الدوحة – بوابة الشرق

الحلقة الـتاسعة عشر:

نتحدث عن فقه التعامل مع الآخر عند الإساءة إلى المقدسات الإسلامية حيث نبين المبادئ العامة الحاكمة فيه، حق الإنسان في حرية التعبير، موضحاً أسباب الاندفاع البعض نحو الإساءة، ثم بيان الموقف الشرعي (التأصيل الشرعي) بالنسبة للمسلم الذي يعيش في البلاد غير الإسلامية، والواجب الشرعي للأقلية المسلمة نحو الإساءات الموجهة للمقدسات، وواجب الدول والعالم الإسلامي نحوها، وضرورة وجود خطة إستراتيجية هادئة وهادفة لمنع الازدراء بالأديان .

لا يتسع المجال لإفراد كل نوع من الحريات بالحديث الشامل المتضمن موقف الإسلام من كل حرية من هذه الحريات، وإنما نتحدث بشكل عام عن الحرية الفكرية، والدينية بحيث لا يتجاوز ذكر المبادئ العامة مع بعض أدلتها بإيجاز :

أولاً – الحرية الفكرية

إن الحرية الفكرية في الإسلام ليست مجرد حق للإنسان وإنما هي حق الله تعالى على الإنسان أيضاً، وهذه الحرية تقتضي عدة أمور من أهمها: احترام العقل والعناية به، وتشغيله، وتحريكه، وعدم تجميده من خلال التقليد، والتعصب، وهذه الأمور وغيرها بارزة جداً في الإسلام فقد أعلى من شأن العقل، ورفع شأنه، فجعله مناط التكليف، فلا تكليف إلاّ بالعقل، وجعله دليلاً على وجوده، وحجة على وحدانيته، بل أمر الله تعالى بالرجوع إليه عند الاختلاف العقلي فقال تعالى: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) .

وقد استعمل القرآن الكريم مشتقات ” عقل ” في تسع وأربعين آية، بصيغة الفعل الماضي (عقلوه) مرة واحدة، والبقية بالفعل المضارع سواء بلفظ الغائب (يعقلها) مرة واحدة، أم بلفظ المتكلم مع الغير (نعقل) مرة واحدة، أم بلفظ الجمع الغائب (يعقلون) اثنان وعشرون مرة أم بصيغة الجمع المخاطب (تعقلون) أربع وعشرون مرة .

ولم يرد لفظ (العقل) بالاسم معرفاً أو نكرة في القرآن الكريم ولكن ورد مرادفه مثل (الألباب) وهو جمع اللب وهو العقل ست عشرة مرة، و(الحُلُم) بضم الحاء واللام بمعنى العقل مرتين، و(حِجْر) بكسر الحاء وسكون الجيم بمعنى العقل مرة واحدة، و(النُهَى) بضم النون وفتح الهاء بمعنى العقل مرتين و(القلب) وجمعه، في عدة آيات، و(الفؤاد) وجمعه في عدة آيات أخرى، إضافة إلى آيات كثيرة في النظر والتدبر، والتبصر، ونحوها.

فهذه الآيات الكريمة الكثيرة حول العقل ومصطلحاته الأخرى يفهم منها بوضوح ما يلي :

1- احترام العقل، والثناء عليه وأنه له مكانة عظيمة في الإسلام، وأنه الشاهد الثاني بعد شاهد الوحي لصدق الرسالات السماوية التي خاتمها الإسلام، وبالتالي فلا يمكن أن يتعارض النقل الصحيح الخالي عن العوارض مع العقل السليم، وقد ألف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كتاباً في أحد عشر مجلداً حول ( درء تعارض العقل والنقل ) حيث أثبت أن هذا التعارض غير وارد فضلاً عن البحث عن الجمع بينهما، وهو بذلك رد على عدد من العلماء الذين حاولوا التوفيق بينهما عند التعارض .

وهذا هو الحق الذي لا محيد عنه، وذلك لأن العقل مخلوق لله تعالى والوحي منزل من عنده، فكيف يتعارض كتابه المنزل المسطور مع كتابه المفتوح ؟

2- الأمر بإعمال العقل وتشغيله، حيث قال الله تعالى: ( قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) وقال تعالى : ( قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) . ومع الأمر الرباني أرشدنا القرآن الكريم إلى النظر الشمولي في خلق السموات والأرض، والنظر الجزئي التفصيلي في كل شيء من هذا الكون، وفي الأنفس والآفاق .

وفي الحث على النظر الشمولي العام يقول الله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) . وفي الحث على النظر الجزئي يقول الله تعالى: (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) .

وهاتان الآيتان ختمتا بقوله تعالى (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ما يدل على أهمية العقل، والحث على تشغيله وتفعليه، ووردت كذلك آيات كثيرة في هذا المعنى، وتختم كذلك إما بنفس الخاتمة، أو بما هو قريب .

وفي النظر إلى الأنفس يقول الله تعالى: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) والآيات الكثيرة في الأنفس والآفاق التي يكتشفها العلم على مرّ الزمن ستؤدي لا محالة إلى هداية العقل هداية كاملة إلى الإيمان بأن هذا القرآن هو الحق حيث يقول تعالى: ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) . وقد أثنى الله تعالى على العقل وصاحبه في عدة آيات، فأسند إليهم فضل القدرة على التذكر والتفقه والاتعاظ والاعتبار، فقال تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) وقال تعالى بعد ذكر عدة آيات كونية : (……. إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ) بل إن الله تعالى حصر التذكر النافع في أصحاب العقول فقال تعالى: ( وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) .

كما أن الله تعالى بيّن أن أصحاب العقول الكاملة هم الذين يستفيدون من الماضي وغيره فقال تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) كما أن الله تعالى بيّن أن أولي الألباب السليمة هم وحدهم الذين يستمعون سماعاً جيداً، ويميزون بين القول السيئ والأسوأ، والقول الحسن، ثم بين القول الحسن، والقول الأحسن، أنهم لديهم فقه الأولويات، والموازنات فقال تعالى: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ) . 3- الأمر باستعمال دقيق وصحيح وشامل لمصادر معلومات العقل بصورة صحيحة: من التجارب الممثلة في التاريخ وقصص الماضين بحيث يحللها العقل ويستفيد منها فقال تعالى: ( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الألباب ) أي لذوي العقول الذين يستفيدون من إيجابيات الماضي ويتعظون من سلبياته، لكنهم لا يقفون عند الماضي، ولا يجمدون عنده، بل ( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) بل إن الله تعالى أمر العقلاء بالاعتبار في سبع آيات، والاستفادة من الماضي، والمشاهد، فقال تعالى : (…….. فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) .

وكذلك الاستفادة من الحواس الخمس من النظر والبصر والسمع فقال تعالى في وصف أهل النار: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) .