أيها الإخوة المؤمنون

إن الله سبحانه وتعالى جعل للإسلام أركاناً وأعمالاً صالحة، وجعل للإيمان ثماراً طيبة، وهذه الثمار هي الأعمال الصالحات التي يقوم بها الإنسان في هذه الدنيا، لتكون زاده في الآخرة، فما أحوجه إلى هذا الزاد في هذا الطريق الطويل، الذي يبدأ بالموت وينتهي بعدها إما بالجنة وهؤلاء هم الفائزون، وإما بالنار وهؤلاء هم الخاسرون، مهما كانت رتبهم في الدنيا ومهما كانت درجاتهم في الدنيا ومهما كانوا يتمتعون بالشهوات، فما أقل هذه الشهوات، وما أقل وأضعف هذه الشهوات حينما تقارن بنعم الجنة.

فالأعمال الصالحات بنظر الإسلام لا تنحصر في الصلوات والزكاة والحج والصيام على الرغم من أنها هي التي تمثل أركان الإسلام،  وإنما الأعمال الصالحات هي الالتزام بجميع ما أمر الله تعالى به والانتهاء والامتناع عن جميع ما نهى الله عنه.

وإذا قرأنا القرآن الكريم نجد أن أكثر الآيات التي تأمر وتنهى هي في مجال العلاقات الإنسانية وفي مجال العلاقات الاقتصادية والاجتماعية وعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان المسلم وغير المسلم بل علاقة الإنسان ببيئته والأرض وما يدور حولنا.

ولو قرأنا القرآن الكريم لوجدنا أن الأوامر والنواهي متجهة إلى هذه العلاقات أكثر بكثير من الأوامر والنواهي التي تتجه نحو تنظيم العلاقة بين الإنسان وربه، بل حتى هذه الأوامر والنواهي التي جعلها الله سبحانه وتعالى من العبادات والأركان ربطها كذلك بإصلاح العلاقة بينك وبين أخيك الإنسان، فالصلاة أعظم الشعائر ربطت ( إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر)، و الزكاة أيضاً من أعظم الأركان ربطت بزكية النفوس وتطهير القلوب من الجشع والطمع والحسد وغير ذلك ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) وهكذا جميع أركان الإسلام.

فجميع الأعمال الصالحات التي يعملها الإنسان في أي حقل من الحقول فهي كلها عبادات إذا أخلصنا النية لله سبحانه وتعالى وأردنا أن نخدم بها أنفسنا ونخدم غيرنا ونلتزم ونحقق طاعات الله ونطيع الله في أوامره ونواهيه، ولذلك نرى هذا الخلط العجيب بين الأعمال الدنيوية التي تسميها الحضارات المدنية بالأعمال الدنيوية، وبين الأعمال الأخروية التي تسميها الحضارات الرهينة بهذا الاسم، وكلها داخلة بنظر الإسلام في الأعمال الصالحات.

 فنجد هذا الخلط في معظم الآيات القرآنية، ولو قرأنا سورة الجمعة على سبيل المثال لوجدنا هذا الخلط العجيب العظيم في الوقت نفسه حيث يأمرنا الله بأمرين في قضية ما يسمى بالأعمال الأخروية ( إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله) هذا الأمر الأول (وذروا البيع ) اتركوا البيع ثم بعد ذلك مباشرة ( فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله) أمران متقابلان، الأمران الأولان مرتبطان بوقت محدود وهو وقت صلاة الجمعة، بينما الأمران الآخران أكثر توسعاً (إذا قضيت الصلاة) أي مباشرة انتشروا في الأرض للعمل والكسب في كل مجالات الحياة، ولكن أيضاً (وابتغوا من فضل الله) أي أن تكون هذه الأعمال أو هذا الانتشار في الأرض في هذه الأنشطة والأعمال في أي مجال كانت، مشروطة بأن تحقق النتيجة المرجوة لأن المفسرين جميعاً قالوا في تفسير { من فضل الله } أي ابتغوا الأرباح والنتائج الإيجابية التي تنتج من أعمالكم.

فيتضمن هذا الأمر أمراً آخر نحن المسلمين أو معظم المسلمين غفلنا عنه وهو التخطيط لما يحقق الربح، فحينما تصنع أو تزرع أو تعمل في أي عمل من الأعمال يجب أن تكون أعمالك مرتبطة بتحقيق فضل الله من حيث الربح والنتائج الإيجابية لك و لغيرك داخل مجتمعك المسلم .

هذا الخلط أو هذه الزوجية هي مرتبطة بهذه الشريعة التي تجمع دائماً بين الأمرين، بين العناية بالظاهر والعناية بالباطن، و بين العناية بالدنيا والعناية بالآخرة، وبين العناية بالأوامر و النواهي، والأنشطة المادية كلاهما مطلوب وهذه هي الزوجية التي خلق الله الإنسان عليها، بل العمر كله قائم على هذه الزوجية (سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون) هذه الزوجية في كل الأنواع، وقد جعل الله الشريعة تعالج هذه الزوجية في حياة الإنسان، ولذلك فشلت الأنظمة المادية في تحقيق السعادة للداخل وفشلت الأنظمة الرهبانية فقط لتحقيق السعادة لظاهر البدن وللمجتمع وللحضارة فيأتي الإسلام ليجمع بين هذين النظامين والأمرين، الأمر الذي يتعلق بالداخل والأمر الذي يتعلق بالخارج ليكونا متناسقين مع هذا الكون الذي خلقه الله زوجاً وخلق الله على أساس الزوجية كما أثبته العلم الحديث وكما قاله القرآن الكريم قبل أكثر من 1400 سنة.

هذه الأعمال الصالحات بهذه الصورة العامة ربط الله بينها وبين النجاة (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً) فالنجاة التي كتبها الله للإنسان مشروطة بهذين الشرطين؛ الشرط الأول: أن يكون هذا العمل صالحاً مشروعاً، والعمل الصالح هو العمل النافع، وليس فيه ضرر لا لنفسك – سواء كان لداخلك أو خارجك- ولا لغيرك من إنسان أوحيوان أو بيئة، أما العمل الذي فيه ضرر هو العمل الذي حرمه الله، ولذلك بين الله وظيفة هذا الرسول العظيم  في هذين الأمرين الأساسيين ( يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث) حتى لم يقل رب العالمين يحل لهم الطيبات التي أحلها الله أو يحرم الخبائث التي حرمها الله، وإنما الطيبات أباحها الله هي المتناسقة مع طبيعة الإنسان المتناسقة مع الشريعة، فكل ما فيه مصلحة حقيقية ومنفعة حقيقية وهو من الطيبات فهو من المباحات؛ فالأصل في الأشياء الإباحة، وكل ما هو خبيث أو هو ضرر ومفسدة فهو الذي حرمه الله سبحانه وتعالى.

هذه الشريعة بهذه العقلية المفتوحة يفتح المجال للمسلمين ليعملوا في هذه الأرض وهم عابدون لله فكما أنهم عابدون حينما يجاهدون ويقاتلون ضد الأعداء كذلك هم عابدون وهم يعملون وهم في محراب العبادة حينما يصنعون ويعملون ويتاجرون ويزرعون ويدرسون.

و لقد أزاح هذه الفكرة الخطيرة عند المسلمين منذ عصر الصحابة،حينما ظن البعض أن الجهاد فقط هو الأساس،فقال الله تعالى ( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ) والنفرة تستخدم في الجهاد، و لاسيما جهاد الدفع، وهذا أعظم أنواع الجهاد فهذه النفرة أطلقها الله سبحانه وتعالى على التفقه في الدين وكلمة التفقه في الدين لم تكن خاصة بهذا الفقه الذي نحن نسميه، بل كانت معنى كلمة الفقه أوسع بكثير مما عليه اليوم، فالفقه كان يقصد به التفقه في كل ما يحتاج إليه منظومة الحياة ومنظومة الحياة تحتاج إلى فقه سياسي واجتماعي وزراعي وفي التصنيع وكل ذلك داخل في هذا الفقه.

هذه الأعمال الصالحات بهذا المعنى وبهذه الزوجية وبهذا المزج العظيم الذي لا تسطيع أن تفرق بين أجزائه هذا الذي بنى حضارة الإسلام خلال أقل من 150 سنة.

ويقول المحللون إن الطفرة التي تحققت للأمة خلال 150 سنة ما كانت الأمم الأخرى تستطيع أن تصل إليها بألف سنة؛ لأن المسلمين استطاعوا أن يستخدموا المنهج التجريبي والمنهج الجامع وتوزيع الأدوار على الأمة، فالكل يعمل في مجاله، والكل يعمل لأجل أمته، ولم تكن الأمة تبحث عن مشاكل أخرين، وعن صراعات داخلية تضر بنا ولا تنفعنا.

ما أحوجنا اليوم إلى العودة إلى هذا الفهم الصحيح وإلى بذل المزيد في هذين النطاقين؛ في نطاق الأعمال التي تسمى حقيقة بالشعائر التعبدية، وفي نطاق الأخلاق، فكل عمل صالح يعمل به ويراد به وجه الله فهو عبادة، ولكنه هناك بعض الفروق بين هذين النوعين من العبادات، النوع الأول الشعائر التعبدية المتمثلة بالأركان الخمسة والعقيدة والإيمان والإسلام فهذا هو الاساس لإصلاح هذا الانسان؛ لأنه بدون هذه الأسس لا يمكن أن يكون الإنسان صالحاً، فهذه العبادات تصلح الإنسان وتجعله صالحاً؛ لأن كلها مربوطة بالأخلاق وبالقيم، وكلها ليست عبادات شكلية كما كانت العبادات لدى الآخرين، فقد أصبحت العبادات عندهم طقوساً، ونحن ليس عندنا طقوس بل عندنا صلاتنا مرتبطة بالقيم وبالعمل الصالح وكذا كل العبادات، فَحوَّل الإسلام العبادات إلى طاقات مفجرة عند الإنسان بالإضافة إلى الأجر والثواب عند الله، تدفع بالإنسان إلى الخير وحب الإنسان وحب الكائنات التي خلقها الله لأجلنا.

كان المسلمون الأوائل يتسابقون في هذه العبادات أما اليوم في معظم الأحيان أصبحت العبادات مجرد طقوس، وهذا لا ينفع بل لابد أن تكون لهذه العبادات من آثار تفجر  وتحرك، فقيمة الإيمان في تأثيره في نفسك وعملك وعلى أخلاقك وتعاملك ولذلك اشترط فيها من خلال الكتاب والسنة شرطان أساسيان؛ الشرط الأول: أن يؤدى وفق أحكام الشريعة، والثاني: أن تكون خالصةً لله سبحانه وتعالى، وهذا الخلوص يبعدك عن الرياء والنفاق، فالصلوات مثلاً تجعل منك رجلاً  ذا حكمة وشجاعة، تقول الحق وتعمل به، وهكذا بقية العبادات، والخطورة تبرز عندما تؤدى هذ العبادات بأشكالها دون روحها وقيمها، لذا يجب أن نتعود في العبادات أن لا تُدخل في قلبنا سوى الله سبحانه وتعالى، متقدين في ذلك بالسلف الصالح إذ كانوا مبدعين في الجهاد، مبدعين في الأعمال والعبادات، كانوا يقومون الليل ( يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً * نصفه أو انقص منه قليلاً) متبعين بذلك آثار النبي  ،إذ كان يقوم الليل ويطيل حتى تتورم قدماه.

وكانوا يتسارعون ويتسابقون في الخيرات يقول الله ( إن المتقين في جنات وعيون آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون ) هم محسنون يبذلون كل ما عندهم في الأعمال الصالحات، ولا ينامون من الليل إلا قليلاً، ولما يأتي الصبح يستغفرون ويخافون أن لا تقبل طاعاتهم، أو أن يكون قد شابها شيء من الكبر أو الرياء،  ( والذين يؤتون ما آتوا ) أي يعطون كل ما آتاهم الله (وقلوبهم وجلة أنهم الى ربهم راجعون)  ولذلك وصفهم الله بأنهم يسارعون في الخيرات.

فما أحوجنا إلى هذه الجدية والمسارعة والتسابق في الأعمال الصالحات من الأنشطة الاجتماعية والخيرية وما أحوج الأمة إلى أعمالكم وإعلامكم وإلى المصالحات الحقيقية.

الخطبة الثانية

إذا كانت منزلة الأعمال الصالحات بهذا المعنى الشمولي الحضاري هي ما يطلبها الإسلام في جميع الأوقات، واشتدت حاجة الأمة في عصرنا الحاضر الذي كثر فيه المحتاجون إلى كل هذه الأعمال، فأمتنا لا ينقصها شيء غير الإرادة.

 والطغاة يمنعون هذه الإرادة، فدولة مثل كوريا تصل خلال 30 سنة  إلى ما وصلت إليه، بينما أمتنا الإسلامية سوى بعض الدول تتأخر، ومرد ذلك أننا لا نعمل الأعمال المطلوبة؛ لأننا لا نخلص العمل لله، فبداية التحرر ربط الإنسان بالله، فسجدة للرب تغنيك عن ألف سجدة لغير الله، فلو أن قضية الإخلاص لله والتفويض إلى الله راسخ في قلوب الجميع، وخاصة الحكام لما وصلنا إلى وصلنا إليه، فما الكرسي وما الأموال وما الأقدار والأرزاق كلها بيد الله؟ فلماذا أخضع لغير الله؟ وكيف أستعين بغير الله؟ وكيف أستعين بالكفرة؛ لأجعلهم أولياء لي في النصرة! استغقر الله هذا كفر خطير جداً، فلابد من التربية على الإخلاص لله الذي يجعل الإنسان صامداً لا يضحي بعلاقته مع الله لأي شيء، وهي قمة العزة والكرامة، وبغير هذا الإيمان يصبح الإنسان ضعيفاً وذليلاً (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين).

فالخطورة تكمن في إضعاف هذا الإيمان في النفوس، فعلينا أن نغرس هذا الإيمان في قلوبنا وقلوب أبنائنا وبناتنا، فذلك طوق النجاة وسفينة الخلاص.