الفصل الأول :الفتوى بين النص والواقع ، والثابت والمتغير


الضوابط والآداب


 


التعريف بالفتوى بين النص والواقع :


  الفتوى ـ بفتح الفاء وسكون التاء ـ لغة من فتي ، ومزيده أفتى في المسألة أي أبان الحكم فيها ، واستفتاه أي طلب رأيه فيها ، والفتوى : الجواب عما يشكل من المسائل الشرعية ، أو القانونية[1] وجمعه فتاوٍ ، وفتاوى ، وتستعمل لذلك الفتيا بضم الفاء مكان الفتوى بالفتح ، والمفتي هو من يتصدى للفتوى بين الناس ، وجمعه : مفتون [2]. 


  وهذه المعاني لا تزال هي السائدة عند إطلاق هذه الكلمات وقد تكرر ذلك في القرآن الكريم إحدى عشرة مرة باستعمالات مختلفة منها قوله تعالى : ( ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهنَّ…)[3] ، وقوله تعالى : ( يوسف أيها الصديّق أفتنا في سبع بقرات سمان )[4] ، وقوله تعالى : ( ولا تستفت فيهم منهم أحداً ) وهي كما نرى وردت في معانيها اللغوية ، وقد أسند فيها فعل الإفتاء إلى الله تعالى ( قل الله يفتيكم …)[5] أي يبين حكم الله في ذلك ، كما أسند إلى البشر .


 وقد تكرر لفظ أفتى واستفتى ومشتاقتهما كثيراً في السنة النبوية المشرفة بنفس المعاني السابقة ، وأسند فيها إلى الله تعالى ، وإلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى غيره ، منها قوله صلى الله عليه وسلم : ( إنّ الله أفتاني فيما استفتيته فيه ..)[6] ومنها ما رواه أحمد بسنده : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفت في الخمر حداً )[7] وروى أيضاً : ( أن زيد بن ثابت يفتي الناس في المسجد )[8].


 وفي الاصطلاح لا يختلف معنى الفتوى كثيراً عما سبق فهي : بيان الحكم الشرعي لقضية من القضايا عند السؤال عنها [9].


والمراد بالنص هنا هو نصوص الكتاب والسنة الخاصة بالأحكام الشرعية .


والمراد بالواقع هو واقعنا المعاصر الذي ظهرت فيها مستجدات كثيرة ، وتغيرات كبيرة في أنماط الحياة ، ونوازل جديدة لم تكن معروفة لدى فقهائنا الكرام ، مما تمخضت عنه الحضارة الحديثة وأفرزها تقدم العلوم والتكنولوجيا في كل مجالات الحياة وداخل الإنسان وخارجه ، مما جعل بعض المتخاذلين يتراجعون عن تطبيق الشريعة بحجة أنها لا تستطيع معالجة قضايا القرن العشرين وهي نزلت من قبل أربعة عشر قرناً ؟!!


  والمقصود بالعنوان بصورة عامة هو البحث عن مدى تحقيق المطلوب بين النصوص الشرعية ، والواقع المعاصر ، وبين الأصالة والمعاصرة ، وبين الحفاظ على القديم ، والتجديد والتطوير .


 


أركان الفتوى :


الفتوى باعتبارها عملية متكاملة لها سنة عناصر إسلامية ، وهي :


أولاً ـ الافتاء : وهو إصدار الفتوى من المفتي ، أو بعبارة أخرى الحكم الشرعي الذي يعبر عنه المفتي ، حيث يقول : إنه فرض أو واجب ، أو مندوب ، أو محرم ، أو مكروه كراهية التحريم ، أو مكروه ، أو مباح ، أو أنه صحيح ، أو فاسد أو باطل .


ثانياً ـ الاستفتاء : وهو طلب الفتوى من الشخص السائل .


ثالثاً ـ محل الفتوى: وهو الشيء الذي يراد بيان حكمه الشرعي .


رابعاً ـ المفتي : سنذكر الأحكام المتعلقة به بالتفصيل .


خامساً ـ المستفتي : هو الشخص السائل ، وسنذكر أحكامه .


سادساًَ ـ صيغة الفتوى : حيث تحتاج سلامة الفتوى وصدقها وصحة الانتفاع بها أن يراعى المفتي أموراً تخص الفتوى منها :



‌أ- تحرير ألفاظ الفتيا بدقة ، لئلا تفهم على وجه باطل ، قال ابن عقيل : ( يحرم إطلاق الفتيا في اسم مشترك إجماعاً ، فمن سئل : أويؤكل أو يشرب في رمضان بعد الفجر ؟ لا بدّ أن يقول : الفجر الأول ، أو الثاني ….. )[10] .


وكذلك ينبغي للمفتي أن يفصل إذا احتاج الجواب إلى تفصيل ، ويوجز القول إذا كان  السؤال لا يحتاج إلى تفصيل .


‌ب- أن لا تكون الفتوى بألفاظ مجملة لئلا يقع السائل في حيرة كمن سئل عن مسألة في بيع العرايا فيقول : إنه جائز بشروطه ، فهذا إجمال يحتاج إلى تفصيل وشرح لبيع العرايا بالتمر[11] .


‌ج- من الأفضل ذكر الدليل إذا كان الموضوع يحتاج إلى ديل ، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كان يذكر في بعض الأحيان أو يذكر ما يقنع السائل من التشبيه والتمثيل ، مع أن كلامه صلى الله عليه وسلم حجة في ذاته كحديث ابن عباس :      ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تزوج المرأة على العمة والخالة ، وقال : إنكن إذا فعلتن ذلك قطعتن أرحامكم )[12] ، ولقوله صلى الله عليم وسلم في شأن المعاشرة الزوجية : ( أرأيت لو وضعها في حرام أكان عليه وزر )[13] .


 أما إذا كان السائل لا يستوعب الأدلة فلا يذكرها له[14] .


‌د- لا يصدر فتواه على أنها نص شرعي ما دامت في إطار الاجتهاد مهما بلغت ، إذ لا يقول : هذا حكم الله تعالى ، وكذلك عليه أن لا يستعمل لفظ الحرام إلاّ فيما فيه نص واضح .


‌ه- تجوز الفتوى كتابة ، وفي نظري أنها الأفضل في عصرنا الحاضر للتثبيت والبعد عن التزوير والتحريف .


‌و- وتجوز بالاشارة كذلك ، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أفتى بالاشارة في عدة مواضع منها حديث ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل يوم النحر عتن تقديم والتأخير ؟ فأومأ بيده أن لا حرج )[15] .


‌ز- الفتوى عن طريق الوسائل المعاصرة جائزة ـ كما سيأتي ـ  .


 


الفرق بين الإفتاء والقضاء :


  فالإفتاء ، أو الفتوى هو بيان الحكم الشرعي عند السؤال عنه من خلال النظر في الأدلة المعتبرة بعد استقرائها ، والاستنباط منها وذلك إن كان مجتهداً ، وإن كان مقلداً فهو ناقل لما وصل إليه مقلَّده .


وأما القضاء فهو إنشاء الحكم وإلزام الخصمين به ، وبذلك يختلف عن القضاء في عدة أمور:


أحدهما : أن القضاء ملزم في حين أن الفتوى غير ملزمة قضاءً .


وثانيهما : أن المفتى يظهر له الحكم من الأدلة الشرعية وأما القاضي فهو ينشئ الحكم مما ظهر له من واقع القضية وظروفها المحيطة بها حيث يطبق عليها الحكم الذي تبين له أنه مناسب لها [16].


والثالث : فقد ذكر العز بن عبدالسلام فرقاً من حيث الأجر ، حيث إن أجر الحاكم أعظم ، لأنه يفتي ويلزم ، وان تصدى الحاكم للحكم أفضل من تصدي المفتي للفتيا ، وأجر الإمام الأعظم أفضل من أجرهما ، وأن المفتين تتفاوت أجورهم بتفاوت كثرة الفتاوى وقلتها ، وعمومها وخصوصها[17] ومن حيث الدقة والضبط وبذل الجهد في سبيل موافقة الحق .


والفرق الرابع : هو ما ذكره ابن القيم من أن حكم القاضي جزئي خاص لا يتعدى إلى غير المحكوم عليه وله ، وفتوى المفتي شريعة عامة تتعلق بالمستفتي وغيره[18] .


الفرق الخامس : ذكره القرافي ، وهو أن القضاء لا يكون إلاّ بلفظ منطوق في حين أن الفتوى تكون بالكتابة والفعل والاشارة[19] .


الفرق السادس : أن الفتوى لا ترفع الخلاف في حين أن القضاء يرفع الخلاف ، ويتعين به قطع الخصومة وان كان في المسألة خلاف .


الفرق السابع : أن الفتوى لا تحتاج إلى تولية من السلطان ، في حين أن القضاء لا ينعقد إلاّ بقبوله من ولي الأمر مع توافر شروطه ، لأن الفتوى تبليغ ، والقضاء حكم ملزم .


الفرق الثامن : أن الفتوى عامة للمستفتي وغيره ، فيصلح لكل نازلة متحدة مع واقعة الفتوى ، أما القضاء فهو خاص بالموضوع الذي صدر به الحكم بعينه[20] .


 


الفرق بين الفتوى والاجتهاد والتخريج :


 الاجتهاد هو استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة الإجمالية ، وأما الفتوى فهي بيان الحكم الشرعي لواقعة معينة جواباً عن السؤال عنها .


 والأصل في المفتي أن يكون مجتهداً وحينئذٍ يكون الفرق العموم والخصوص مطلقاً فكل مفتٍ مجتهد وليس بالعكس ، فالمجتهد أعم ، أما إذا لم يكن مجتهداً فالفرق كبير وهو أن المفتي يتقيد في فتواه بأصول مذهبه وفروعه ، ويفتي على ضوء ذلك ، فإن لم يجد فإنه يخرّج الجواب على ضوء قواعد مذهبه وفروعه ، وإن لم يستطع كل ذلك يجيب على ضوء المنقول من مذهب أحد الفقهاء الثقات المجتهدين .


 وأما التخريج الفقهي فهو استنباط الأحكام من فروع الأئمة المنسوبة إليهم ، وهو التخريج المذهبي ، وذلك لأن فقهاء المذاهب إذا لم يجدوا نصّاً لصاحب المذهب يخرجون على أقواله ، وحينئذٍ تتكون من ذلك أقوال وروايات تسمى روايات وأقوالاً بالتخريج ، ولذلك نرى في كتب المذاهب هذا التعبير : ( وفيه قولان بالنص والتخريج ) أو ( ويخرج على قول الإمام كذا …) .


  وقد يتحقق التخريج عن طريق القياس وذلك لأن فقهاء المذاهب الملتزمين بمذهب معين يجعلون نصوص إمامهم مثل نصوص الشرع من حيث القياس والتخريج ونحو ذلك ، فما نص عليه الإمام يسمى بالنص ، وما استنبطه فقهاء المذهب من نصّ للإمام ، بحيث ورد هذا النص في شيء معين ، فقاس عليه الفقيه غيره المشابه له فيسمى القول المخرج أو بالتخريج ، أما إذا استنبطه الفقهاء المقيدون بأصول إمامهم من خلال اجتهادهم العام فيسمى الوجه ، فالقول المخرج مأخوذ من القياس على نص للإمام ، أما الوجه فهو مأخوذ من الاجتهاد الملتزم بأصول إمامه .


 وهناك الوجه المخرج وهو ما إذا كان لأحد الأصحاب وجه في مسألة معينة فجاء فقيه متأخر فخرج عليه مسألة جديدة فيسمى حينئذٍ الوجه المخرج [21].


 ويطلق التخريج أيضاً على التخريج الأصولي وهو تخريج الفروع على الأصول ، أو استنباط الأحكام للفروع من خلال القواعد وقد ألف في ذلك الكثيرون مثل الأسنوي ، والزنجاني وغيرهما [22]. وهناك نوع ثالث وهو تخريج الأصول من الفروع ، وقد اشتهر بذلك المذهب الحنفي بل إن طائفة من أصول بعض الأئمة تقوم على هذا المنهج ، وهو منهج استقرائي كان له دوره في نشأة كثير من العلوم [23].


 


حكم الإفتاء :


  فإذا كان الإفتاء هو الجواب عن سؤال لبيان حكم شرعي ـ كما سبق ـ فإنه واجب كفائي  لا محالة على من كان مؤهلا له وتوافرت فيه شروطه ، لأن بيان الحكم الشرعي واجب وهذا منصب الأنبياء على مرّ التأريخ قال ابن القيم : ( وأول من قام بهذا المنصب الشريف سيد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيين…فكانت فتاويه جوامع الأحكام ومشتملة على فصل الخطاب )[24] فالإفتاء واجب بالنصوص الشرعية الكثيرة المتظافرة . منها قوله تعالى : ( وإذ أخذنا ميثاق الذين أوتوا الكتاب لنبيننه للناس ولا تكتمونه …)[25] وقوله تعالى : ( فلولا نفر من كل فرقة طائفة منهم ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم ولعلهم يحذرون )[26] وقوله صلى الله عليه وسلم : ( فليبلغ الشاهد الغائب )[27] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( من سئل عن علم ثم كتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار )[28] .


  والفتوى في حقيقتها تبليغ أحكام الله تعالى وبيانها الذي فرضته النصوص الكثيرة ، ولكنها لأنها تحتاج إلى شروط وضوابط انحصرت في القادر عليها من العلماء ، يذكر ابن القيم :   [ أن العلماء على قسمين :


أحدهما : حفاظ الحديث وجهابذته ، والقادة الذين هم أئمة الأنام الذين حفظوا معاقد الدين ، وحموا من التغيير والتكدير موارده ومناهله .


وثانيهما : فقهاء الإسلام ومن دارت الفتيا على أقوالهم بين الأنام الذين خصوا باستنباط الأحكام ، وعنوا بضبط الحلال والحرام ، فهم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء ، فطاعتهم أفرض من طاعة الأمهات والآباء والحكام ، قال الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم )[29] ، قال جمهور المفسرين منهم ترجمان القرآن وجابر والحسن البصري وعطاء ومجاهد : أولوا الأمر هم العلماء ، قال ابن القيم والتحقيق أن الأمراء إنما يطاعون إذا أمروا بمقتضى العلم فطاعتهم تبع لطاعة العلماء ][30] . 


 ولذلك كان الإفتاء فرض كفاية بحيث إذا قام به البعض سقط الإثم عن الآخرين ، وقد يصبح فرض عين إذا لم يكن في المنطقة ، أو عند السائل إلاّ عالم واحد فحينئذٍ يجب عليه بيان حكم الله تعالى ، وقد لا يؤدى الواجب بواحد فيبقى الفرض عيناً على المتعينين بقدر حاجة الأمة ، أو البلد ، أو المنطقة [31].


 هذا وقد أطلق القرآن الافتاء لله تعالى فقال تعالى ( … قل الله يفتيكم فيهنّ )[32] وفي آية ثانية : ( قل الله يفتيكم في الكلالة )[33] ، وهذا يدل أيضاً على المنزلة العظيمة للافتاء .


 


حكم طلب الفتوى ( الاستفتاء ) :


  إذا كان المسلم غير عالم بحكم مسألة تخصه فيجب عليه سؤال أهل العلم عنه ، حتى يكون على علم به ، لأنه إذا أقدم عليه على جهل فقد يرتكب الحرام ، أو بترك في العبادة ما لم بدّ منه[34] ، قال الغزالي : ( العامي يجب عليه سؤال العلماء ، لأن الإجماع منعقد على أن العامي مكلف بالأحكام ، وتكليفه طلب رتبة من الاجتهاد محال ، لأنه يؤدي إلى انقطاع الحرث والنسل ، وتعطل الحرف والصنائع ، وإذا استحال هذا لم يبق إلاّ سؤال العلماء ووجوب اتباعهم )[35] . 


 


من لم يجد من يفتيه :


 إذا نزلت حادثة بشخص ، بأهل منطقة ، فيجب عليهم الذهاب إلى أهل العلم بها ولو كانوا بعيدين ، يقول النووي : ( من نزلت به حادثة يجب عليه علم حكمها ، أي وجب عليه الاستفتاء عنها ، فإن لم يجد ببلده من يستفتيه وجب عليه الرحيل إلى من يفتيه وإن بعدت داره ، وقد رحل خلائق من السلف في المسألة الواحدة الليالي والأيام[36] .


 


عدم استغلال الفتوى للخروج عن الحكم :


LinkedInPin