أيها الإخوة المؤمنون

إن من الأمراض الخطيرة التي تصيب القلب، والتي تحدثنا عن بعضها في الخطب السابقة، والتي تؤثر على الإنسان وسعادته في الدنيا والآخرة" مرض الغضب" ، الحدة، والشدة، الغضب الذي هو شعلة من نار وجمرة من نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة؛ فتفسدها، وهو مستخف ومستكن في باطن الفؤاد استكنان الجمر تحت الرماد، ويستخرجها الكبر الدفين في قلب كل جبار عنيد، كما يستخرج الحجر النار من الحديد.

والغضب له قرابة مع الشيطان؛ لأن الشيطان خلق من نار، والغضب في جوهره شعلة موقدة من النار، وشأن النار التلظي والاستعار والحركة والاضطراب، وحينما يغضب الإنسان يفتح للشيطان أبواب نفسه إلى الشرور والسيئات.

ولقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من الغضب، حيث جاءه سائل وقد قطع الأميال الطويلة يسأله:"  يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْ لِي قَوْلًا وَأَقْلِلْ عَلَيَّ لَعَلِّي أَعْقِلُهُ قَالَ لَا تَغْضَبْ فَأَعَادَ عَلَيْهِ مِرَارًا كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ لَا تَغْضَبْ". لأنه صلى الله عليه وسلم علم من حال السائل أنه يرتكب المنكرات حال الغضب، وهذه نصيحة جامعة شاملة له.

ولقد جاءه سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ قائلاً:  "  يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْ لِي قَوْلًا أَنْتَفِعُ بِهِ وَأَقْلِلْ ، قَالَ : لَا تَغْضَبْ ، وَلَكَ الْجَنَّةُ " وَفِيهِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ " قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ ، قَالَ : لَا تَغْضَبْ ".

وذلك لأن الإنسان إذا غضب وركب موجته أتى منكراً من القول وزوراً، وفعل سوءاً وإمراً، وظهرت العصبية والعنصرية وسواهما من الأمراض التي توهن المجتمع وتضعفه.

ولقد اعتبر الإسلام أن القوي الشديد هو الذي يتحكم في نفسه فيكظم غيضه، ويخمد نيران الغضب في قلبه، والذي لا يغض إلا لله تعالى، وإذا غضب في الله تصرف وفق منهج الله ورسوله صلى الله عليه وسلم،  "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا تَعُدُّونَ الصُّرَعَةَ فِيكُمْ قَالُوا الَّذِي لَا يَصْرَعُهُ الرِّجَالُ قَالَ لَا وَلَكِنَّهُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ".

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ".

ولقد روى الطبراني وغيره:" من كف غضبه ستر الله عورته".

وقال سليمان لابنه عليهما السلام:" يا بني، إياك وكثرة الغضب، فإن كثرة الغضب تستخف فؤاد الرجل الحليم".

ولقد وصف الله تعالى سيدنا عيسى عليه السلام بقوله: { وَسَيِّدًا وَحَصُورًا} قال عكرمة: معنى ذلك هو السيد الي لا يغلبه الغضب.

ولقد روى ابن أبي الدنيا : أن ذا القرنين لقي ملكاً من الملائكة فقال له: علمني علماً أزداد به إيماناً ويقيناً، قال: لا تغضب، فإن الشيطان أقدر ما يكون على ابن آدم حين يغضب، فرُدَّ الغضب بالكظم، وسكنه بالتؤدة، وإياك والعجلة، فإنك إذا عجلت أخطأت حظك، وكن سهلاً ليناً للقريب والبعيد، ولا تكن جباراً عنيداً".

الغضب مفتاح كل الشرور، ورأس كل الحماقات، والواجب على المسلم أن يتحلى بترك الغضب، وأن يكظم غيظه كما أمره الله تعالى بذلك، حيث جعل الله تعالى كظم الغيظ من صفات المحسنين، الذين يفوزون بجنة عرضها السموات والأرض، وكظم الغيظ موجب لرحمة الله ورضوانه، قال تعالى: { وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.

أما الغضب فإذا سار معه الإنسان فإنه يؤدي به إلى كثير من الحماقات والمشاكل داخل الأسرة وخارجها، ومعظم مشاكل الأسرة من طلاق وفراق وهجر يعود سببها في الغالب إلى حالة الغضب، إذ يغضب أحد الزوجين ولا يتحكم في نفسه فيطلق أو يهين الطرف الآخر وغير ذلك من التصرفات الرعناء التي تهدد كيان الأسرة، ولقد وصلت نسبة الطلاق في معظم دول الخليج إلى أكثر من 37 % في السنة الأولى أو الثانية من الزواج، وهذه كارثة كبرى.

وكذلك معظم مشاكل الجيران موقدها الغضب الذي لا ينظر الإنسان معه إلى تصرفاته فيهين ويجرح، ويتفوه بكلمات تقوده إلى ذل الاعتذار والتأسف والندم.

بل إنني أقول إن معظم ما يحصل في بلاد العرب مصردها الفردية في الحكم، ولا تقود على الشورى، والشخص الواحد الحاكم أو من معه إذا غضب أصدر ما يدمر العباد من قرارات غير مدروسة، فمعظم حكامنا فريدون مستبدون لا يسمعون إلى النصح والإرشاد، أما مستشاروهم فهم بمثابة صغار الموظفين، يخدمونهم ويصدقونهم ويشيدون بتصرفاتهم وعلى أنها القمة في الرقي مهما فعلوا، ومن هنا نزلت بنا المصائب والتي لا طاقة لنا بها، وأما في بلاد الغرب فهناك قوانين ودساتير يلتزمون بها، وهناك جهات ومؤسسات رقابية على الحاكم وتصرفاته، فلا يمكن للحاكم أن يتعامل حسب غضبه وأهوائه، ونحن أولى بهذا القانون والالتزام منهم، ولقد طبق ذلك الخلفاء الراشدون، ومن بعدهم الخليفة العادل خامس الخلفاء الراشدين، عمر بن عبد العزيز، حيث كتب إلى القضاة والمفتين وولاة أمر المسلمين في الأمصار والمدن:" أن لا يحكموا ولا يفتوا في حالة الغضب، ومن فعل ذلك يحاسب حساباً عسيراً أمام الخليفة".

إن الغضب قريب من الشيطان ومدخله إلى كل السيئات والفتن، ولقد وردت في بعض الآثار أن أحد الرهبان قال للشيطان أي أخلاق بني آدم أعون لك عليهم؟ قال: الحدة، إن الرجل إذا كان حديداً قلبناه كما يقلب الصبيان الكرة.

مشكال هذه الأمة أنها لا تسير وفق منهج الله تعالى خاصة في مجال السلوك، إذ أصبحت معظم شعائرنا مجرد طقوس تؤدى ولا أثر لها في تصرفاتنا، نترك كل أمر لله وللرسول صلى الله عليه وسلم، ونسارع إلى تحقيق رغباتنا وإشباع غرائزنا ونميل مع أهوائنا دون تدبر في المآل، أو بلا دراسة للنتائج.

علاج الغضب

لم يترك الإسلام هذا المرض دون علاج، بل وصف النبي صلى الله عليه وسلم علاجاً ناجعاً لو اتبعه الفرد الواحد منا لشفي قلبه من هذه الأمراض التي تفتك بإيمانه وإسلامه، وتمحق سلوكه وأخلاقه، وعلاج الغضب هو الآتي:

الابتعاد عن الأماكن التي يثار فيها المرء، والتي تسبب له الغضب، وهذا هو الجانب العملي.

الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وتذكر سيرته العطرة، وما تعرض له من مواقف أثارت غضبه وكيف تصرف، وهذا أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يروي موقفاً من تلك المواقف، "قَالَ كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَذَبَهُ جَذْبَةً شَدِيدَةً حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَثَّرَتْ بِهِ حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَذْبَتِهِ ثُمَّ قَالَ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ".

السكوت عند إثارة الغضب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا غضب أحدكم فليسكت ) وذلك أن الغضبان يخرج عن طوره وشعوره غالباً فيتصرف بما لا تحمد عقباه.

 السكون، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس ، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع"، ولقد طبق أبو ذر هذا الحديث،:فقد كان يسقي على حوض له فجاء قوم فقال : أيكم يورد على أبي ذر ويحتسب شعرات من رأسه ؟ فقال رجل أنا فجاء الرجل فأورد عليه الحوض فدقّه أي كسره أو حطّمه والمراد أن أبا ذر كان يتوقع من الرجل المساعدة في سقي الإبل من الحوض فإذا بالرجل يسيء ويتسبب في هدم الحوض، وكان أبو ذر قائماً فجلس ثم اضطجع فقيل له : يا أبا ذر لم جلست ثم اضطجعت ؟ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس ، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع".

الاستعاذة، عن سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ قَالَ كُنْتُ جَالِسًا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجُلَانِ يَسْتَبَّانِ فَأَحَدُهُمَا احْمَرَّ وَجْهُهُ وَانْتَفَخَتْ أَوْدَاجُهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ لَوْ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ فَقَالُوا لَهُ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ فَقَالَ وَهَلْ بِي جُنُونٌ".

الوضوء، قال صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ الْغَضَبَ مِنَ الشَّيْطَانِ ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنَ النَّارِ وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ ، فَإِذَا أُغْضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ".

هكذا عالج الإسلام مسألة الغضب، ولو التزمنا بذلك لحلت مشاكلنا كلها، ولصلحت أحوالنا، وما يثور بين الأمة اليوم من مشاكل ما هي إلا من وراء حقد دفين أو حسد ملتهب، أو غضب يثور، وإذا صلح الفرد صلحت الأمة، وصلح الحكام، وانتقلت الأمة من ضعف إلى قوة، ومن هوان إلى سيادة وعزة.

الخطبة الثانية:

المطلوب من كل إنسان أن ينظر في داخل نفسه، وأن يجلس معها وينظر في عيوبها، وأن يخصص لعلاج تلك العيوب وقتاً من يومه، قبل أن يدركه الموت، فيندم ولات ساعة مندم.

لأن هذه الجلسات العلاجية تتجه بنا إلى أن تكون أنفسنا لوامة، نلومها على التقصير ونلومها على التفريط.

فإذا فكرنا في أنفسنا ولا سيما في مجال أمراض القلوب، وبخاصة في مرض الغضب دفعنا ذلك إلى التأمل والتفكير في العلاج، حتى لا نتفاجأ يومياً بمشاكل لا تعد ولا تحصى، تضيق بها النفوس، وتضيق الأرض على أصحابها بما رحبت.

فالعلاج الشامل هو التفكر في إصلاح العيوب، ومحاسبة الأنفس قبل الوقف بين يدي الله تعالى يوم العرض والحساب، كما يطلب منا التدبر في آيات الله تعالى وتصرفاتنا والالتجاء إلى الله تعالى بالدعاء فإنه مخ العبادة، وهو الحصن الحصين الذي يحفظ به الإنسان نفسه من المعاصي والأمراض.

اللهم أصلح أحوالنا

17 / 11 / 2017 م