الدوحة – الشرق

الحلقة الــــ20

وهذا المنهج الدقيق القائم على استعمال العقل وصفاء مصادر معرفية ، يوصل صاحبه إلى الحق ، وإلى الإبداع ، والاستفادة من الماضي، والتخطيط للمستقبل ، وهو الذي تبنى به الحضارة. بل إن الله تعالى أمر بالنظر في الكون كله ، وفي خلقه ، وفي طعامه وشرابه ، وغير ذلك حتى يكون حجمه دقيقاً ، فقال تعالى : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ) وقال تعالى : (فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ) والمقصود بذلك أن تنظر العين نظرة دقيقة وأن يجعلها العقل تحليلاً شاملاً عميقاً ، وهذا ما عبر عنه القرآن الكريم بالابصار الذي هو الرؤية المعنوية العقلية الناتجة عن الرؤية البصرية ، حيث يقول تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ) أي أن هؤلاء يرون ما يحدث ، ولكن ليس لديهم البصيرة العقلية ، وبذلك لم يستفيدوا من حواسهم على سبيل الحقيقة والنتائج.

وقد ورد النظر ومشتقاته في القرآن الكريم مائة وتسعة وعشرين مرة ، والبصر ومشتقاته مائة وثمانية وأربعين مرة.

4- الأمر بالتدبر في أربع آيات كريمة حول التدبر في القرآن الكريم فقال تعالى : ( كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبَابِ) وقال تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) .

5- الأمر بالتفكر والدعوة إليه ، ورد في القرآن الكريم ست عشرة مرة ، منها قوله تعالى : (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ) وقوله تعالى : ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) .

بل إن الأستاذ عباس العقاد رحمه الله جعل عنوان كتابه (التفكير فريضة إسلامية) .

6 ـ الأمر بالتفقه والدعوة إليه في آيات كثيرة ، حيث ورد الفقه ومشتقاته عشرين مرة ، منها قوله تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ).

7 ـ الأمر بالتذكر والدعوة إليه في آيات كثيرة ، حيث ورد التذكر ومشتقاته في القرآن الكريم مائتين وتسعة وستين مرة منها قوله تعالى : (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبَابِ).

8ـ ذم الذين عطلوا عقولهم بالتقليد والتعصب الأعمى فقال تعالى : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) بل بيّن الله تعالى أن الفرق بين الانسان والحيوان هو استعمال العقل فقال تعالى : (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) ، وهناك عشرات الآيات يفهم منها الذم القبيح لمن لم يستعمل عقله ، أولا يتدبر ، أو لا يتذكر ، أو لا يتفكر ، أو لا يبصر.

والخلاصة أن الاسلام أعطى قيمة عليا لعقل الانسان وفكره ، حتى نستطيع القول بكل ثقة : أنه لم يوجد نظام آخر أو دين يعطي كل هذه الأهمية للحرية الفكرية.

الجانب التطبيقي للحرية الفكرية:

ولقد سارت الأمة الإسلامية في عصر الرسالة ، وبعد وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم ، على احترام العقل ، وتفعيله وتشغيله من خلال الاجتهاد الذي يشمل النصوص الظنية ، والنوازل والمستجدات ، فلم يتوقف الاجتهاد ، بل أوجد الحلول لكل القضايا المعاصرة ، بدءاً من الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى اليوم.

ومن جانب آخر فإن علماء المسلمين عرفوا حق المعرفة مجالات العقل في الإبداع ، حيث هي تشمل كل العالم المحسوس بما فيه من كنوز وخيرات ، ولم يستعملوا عقولهم في عالم ما وراء الطبيعة (الميتافيزيقيا) ولذلك تحققت خلال فترة وجيزة حضارة إسلامية استفادت من كل التراث الإنساني ، وأضافت إليه الكثير والكثير في مختلف مجالات العلوم والفنون والصناعات.

ثانياً ـ الحرية الدينية :

إن الحرية الدينية هي أهم أنواع الحريات في الحقيقة ، وهي يقصد بها أمران ، هما :

1. حرية العقيدة التي تتيح للفرد اعتناق أي دين.

2. حرية العبادة ، وممارسة الشعائر التعبدية.

وقد دلت الآيات القرآنية المكية والمدنية على هذه الحرية بنوعيها من حيث المبدأ والاجمال ، وفصلتها السنة النبوية الشريفة ، فقال تعالى : (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) وقال تعالى للكفار : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) مع أن دين الكفار كان الشرك وعبادة الأصنام ، وقال تعالى : (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) وقال تعالى : ( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ).