الدوحة – بوابة الشرق
الحلقة : التاسعة
كذلك يستعمل العرف المعاصر (الوطني) الذي يتبنى الفكر الوطني، ويدافع عنه أو يجعله الوسيلة الجامعة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، و(المواطن) الذي له جنسية ذلك البلد، كما أن هناك من يفرق المواطنين إلى مواطنين أصليين لهم حقوق أكثر، ومواطنين متجنسين لهم حقوق أقل، أو مواطنين أتوا من بلد معين أو نحو ذلك من التقسيمات التي ما أنزل الله بها من سلطان، بل جعل القومية والوطنية للتعارف وليس للاختلاف والتمايز والتفاخر – كما سيأتي – وكذلك لم يستعمل قدماء العرب الوطن بمعناه الحديث وإنما استعملوه في المنزل والمكان الذي يقيم به الإنسان، جاء في لسان العرب: الوطن هو المنزل الذي تقيم به، وهو موطن الإنسان ومحله، وقال الفيروز آبادي: (الوطن: منزل الإقامة، ومربط البقر والغنم، وجمعه أوطان .. وموطن مكة: مواقفها، ومن الحرب مشاهدها، وتوطين النفس: تمهيدها …، وواطنه على الأمر: وافقه) .
وبهذا المعنى ورد في أشعار العرب منها قول ابن الرومي في حق داره :
ولي وطن آليت أن لا أبيعه وألا أرى غيري له الدهر مالكاً
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم عهود الصبا فيها فحنّوا لذلكا
والخلاصة أن الوطن هو المكان الذي ولد فيه، أو أقام فيه الإنسان في صباه وشبابه وارتبط بحبه والحنين إليه وإلى أهله دون أن يكتسب بُعداً حقوقياً محدداً، أو أن يكون مصطلحاً سياسياً له مفهومه الخاص في عالم المصطلحات السياسية، وإنما كان الوطن عندما يذكره العربي يقصد به مكان مولده، ونشأته، أو مكان إقامته فتعلقت به مشاعره الوجدانية والعاطفية .
والقرآن الكريم ذكر لفظ (مواطن) وأراد به أماكن دون الارتباط حتى بالمولد والنشأة فقال تعالى : (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ …) أي أماكن كثيرة مثل بدر التي لم تكن موطناً لولادة المنتصرين فيها أو نشأتهم، ومثل بقية الغزوات قبل غزوة حنين .
ويبدو أن أول استعمالات (الوطني) و(الوطنية) و(الوطن) بمعناها السياسي في العالم العربي جاء على لسان الطهطاوي (1801-1873م) ثم في كتاب بطرس البستاني (1819-1883م)، حيث يقول الطهطاوي: (ثم إن ابن الوطن المتأصل به أو المنتجع إليه الذي توطن به، واتخذه وطناً ينسب إليه تارة إلى اسمه: (وطني) ومعنى ذلك أنه يتمتع بحقوق بلده … فانقياده لأصول بلده يستلزم ضمناً ضمان وطنه له التمتع بالحقوق المدنية والتمزي بالمزايا البلدية، بهذا المعنى هو وطني وبلدي، يعني أنه معدود عضواً من أعضاء المدينة، فهو لها بمنزلة أحد أعضاء البدن، وهذه أعظم المزايا عند الأمم المتمدنة) إلى أن يقول : (فصفة ” الوطنية ” لا تستدعي فقط أن يطلب الإنسان حقوقه الواجبة له على الوطن، بل يجب عليه أيضاً أن يؤدي الحقوق التي للوطن عليه، فإذا لم يوف أحد من أبناء الوطن بحقوق وطنه ضاعت حقوقه المدنية التي يستحقها على وطنه) . وقريباً من هذا القول قال بطرس البستاني عندما تحدث عن ابن الوطن، والوطني، والوطنية .
وفي نظري أن ما ذكره الطهطاوي أخذه عن مفهوم الوطن لدى الفكر الغربي المعاصر حيث عاش في فرنسا وكان ضمن البعثة المصرية الأزهرية إليها .
ثم انتشر هذا المصطلح بين المسلمين، وتبناه بعضهم بأكثر مما لدى الغرب، حتى رفع شعار (مصر للمصريين) بعد اتفاقية كامب ديفيد عام 1979 وكنت أطالع الصحف المصرية في تلك الحقبة حيث كان بعضها يتقطر حقداً وشراً وتعصباً وإثارة وتمزيقا للعرب والمسلمين، وكأن القومية التي مزقت الأمة الإسلامية إلى أقوام وشعوب، وأسهمت مساهمة فعالة في إسقاط الخلافة العثمانية لا يكتفي بدورها لأنها تجمع العرب مثلاً فجاءت هذه الفكرة في إطارها السلبي لتفرق العرب أيضاً إلى مجموعة من الوطنيات، والله المستعان .
نبذة تاريخية عن المواطنة
ارتبطت الأفكار الأولية للمواطنة بالدولة التي تريد جمع أتباعها على رباط جامع لتقويتهم ووحدتهم أمام التحديات والأعداء، ولذلك ظهرت بعض معالمها في الحكومات التي قامت على أساس الشعوب والقوميات، مثل الآشوريين والفرس، والرومان ونحوهم، ولكن عندما تتبنى الأقوام أو الشعوب ديناً معيناً يصبح الدين الرابط الجامع .
وقد أسهمت الحضارات السابقة وبخاصة الحضارة الإسلامية في بلورة الحقوق والواجبات للمواطنين الذين يعيشون في ظل تلك الدولة أو الإمبراطورية، ولكنها أفرزت أيضاً مفاهيم عير محددة للمواطنة أو مفاهيم متنوعة لها تفاوتت قرباً وبعداً من المفهوم المعاصر لها إلى أن جاءت الثورات الأوروبية التي حددت مفهوم المواطنة .. وربطتها بالقومية إلى حد كبير، وهذا ما سنتحدث عنه في هذا البحث .
المواطنة في عصرنا الحاضر
المواطنة في ظل الفكر السياسي الحديث يراد بها: الانتماء إلى مجتمع واحد يضمه رابط اجتماعي وسياسي وثقافي واحد تترتب عليه حقوق وواجبات، فهي مرتبطة اليوم بجنسية الدولة المعينة، فمن لم يتمتع بها فليس مواطناً لها .