018م