قاعدة النسبية ( أو التخفيض النسبي ) على ضوء قواعد ومبادئ الفقه الإسلامي :

  اتضح لنا في العرض السابق أن المبدأ العام للتعويض في التأمين من الأضرار يقوم على استحقاق المؤمن له ، أو المشترك المستأمن الأقل من قيمة الضرر ، ومبلغ التأمين أيهما أقل ، وأن القاعدة النسبية جاءت لتخصص هذا المبدأ في حالة الهلاك الجزئي الذي يكون تقديره وقت الهلاك أكبر من مبلغ التأمين ، وحينئذٍ تعمل قاعدة النسبية عملها في مراعاة التناسب بين قيمة الهلاك والأقساط المقدرة على أساس التقويم السابق ، فلنضرب مثالاً آخر هنا أيضاً وهو أن (أ) أمن على منزله ضد الحريق على أساس أن قيمة منزله مائة ألف دينار ، وعلى هذا الأساس قدرت الأقساط بأنها ألفا دينار ـ مثلاً ـ ثم احترق المنزل كله ، ففي هذه الحالة يقوم الخبراء بتقويم المنزل وقت تلفه الكلي فإذا كان أقل من مائة ألف (مبلغ التأمين) فتعطى للمؤمن له القيمة المقررة ، وإذا كانت مساوية أو أكثر من مبلغ التأمين ، فيعطى له المبلغ وهو مائة ألف دينار ، ففي هذه الحالة ليس هناك مجال لتطبيق قاعدة النسبية ، وإنما مجالها ـ كما سبق ـ فيما إذا كان الهلاك جزئياً فلنفرض انه كان بنسبة 50% وأن قيمة المنزل يوم الهلاك هو مائة وعشرون ألف دينار ، فعلى ضوء ظاهر المبدأ العام أنه يستحق نصف القيمة وهو ستون ألف دينار ، لأنه أقل من مبلغ التأمين ، ولأنه هو قيمة الضرر الواقع فعلاً يوم الهلاك ، ولكن قاعدة النسبية تتدخل لتقضي بدفع مبلغ يوازي النسبة بين المبلغ المؤمن به (وهو مائة ألف) وبين قيمة المنزل ، وبما أن قيمة المنزل وقت التأمين قد حددت بمائة ألف وأن الأقساط أخذت على هذا الأساس ، وأن الهلاك هو 50% ، وأن هذه النسبة 50% من مبلغ التأمين هي خمسون ألف دينار ، فإن الذي يجب دفعه هو هذا المبلغ ، وليس ستين ألف دينار .

  هذا المبدأ ـ كما رأينا ـ مبدأ يحقق العدالة والمساواة بين جميع المؤمن لهم (المستأمنين) سواء أكان بعضهم قد هلك جزء من المؤمن عليه ، أم هلك كله فلا ينبغي التفرقة بينهما بل إن هذا المبدأ فيه العدالة لتحقيق قاعدة الغرم والغنم ، فما دام دفع الأقساط كان مربوطاً بالأقساط فإن من العدالة رعاية هذا الجانب في التأمين التجاري .

  أما في التأمين التعاوني الإسلامي فإن مبناه على التبرع وليس على المعاوضة ، وأن أساسه على التعاون وليس على التخاصم والمساومة والتنازع ، وان المؤمن ، والمشترك (المؤمن لهم ، المستأمن) في الحقيقة والجوهر واحد ، وأنهما مختلفان من حيث الاعتبار ، فالأموال جمعت من المشتركين وأودعت في حساب التأمين التعاوني ، ثم تؤخذ منها لكل من وقع عليه ضرر من هؤلاء أنفسهم (فالأموال منهم وإليهم ، والفائض أيضاً يوزع عليهم) [36] .

 وبناء على ذلك نقول :

أولاً : أن قاعدة النسبية أو التخفيض النسبي لا مانع شرعاً من اعتبارها وإدخالها ضمن عقود شركات التأمين الإسلامي باعتبارها تحقق مبدأ العادلة والمساواة ،وأنها إذا أدخلت كشرط مقترن بالعقد فهي من الشروط المباحة التي لا تتعارض مع نص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والإجماع ، ولا مع مقتضى عقد التأمين التعاوني ، لأنها شرط منظم لقضية التوزيع ، وما دام الأصل في العقود والشروط الإباحة ـ كما سبق ـ فإن اشتراط النسبية لدى تعاون حساب التأمين بتحمل الضرر عن المشترك ، ودفع الضرر الناتج عن الهلاك الجزئي شرط يجب الالتزام به والوفاء به للأدلة الكثيرة الدالة على وجوب الوفاء بالعهود والاشتراطات والعقود منها قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)[37] وقوله تعالى : (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً) [38] وأدلة أخرى من السنة والآثار [39].

 فقاعدة النسبية تتناسب مع عدالة التوزيع بين المشتركين في التأمين التعاوني أكثر من التأمين التجاري ، وذلك لأن التعويضات كلها تعطى من حساب المشتركين الذي تتجمع فيه أقساطهم ، ولا تدفع من ذمة الشركة المؤمنة كما هو الحال في التأمين التجاري الذي تتملك الشركة فيه الأقساط لنفسها وأصبحت مالكة لها ، وأنها حينما تدفع مبلغ التأمين فإنها تدفعه من مالها المملوك لها ومن ذمتها المالية ، أما في التأمين التعاوني فالشركة وكيلة فقط فلا تتملك الأقساط ، كما أنها لا تدفع مبلغ التأمين من مالها ، ومن هنا فالرصيد المشترك (حساب التأمين) للمشتركين المستأمنين يتأثر بما يدفع زيادة أو نقصاناً ، وحينئذٍ فالعدالة تقتضي أن لا يعطى المشترك في التامين البخس (الذي قوم المؤمن عليه بأقل من قيمته) في حالة الهلاك الجزئي مبلغاً أكثر مما قدر به في البداية ، وذلك لأنه في هذه الحالة لم يتعاون تعاوناً عادلاً ، حيث لم يدفع فيه قسطاً عادلاً، وإذا دفع له حسب ظاهر مبدأ التعويض فقد تساوى هو ومن دفع الأقساط كاملة وكان في عقده شفافية واضحة قدر فيها المؤمن عليه تقديراً لم يتغير في وقت هلاكه ، وهذه المساواة في المعاملة بين هاتين الحالتين تتنافى مع عدالة التوزيع ، وبالأخص فإن الحساب المشترك (حساب التأمين) يتأثر بهذه الزيادة ، وغيرها في حالات الهلاك الجزئي في التأمين البخس.

  ومن جانب ثان فإن التأمين التعاوني أيضاً يعتمد على الإجراءات الفنية والحسابات الاكتوارية والاحصائيات الدقيقة في احتساب الأقساط ومن المؤكد يدخل فيها تناسب القسط مع الخطر ، وبالتالي تناسب مبلغ التأمين مع القسط المدفوع ، وحينئذٍ لو مضينا على ظاهر المبدأ العام للتعويض أدى إلى ذلك إلى أن يأخذ المشترك المستأمن في حالة الهلاك الجزئي في التأمين البخس أكثر مما يستحقه لذلك تتدخل قاعدة النسبية لتوقف عدم التناسب ، وعدم العدالة في هذه الجزئية [40]، ولذلك شبهتها بالاستحسان لدى الحنفية عندما لا يحقق المبدأ العام ، أو القاعدة العامة العدالة في جزئية من جزئياتها فيتدخل الاستحسان فيستثني هذه الجزئية بالاستحسان .

 ومن جانب ثالث فإن قاعدة النسبية تبررها الاعتبارات الأخلاقية والتربوية من حيث إنها تؤدي إلى حرص المشترك على التقييم العادل ، وعلى منع تحقق الخطر المؤمن منه لأنه يعلم أنه لن يستطيع الحصول على كامل قيمته حيث يتحمل جزءاً متمثلاً في باقي قيمة الجزء الهالك .

 ومن هنا فإن قاعدة النسبية تستهدف إلى عدم جعل التأمين أسلوب ربح وإثراء لدى المشترك ، ذلك أنه من المبادئ العامة في التأمين بنوعيه التعاوني والتجاري أن لا يؤدي التأمين إلى تحقيق ربح وإثراء للمشتركين المستأمنين ، وذلك لأن مبنى التأمين في التأمين التعاوني يقوم على التعاون ، وهذا المبدأ يتعارض تماماً مع تحقيق الربح والإثراء على حساب الغير ، وكذلك يقوم التأمين التجاري على تفتيت المخاطر بين المستأمنين كما أن التأمين من الأضرار يقوم على مبدأ التعويض العادل وكلا المبدئين مخالف للربحية والإثراء على حساب الغير [41].  

ثانياً : أن قاعدة النسبية (أو التخفيض النسبي) إن كانت مشروطة في العقد فيجب احترامها والالتزام بها ، وإن وجد نص قانوني بها فهذا نص يحسم النزاع ، لأنه لا يتعارض مع نصوص الشريعة والإجماع ، ومقتضى عقد التأمين ـ كما سبق ـ وبالتالي فهو نص يحترم ، بل يحسم النزاع ويحقق المرجعية في ذلك .

  ومع ذلك فإن هذه القاعدة ليست من المبادئ العامة للتأمين أو ما يسمى بالنظام العام ، فلا أرى مانعاً من تجاوزها واشتراط التعويض الكامل حسب قواعد مبدأ التعويض السابق وذلك من خلال النص على ذلك في العقد ، وحينئذٍ تستبعد قاعدة النسبية لدى الهلاك الجزئي .

  ولكن يثور التساؤل حول ما إذا لم يكن في العقد نص على اشتراط التخفيض النسبي ، ولا على نفيه ، ولم يوجد كذلك نص قانوني على اعتباره أو عدمه ، فهل تلاحظ النسبية حينئذٍ أم يطبق المبدأ العام في التعويض ؟

 الذي يظهر لي أنه في هذه الحالة تطبق قاعدة النسبية أيضاً ، لما ذكرناه ، ولأنها أصبحت رعايتها عرفاً متبعاً في عالم التأمين على مستوى العالم ، ومن المعلوم أن العرف العام ، والعرف التجاري معتبر ، وأن المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً[42]  .

ثالثاً : أن قاعدة النسبية لا تطبق إلاّ في حالة الهلاك الجزئي ، وأن يكون مبلغ التأمين أقل من مقدار القيمة المؤمن عليها وقت تحقق الخطر ، وأن يكون المؤمن عليه مقوماً أو قابلاً للتقدير ، وحينما تتوافر هذه الشروط فإن قاعدة النسبية تطبق .

رابعاً : أن ما ذكر عن البدائل عن قاعدة النسبية لم يسلم عن نقد مسّ بنيانه ، بل هزّ أركانه ، وبالتالي فإن هذه البدائل المذكورة في الفرع السابق لا يمكن اعتبارها بدائل مقبولة لما ذكرناه في السابق .

خامساً : أن ما ذكر من الربط بالدلالة الاقتصادية ، أو الربط بمؤشر معين في حالة التضخم ، أو الانكماش لا يجوز اعتباره في التأمين التعاوني ، لأنه يؤدي إلى الجهالة والغرر ، كما أنه يؤدي إلى ربط الديون الآجلة بمؤشر معين حيث صدر قرار رقم 115(9/12) ونصه : ( لا يجوز شرعاً ا لاتفاق عند إبرام العقد على الديون الآجلة بشيء مما يلي :

أ‌.الربط بعملة حسابية

ب‌.الربط بمؤشر تكاليف المعيشة ، أو غيره من المؤشرات

ت‌.الربط بالذهب أو الفضة

ث‌.الربط بسعر سلعة معينة 

ج‌.الربط بمعدل نمو الناتج القومي

ح‌.الربط بعملة أخرى

خ‌.الربط بسعر الفائدة

د‌.الربط بمعدل أسعار سلة من السلع  

 وذلك لما يترتب على هذا الربط من غرر كثير وجهالة فاحشة ، بحيث لا يعرف كل طرف ما له وما عليه فيختل شرط المعلومية المطلوب لصحة العقود ، وإذا كانت هذه الأشياء المربوط بها تنحو منحى التصاعد ، فإنه يترتب على ذلك عدم التماثل بين ما في الذمة وما يطلب أداؤه ومشروط في العقد فهو ربا) [43] .

سادساً: أن التأمين من الأضرار [44] يقوم على صفة التعويض ، وان المبدأ العام في التعويض يقضي بأن يعوض المشترك المستأمن في التأمين من الأضرار الأقل من مبلغ التأمين ، وقيمة الضرر .

 وهذا المبدأ العام مناسب جداً لمبدأ التعاون والتكافل والتبرع الذي يقوم عليه التأمين التعاوني الإسلامي القائم على التبرع والتضحية ، وبالتالي فلا يجوز أن يكون التأمين سبباً لتحقيق الربح ، والإثراء ، والمبدأ السابق يحقق العدالة بشكل عام إلاّ في حالة ما تطبق فيه قاعدة النسبية التي تستكمل هذا الجانب ـ كما سبق ـ .

أ ـ ومن هنا فحينما يقضي هذا المبدأ بأن يعطى للمستأمن في حالة وقوع الخطر الأقل من مبلغ التأمين وقيمة الضرر فإنه يحقق الهدف المنشود ، ويجعل المستأمن حريصاً على عدم وقوع الخطر ، إذ لا يستفيد ، ولا يربح ، بل قد يتحمل جزءاً بسيطاً من آثار وقوع الخطر .

ب ـ أما ما ذكرته الورقة من حكم تعويض المشترك (المؤمن له) عن الضرر الذي لحق به بأكثر من قيمة الضرر ، فهذا يتعارض مع المبدأ العام المقرر في التعويض الذي ذكرناه ، ومع قاعدة النسبية ، كما أنه يتعارض مع أهداف التأمين العامة من التعاون وتفتيت المخاطر ، وأن لا يؤدي إلى الربح والإثراء إضافة إلى الصفة الأساسية للتأمين من الأضرار وهي الصفة التعويضية .

  وأن هذا المبدأ يعتبر من النظام العام الذي لا يجوز مخالفته وعليه النصوص الآمرة في القوانين العربية والغربية ، فقد نصت على ذلك المادة (751) من القانون المدني المصري فقالت : ( لا يلتزم المؤمن في تعويض المؤمن له إلاّ عن الضرر الناتج من وقوع الخطر المؤمن منه بشرط أن لا يجاوز قيمة التأمين)ويقابل هذا النص المادة (717) من القانون المدين السوري ، والمادة (989) من القانون المدني العراقي ، والمادتان (767،751) من القانون المدني الليبي ، والمادتان (956،955) من تقنين الموجبات والعقود اللبناني .

  فالتأمين من الأضرار يهدف إلى تعويض المؤمن له عن الضرر الذي يلحقه من جراء تحقق الخطر المؤمن منه ، لذلك لا بدّ أن يقتصر على تعويضه في حدود الضرر الذي لحقه دون أن يجاوز ذلك ، لأن إقرار أي زيادة فيه يؤدي إلى أن يكون التأمين مصدراً لإثرائه ، فلا يجوز أن يكون المؤمن له بفضل عقد التأمين في مركز أفضل بعد تحقق الخطر مما كان قبل تحققه ، فلا يجوز أن يتقاضى من المؤمن تعويضاً أكبر من مبلغ التأمين المذكور في الوثيقة ، ولا من قيمة الضرر الذي لحقه ، فهو إذن لا يتقاضى إلاّ أقل القيمتين ، يقول الأستاذ السنهوري : ( وهذه الصفة التعويضية لصيقة بعقد التأمين من الأضرار ، وقد ظهرت مع هذا العقد منذ ظهوره ، وأقرها العمل والقضاء منذ زمن بعيد)[45]  . 

والمبرر لذلك كثير ولكن أهمها مبرران هما

المبرر الأول : المبرر الأخلاقي الذي يؤدي إلى الحفاظ على هذا المبدأ حيث إنه إذا لم يقرر هذا المبدأ يخشى أن يتعمد المؤمن له إلى تعمد تحقيق الخطر المؤمن منه للحصول على قيمة أفضل مما عنده ، حيث يغريه تعمد اتلاف المال حتى يتحقق الخطر ، ويحصل على تعويض أكبر من قيمة الضرر الذي أصاب المؤمن عليه ، كما أن إخفاء تعمد الاتلاف ليس صعباً ، وبالتالي يمكن للمحترف أن يتلف عمداً دون أن يكشف أمره ، لذلك جرى العرف والتشريع والقضاء على الاكتفاء بإقرار هذا المبدأ حماية ، ودرءاً لمثل هذه الحيل .

المبرر الثاني : الخشية من المضاربة من خلال التأمين بمبلغ أكبر من القيمة .

 يقول الأستاذ السنهوري : ( ويتضافر هذان الاعتباران لتأكيد الصفة التعويضية للتأمين من الأضرار ، وجعل هذه الصفة من النظام العام ، لا يجوز الاتفاق على ما يخالف مقتضاها)[46]  .

  ويترتب على ذلك أنه لا يجوز للمؤمن له أن يتقاضى تعويضاً أعلى من قيمة الضرر ، وعلى العكس من ذلك يجوز أن يتقاضى تعويضاً أقل من قيمة الضرر ، وأن يشترط ذلك في العقد ، وأنه إذا تعددت عقود التأمين من خطر واحد فإنه لا يجوز للمؤمن له أن يجمع بين مبالغ التأمين الواجبة بهذه العقود ، بل يقتصر على تقاضي ما يعوض الضرر الذي لحق به دون زيادة ، إما من أحد هؤلاء ، أو منهم جميعاً على أن يقتسموا فيما بينهم هذا التعويض الذي قد يكون مستحقاً له في ذمة الغير ، ويحل المؤمن محل المؤمن له في الرجوع بهذا التعويض [47] .

 والخلاصة أن المشترك المستأمن لا يعطي له القانون والقضاء والعرف التجاري التأميني إلاّ اقل من مبلغ التأمين ، أو قيمة الضر المتحقق ، وهذا يعني أنه قد يحصل على التعويض الكامل إذا كانت قيمة الضرر لا تزيد عن مبلغ التأمين ، وقد يكون أقل إذا كانت أكثر منه حيث يحصل حينئذٍ على مبلغ التأمين ، لأن هذا المبلغ هو الذي حددت على أساسه الأقساط ، كما أن التزام المؤمن منحصر في حدود ذلك المبلغ ، وعليه فإن أداء المؤمن يتحدد بأقل القيمتين : مقدار الضرر ، ومبلغ التأمين

بعض الاستثناءات :

  يستثنى من هذا المبدأ ما تقضي به قاعدة النسبية ، وإن كان هذا الاستثناء عند البعض هو استثناء ظاهري ، لأن هذه القاعدة هي تطبيق لروح المبدأ العام في التعويض ، وجوهره .

  كما يستثنى من ذلك بعض أنواع التامين التي يكون من المتعذر تحديد حد أقصى لمبلغ التأمين كما هو الحال في بعض حالات التأمين من المسؤولية مثل التأمين من المسؤولية ضد حوداث السيارات ، حيث يقوم المؤمن في مثل هذه الحالات بالتعويض الكامل حسب قيمة الضرر بالغاً ما بلغ ، وذلك لعدم وجود تقدير لمبلغ التأمين في العقد [48]. 

ج ـ ولكن الذي يمكن أن يكون محل نقاش هو اشتراط التعويض الكامل عن قيمة المؤمن عليه وقت التلف مع قطع النظر عن مبلغ التأمين المقدر على أساسه أقساط التأمين؟

 فمن الناحية القانونية فهذا غير جائز إلاّ في حالات لا يمكن أن يحدد في العقود مبلغ التأمين ـ كما سبق ـ .

 ولكن من الناحية الفقهية لا أرى مانعاً من هذا الاشتراط في التأمين التعاوني ، لأن التأمين نفسه قائم على التعاون ، وأنه إذا أجيز هذا الاشتراط في النظام الأساسي للتأمين ، أو في عقوده فهذا أمر عائد إليهم ، فالأموال المتجمعة في حساب التأمين كانت من المشتركين ، وتصرف لصالحهم ، فلو أقروا ذلك لما وقعت مخالفة لشرع الله تعالى ، كما أن ذلك لا يتعارض مع مبدأ عدم الإثراء في التأمين ، وإنما هو عدل وحق ، فلو أدخل في النظام العام ، أو العقد وجب احترامه . هذا والله أعلم .

سابعاً : أن قاعدة النسبية أو التخفيض النسبي تتسم في القانون أو في التطبيقات القانونية بشيء من الجمود والوقوف عند حالة واحدة ، وبنوع من الصرامة دون الفرق بين حالة وحالة أخرى ، لذلك أرى مع قولي باعتبارها أن ينظر إلى جميع الحالات الناتجة من مخالفة تقدير الضرر في الهلاك الجزئي ، وقيمته عند الوقوع لمبلغ التأمين ، حيث حينئذٍ يلجأ إلى هذه القاعدة ـ كما سبق تفصيلها ـ ولذلك أذكر كل الاحتمالات لهذه المخالفة ، وعدم التوافق بين قمية الضرر وتقديره عند الهلاك وبين مبلغ التأمين الذي قدره المؤمن عند التعاقد ، وبنى على ذلك ما يجب دفعه من الأقساط ، حيث ان هناك عدة احتمالات وهي :

الاحتمال الأول : أن التقدير الأولي عند التعاقد كان سليماً وعادلاً ، ولكن حدث بعد ذلك ارتفاع في الأسعار ليس بسبب التضخم ، وإنما بسبب قانون العرض والطلب ، كما يحدث عندنا الآن في قطر حيث ارتفعت العقارات أضعافاً مضاعفة خلال السنتين الأخيرتين .

  ففي هذه الحالة لو حدث حريق أو هلاك يعطى مبلغ التأمين الذي هو أقل من قيمة الضرر باتفاق القانونين تطبيقاً للمبادئ العامة والنصوص القانونية الواردة في هذا الصدد ـ كما سبق ـ وهذا هو الراجح في نظري وذلك رعاية لمصلحة شركة التأمين حيث لو فتح هذا المجال لأدى ذلك إلى القضاء على أموالها أمام زيادة الأسعار ومضاعفاتها في بعض الأحيان ، إضافة إلى مبدأ العدالة الذي يلاحظ فيه النسبية والتناسب بين القسط ومبلغ التأمين وقت إنشاء العقد ، إضافة إلى أن المقصود الأسمى من التأمين هو التعاون وتفتيت المخاطر بحيث يكون تحملها معقولاً وليس بالضرورة أن يتحمل المؤمن ، أو حساب التأمين التعاوني كل المخاطر وان يعطى المؤمن له أو المشترك كل قيمة أضراره.

   ومن جانب آخر ، ومن باب فقه الموازنات والأولويات فإن الحفاظ على الشركة أو حساب التأمين وإبعادها عن هذه التقلبات وبالتالي أولى بكثير من إعطاء بعض المستأمنين كل تعويضاتهم الكاملة على حساب الشركة وحساب التأمين ومصالحهما العامة .   

الاحتمال الثاني : هو نفس الموضوع الأول ، ولكن جاءت المخالفة بين قيمة الضرر ومبلغ التأمين بسبب التضخم ، فهذا تطبق عليه قواعد التضخم ، ولا ينبغي أن تحمل شركة التأمين بنتائج التضخم ، وبالأخص في التأمين التعاوني ، وقد سبق أن ذكرنا قرار مجمع الفقه الدولي بعدم جواز ربط الديون الآجلة بأي مؤشر مستقبلي .

الاحتمال الثالث : عدم إمكان التقدير وقت التعاقد ـ وقد ذكرنا حكمه سابقاً .

الاحتمال الرابع : أن هذا التقدير زيادة ومغالاة أو نقصاناً كان بسبب خطأ ، أو غش أو تدليس ، من المؤمن له ، وحينئذٍ تطبق عليه الأحكام الخاصة بالغش أو الخطأ ، أو التدليس .

 

  هذا والله أعلم ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين .

                                                       كتبه الفقير إلى ربه

علي بن محيى الدين القره داغي

الدوحة غرة ربيع الثاني 1425هـ 

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) لسان العرب ، القاموس المحيط ، المصباح المنير ، مادة “قعد” ، المعجم الوسيط ط.قطر (2/748)

([2]) سورة البقرة / الآية 127

([3]) التعريفات ص 171

([4]) يراجع : شرح القواعد الفقهية للشيخ أحمد الزرقا ص 10 ، د.علي الندوي : القواعد الفقهية ص 39 ـ 45 ،    د. محمد الروكي : نظرية التقعيد الفقهي ط.ابن حزم ببيروت ص 45

([5]) غمز عيون البصائر شرح الأشباه والنظائر ط.دار الكتب العلمية ببيروت 1405هـ (1/51)

([6]) الأشباه والنظائر في النحو ، ط.دار الكتب العلمية ببيروت(1/9)

([7]) الحديث رواه أحمد (5/326 ، 327 ، 1/313) وابن ماجه الحديث رقم 2340 ، 2341 ، والحاكم (2/57 ، 28) وقال : صحيح على شرط مسلم ، ووفقه الذهبي ، والبيهقي (6/69) وله طرق كثيرة ، وقال الألباني في الإرواء (3/408) ” صحيح ”

([8]) المراجع السابقة

([9]) القاموس المحيط ، ولسان العرب ، والمصباح المنير مادة (نسب)

([10]) المعجم الوسيط (2/916)

([11]) يراجع : د. السنهوري : الوسيط في شرح القانون المدني ج7 م2 الخاص بعقود الغرر ط.دار النهضة العربية بالقاهرة 1964م ص 1372 ، 1527 ، ود.محمد الزعبي : عقد التأمين ، رسالة دكتوراه بحقوق القاهرة 1402هـ ص 100 ، ود. عبدالودود يحيى : دروس في العقود المسماة (البيع والتأمين) ط.دار النهضة العربية بالقاهرة 1987م ج1 ص 262 ، ود. عبدالحي حجازي : التأمين ط.1958 بالقاهرة ص 201 ، ود. عبدالمنعم البدراوي : التأمين (فن التأمين ، عقد التأمين ،…) ط. وهبة بالقاهرة 1963 ص 96

([12]) د. السنهوري : الوسيط (7/2/1634) ود. عبدالودود يحيى ص 262 والمراجع السابقة 

([13]) المراجع السابقة نفسها

([14]) د. السنهوري ، المرجع السابق (7/2/1635)

([15]) د. السنهوري : المرجع السابق (7/2/1638)

([16]) المراجع السابقة كلها

([17]) الاستحسان لغة : طلب الحسن ، وفي الاصطلاح : قال البزدوي في أصوله (4/6) هو : (العدول عن موجب قياس إلى قياس أقوى ، أو هو تخصيص قياس بقياس أقوى منه) ، وعرفه الكرخي بأنه : (العدول بالمسألة عن حكم نظائرها إلى حكم آخر لوجه أقوى يقتضي هذا العدول) يراجع كشف الأسرار شرح أصول البزدوي (4/3) .

 يقول الشيخ عبدالوهاب خلاف في علم أصول الفقه ط.دار القلم ص 79 بعد تعريف الاستحسان : ( فإذا عرضت واقعة لم يرد نص بحكمها ، وللنظر فيها وجهتان مختلفتان : إحداهما ظاهرة تقتضي حكماً ، والأخرى خفية تقتضي حكماً آخر ، وقام بنفس المجتهد دليل رجح وجهة النظر الخفية ، فعدل عن وجهة النظر الظاهرة ، فهذا يسمى شرعاً الاستحسان ، وكذلك إذا كان الحكم كلياً قام بنفس المجتهد دليل يقتضي استثناء جزئية من هذا الحكم الكلي ، والحكم عليها بحكم آخر فهذا أيضاً يسمى شرعاً الاستحسان) ويراجع د. شعبان محمد إسماعيل : الاستحسان بين النظرية والتطبيق ط.دار الثقافة ص 57 

([18]) مجموعة الأعمال التحضيرية (5/388)

([19]) نقض مدني 31/12/1970 ، انظر مجموعة أحكام النقض المدني 1970م ،  ص 1305

([20]) المراجع القانونية السابقة

([21]) سعد واصف : التأمين من المسؤولية ص 276 ـ 280

([22]) د. محمد علي عرفه : شرح القانون المدني الجديد ،  في التامين والوكالة والصلح والحراسة ط. جامعة فؤاد الأول 1949م ص 61 ، ويراجع د. الزعبي : المرجع السابق ص 102

([23]) منهم د. حسام الدين الهواني : المبادئ العامة للتأمين ط. الدار القومية العربية للطباعة ، القاهرة عام 1975م ص 89 ، ود.عبدالمنعم البدراوي : المرجع السابق ص 98 ، ود. نزيه مهدي

([24]) المراجع السابقة ، ود. الزعبي : المرجع السابق ص 33

([25]) نقض مدني مصري 31/12/1970 ،  انظر : مجموعة أحكام النقض المدني عام 1970 ص 1305 ، ويراجع المصادر السابقة

([26]) د. السنهوري : الوسيط (7/2/1639)

([27]) يراجع في تفصيل ذلك : د. علي القره داغي : مبدأ الرضا في العقود ، دراسة مقارنة (2/001148)

([28]) سورة المائدة / الآية 1

([29]) سورة الإسراء / الآية 34

([30]) د. السنهوري : المرجع السابق (7/2/1639)

([31]) يراجع : د.أحمد شرف الدين : أحكام التأمين في القانون والقضاء ، جامعة الكويت 1403هـ ص 248 ـ 249 ، والمراجع السابقة

([32]) د. السنهوري : المرجع السابق نفسه (7/2/1640) ، والمراجع السابقة الأخرى

([33]) د. السنهوري : المرجع السابق نفسه (7/2/1640)  ، ومصادره المعتمدة

([34]) المصادر السابقة