أيها الإخوة المؤمنون
لو قرأنا الكتب السابقة، ونظرنا في دساتير العالم كله، وتدبرنا جميع القوانين السائدة في هذا العالم المتحضر لما وجدنا دستوراً ولا كتاباً يبدأ أول دستور فيه بالأمر بالقراءة والتعلم سوى القرآن الكريم، الكتاب الخالد الذي نزل به الوحي الأمين من قبل رب العالمين إلى الناس أجمعين.
حيث تبدأ أول آية فيه بالأمر بالقراءة قبل الأمر بالعقيدة والعبادة، قال تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}، وليس المقصود بها أن يقرأ القرآن الكريم فقط؛ لأن القرآن الكريم لم يكن قد اُنزل بعد، وإنما فيها دلالة على وجوب إصلاح النظام التعليمي، الذي إذا صلح صلحت الأمة والمجتمع وتطور.
وبما أن هذا الدين شرع لأجل التطبيق والهداية كما قال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ*إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ*وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}، كان يجب على الأمة التي هي امتداد للرسول صلى الله عليه وسلم أن تقوم بمهمة تعمير هذا الكون على ضوء منهج القراءة الشاملة؛ لأن الله تعالى لم يأمر بقراءة القرآن ولا بقراءة أي كتاب، وإنما أمر بالقراءة الشاملة المطلقة بشرط أن تكون هذه القراءة باسم الله رب العالمين، لا باسم المادة أو الاستبداد، أو التجبر، أو الطغيان.
وفي ذلك إشارة إلى أن تكون القراءة املة للكون كله، وللكتب كلها، وللإنسان كله، فهذه القراءات الثلاث هي المطلوبة، وهي بداية الهداية والإصلاح للنظام التعليمي الذي كان سائداً في العصور السابقة.
القراءة في العصور السابقة كانت قائمة على نوعين؛ النوع الأول: القراءة الدينية المحضة حول الله تعالى والمعاد، وأكثر من تبناها الرهبان والقساوسة، وعلماء بني إسرائيل، والنوع الثاني: القراءة الدنيوية المتمثلة في البحث عما وراء الكون، وأكثر من قام بها الفلاسفة، ولقد جاء الإسلام فصحح المسار والطريق، وطلب من أتباعه قراءة الكون كله من خلال علوم الكون، وأن يقرؤوا الإسلام والدين من خلال كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن يقرؤوا الإنسان من جانبه النفسي في ظلال الكتاب والسنة، ومن جانبه المادي من خلال علوم الطب والنفس وغيرها.
هذه هي البداية التي سار عليها الصحابة الكرام، ومن تبعهم بإحسان، وبذلك استطاعوا أن يحققوا حضارة عظيمة في مجال الصناعة وعلوم الطب وغيرها ما لم يكن ليصل إليها الرومان أو الفرس، أو الساسانيون أو الأمم الأخرى في ألف سنة.
القراءة والتعلم أول الواجبات الشرعية، حتى عقيدتنا وتوحيدنا وعباداتنا كلها مبنية على العلم، والعلم هو الباب إليها، قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}، العلم النافع موصل إلى العقيدة الصحيحة.
كما يتألم المسلم حين يعيش مع القرآن الكريم فيجد فيه ان حوالي ألف آية تدعو إلى العلم والتفكير وأخذ العبر والاستفادة من دروس التاريخ وأخبار الأمم، ثم يجد أن معظم المسلمين لاهون عن هذا الفرض الأول، منشغلون عن الواجب الأول، وهو القراءة الصحيحة المتدبرة للكون والإنسان، بل يجد أن ما بين 50% إلى 60% من أبناء الأمة لا يتقنون قراءة الألف والباء، أميون لا يقرؤون ولا يكتبون، كما جاء ذلك في تقرير المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، وهذه مشكلة كبرى، وقضية خطيرة، كما أني أراها إثماً كبيراً.
إشكالية المسلمين في الناحية الثقافية، أنهم لا يرون الواجبات إلا في جانب العقيدة وشعائر العبادة، بينما يقوم الإيمان على بضع وستين، أو بضع وسبعين شعبة، فالمسلمون يأخذون شعب العقيدة والعبادات، ويتركون شعب التعليم والحضارة والتعمير والفوة والشهود على العالم، فهي واجبة كما الشعائر والعقيدة، ويجب أن تعالج هذه المشكلة، وإلا بقيت الأمة مريضة يتربص بها العدو الدوائر، ويقعد لها كل مرصد، ولا تجد الأمة نفسها إلا في ذيل الحضارات.
إذا قرأن تاريخ المستعمرين، وبخاصة الفرنسيين، نجد أنهم كانوا يتفقون مع علماء جمدوا العلم على المنقول فقط، وكان المستعمر يشجعهم على إصدار فتاوى تحرم العلوم الحديثة، بحجة أنها تضر بالمستقبل، والهدف من وراء ذلك أن تبقى الأمة جاهلة؛ لأنها إذا وعيت سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وحضارياً لا يمكن ان ترضى ولا أن تقبل بالمستعمرين؛ لذلك كان المستعمرون يخططون لبقاء الأمة جاهلة، غائبة عن الوعي، ميتة المواهب، وعديمة المهارات، ويبقى العدو متربعاً على عرشها، باسطاً نفوذه، وفارضاً سيطرته.
مهمة التعليم فريضة شرعية واجبة على المسلمين جميعاً بجميع أطيافهم، وبكل مكونات مجتمعاتهم، وهذه المهمة لها أركانها التي يجب أن تقوم على أسس الخير والتنمية والتقوى.
الركن الأول: المعلم، يجب أن ينوي بتعليمه نشر العلم والمعرفة، وأن يدرك أن مهمته هي مهنة جميع الأنبياء والمرسلين، وعلى رأسهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد بُعث صلى الله عليه وسلم معلماً، وقد قال عن نفسه صلى الله عليه وسلم:" إنما أنا مثل الوالد أعلمكم"، وقال الله تعالى عنه:{ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}، والكتاب هنا غير القرآن الكريم، بل هو كل مكتوب؛ سواء كان دينياً أو دنيوياً، والحكمة هي نتاج العقول، أي إن هذا الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم الناس الوحي والحكمة والاستفادة من تجارب الأمم، وقد طبق ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، والأمثلة على ذلك من سيرته العطرة كثيرة، منها: الأخذ بمشورة سلمان الفارسي في حفر الخندق حول المدينة في غزوة الأحزاب، ومنها: الأخذ برأي حباب بن المنذر في تغيير مكان الجيش يوم بدر.
المعلم مسؤول أمام الله تعالى، وقد عثرت على وثيقة موجهة من حاكم قطر الشيخ علي بن عبد الله رحمه الله تعالى، إلى مدير المعارف يقول فيها:" يا مدير المعارف: إن اختيار المعلمين أمانة في ذمتك، وأنا أريد أن أخبرك بما عندي أنت ورئيس المعارف ــــــ أي وزير التعليم ـــ حتى أتخلص من المسؤولية وأحاججكم عليها بين يدي الله تعالى، نحن لا نريد أن يحضر إلى هذه البلاد معلم ومعه زيغ في العقيدة، واستهتار في الأخلاق، وإهمال في فرائض الدين.
إن أبناءنا أغلى شيء عندنا، فاستوصوا بهم خيراً، واجتهدوا غاية الاجتهاد لمصلحتهم، وإن بقاءهم على الفطرة أفضل من تعليم يجرهم إلى الفساد والإلحاد، وحسبي الله ونعم الوكيل".
كلمات بسيطة واضحة تبين دور المعلم في بناء الأجيال، لأنه قدوة لطلابه، فكيف يحمل زيغاً في العقيدة، أو تهاوناً في الفرائض، أو استهتاراً في القيم؟
يجب على المعلم أن ينمي مهارات الطلاب، ويحفزهم نحو التعليم، ويكسبهم القدرة على التحليل والتركيب والتفكير والتخطيط، إلى جانب مهارة كسب العلوم، وأن يربط العلم بالواقع المعاش للطالب، حتى يؤتي التعليم ثماره، ولا يكون مجرد نظريات تُلقَّن.
ولقد رأيت بنفسي ذات يوم أستاذاً جامعياً في تخصص علم الميكانيك واقفاً أمام سيارته، فسألته: ما الخبر؟ فأجاب: سيارتي متعطلة، فقلت له: كنتُ أظنني أني سأستعين بك فيما لو توقفت سيارتي، فقال: إننا ندرس نظريات، ولا نطبق على أرض الواقع، فأي علم هذا؟
العلم النافع هو الذي يقدم حياة علمية عملية نافعة للأجيال، ينهض بالأمة ويؤسس لها حضارة، وإلا فالعلم إذا خلا من النفع أو كان مجرد نظريات لا يدعمها تطبيق كان بالاً على صاحبه، وعلى الأمة جمعاء، وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من علم لا ينفع.
الركن الثاني: الإدارة الناجحة، فإدارة المدرسة تتحمل جزءاً من المسؤولية أمام الله تعالى إذا انحرف الطالب عقيدة أو خُلُقاً أو عملاً.
الركن الثالث: الطالب، وعليه أن يخلص النية في طلب العلم، وأن يكون متصفاً بالمسؤولية الأخلاقية تجاه معلميه والمدرسة.
الركن الرابع: المنهج والمشاريع، وهذه مسؤولية وزارة التعليم.
الركن الخامس: الإشراف من قبل الدولة على المناهج ومسار العلم والتعليم.
الركن السادس: الأسرة، على الوالدين أن يتحملا المسؤولية الكاملة تجاه تعلم أبنائهم، ومتبعتهم في تحصيل المستوى العلمي، والارتقاء بهم في مدارج التحصيل.
الركن السابع: المسجد، من خلال دروس المساجد وخطب الجمعة، التي يجب أن تلامس الواقع، وتساهم في حل قضايا الأمة، وتعالج مشاكل الشباب.
هذه الأركان إذا ضُبطت نهضت الأمة ونجحت.
الخطبة الثانية:
إن التعليم هو السبب في التقدم، وإن الغرب كان يعيش في جاهلية عمياء، يروي التاريخ ان هارون الرشيد، وهو في القرن الثاني الهجري، أهدى إلى ملك فرنسا ساعة تعمل ذاتياً، فجمع القسس والرهبان ليبحثوا في أمرها، فقال كبيرهم: لا بد أن فيها جنياً يحركها، وهو ينقل إلى هارون الرشيد الأخبار، وأشار بكسر الساعة وعدم استعمالها.
نكاد اليوم نعاني من الجهل مثل تلك الحقبة التاريخية للغرب، ولكن الغرب استطاع أن ينهض من خلال العلم، وبقينا نحن متخلفين.
سنغافورة لما تولى رئيسها سدة الحكم في البلاد لم يكن عنده مال ولا أي شيء يقدمه لشعبه، فعمل على جمع الأموال وصرفها في التعليم، حتى أصبحت سنغافورة مضرب الأمثال في بلدان العالم المتقدم علمياً وحضارياً.
وكذلك ماليزيا، أعلن مهاتير محمد أنه لا شيء يعلو ــــ بعد الله تعالى ــــ على العلم، فصرف الأموال على التعليم حتى أصبحت ماليزيا يشار إليها بالبنان في العلم والمعرفة.
على الأمة أن توجه طاقاتها، وتسخر جهودها في العلم والتعليم، وأن تخصص له جزءاً من الدخل المادي حتى تنهض الأمة وترقى، فإن العلم سبيل النهضة والحضارة.
اللهم أصلح أحوالنا
21 / 9 / 2018م