أيها الإخوة المؤمنون
إذا تدبرنا في القرآن الكريم – وهذا هو المطلوب – نجد أن القرآن الكريم أولى عناية قصوى بأن يكون الإنسان المؤمن رشيداً في حياته، رشيداً في تعامله مع الناس، ورشيداً في تصرفاته، وأحكامه، وفي سياسته، وفي إدارته لأمواله واقتصاده.
إذا كانت العصور المعاصرة والتقنيات المعاصرة والعصر الحديث يركز على الحكم الرشيد، وعلى السياسة الرشيدة في الاقتصاد وفي إدارة الحكم، فإن القرآن الكريم قد سبق إلى ذلك بقرون في التركيز الشديد على أن تكون هذه الأمة أمة رشيدة بكل ما تعني هذه الكلمة، وأن تكون سياساتها رشيدة، وتصرفاتها رشيدة.
ولأهمية الرشد في الإسلام، وعند الله سبحانه وتعالى، كان الأنبياء يتضرعون إلى الله سبحانه وتعالى أن يلهمهم الرشد، كما بين الله ذلك حينما يقول { وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيم رُشْده مِنْ قَبْل }، فقد آتى الله خليله وحبيبه وسيد الأنبياء و قدوة الأنبياء سيدنا إبراهيم الرشد بعدما تضرع إلى الله سبحانه وتعالى، ودعا دعاء في الليل والنهار، وكان من نتيجة رشده أنه تعامل مع قومه وهم كفرة بمنتهى الحكمة والرشد، وتعامل بالرشد حينما ذهب إلى مصر،وتعامل برشد أيضاً حينما وضع ابنه إسماعيل في مكة المكرمة بوادٍ غير ذي زرع، حتى يكون في هذه المنطقة – الجزيرة العربية – التي اختارها الله سبحانه وتعالى ليكون منها النبي الذي يكون خاتم الأنبياء عليه وعليهم الصلاة والسلام.
بل لأهمية الرشد عند الأنبياء، قبِل سيدنا موسى ـــ وهو من أولى العزم الخمسة الكبار بين الأنبياء والرسل ـــ قَبِل أن يكون تلميذاً وطالِبَ علم لدى رجل لم يكن يعرفه، حتى يعلمه الرشد، كما قال سبحانه وتعالى في سورة الكهف (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا)، فتعلم موسى من خلال هذا الرجل الصالح -الذي ذكر في بعض الآثار أنه سيدنا خضر- شيئاً عظيماً جداً، وهو أن الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يعمل إلا بما فيه خير لعباده الذين يؤمنون به، والذين يحبونه ويعتمدون عليه ويتوكلون عليه، وحسب سننه، لا واجباً عليه، بل من لطفه ورحمته، و أنه يعامل المؤمنين الصادقين بما فيه خيرهم، ولكنهم قد لا يعلمون ذلك الخير، فالله هو الذي يعلم الغيب، ولو اطلع الإنسان على الغيب لما اختار إلا ما اختار الله سبحانه وتعالى له، لأنه حسبه وهو وكيله.
وقد سُئل سيدنا الحسين عن معنى الوكيل في قوله سبحانه وتعالى (حسبنا الله ونعم الوكيل) فقال: إن الله خلقك قبل أن تسجد له بهذا الجمال وهذه القوة، فكيف لا يكون مشفقاً عليك ورحيماً بك ويعمل لك ما فيه الخير حينما تسجد لله سبحانه وتعالى؟ فهو أحسن إليك قبل أن تسجد له، فكيف يكون تعامله معك وأنت تسجد لله تعالى؟ وكيف لا يكون نعم الوكيل؟ وكيف لا يكون هو اللطيف الخبير؟.
الأمور الثلاثة الذي رأها سيدنا موسى رؤية العين في عالم الغيب، كشفه الله سبحانه وتعالى له، وتبين أنه الخير، فهؤلاء الذين جمعوا تحويشة العمر لصناعة سفينة وحينما جاء سيدنا خضر وعيّب هذه السفينة، كم تألموا؟ ولا ندري كم دعوا على الرجل الصالح، ولما ذهبوا إلى الطرف الآخر وجدوا أنه لو كانت سفينتهم سليمة قد أخذت واغتصبت، فكم شكروا الله على هذا العيب، وكم تحولت النقمة إلى النعمة ، فإن أصبت في ضر بأموالك فاعلم أنه خير لك، لأنه كان وسيكون وراءه ضرر أكبر.
ولما يموت طفل صغير فيتألم موسى ويظن بأن هذا هو الذي قتل، ولكنها إرادة الله، ولما تبين الحق والحقيقة بأن هذا الولد لو بقي لكان ظالماً وفاجراً، فالله أبدل هذا الولد بولد صالح، فكم تألم الرجل الذي مات ابنه، وكم يفرح حينما يموت هذا الابن المجرم الذي يؤذي ويقتل، وكما هو حال اليوم في هؤلاء الظلمة وربما آباؤهم وأجدادهم لو علموا بما هم فاعلون اليوم لتمنوا أن يكون الله سبحانه وتعالى قد قبض أرواحهم قبل أن يفعلوا ما يفعلون من الجرائم.
تعلم موسى من الرجل الصالح هذا الرشد، وهو الاعتماد الكلي على الله مع الأخذ بالاسباب.
لقد تكررت كلمة الرشد ومشتقاتها في القرآن الكريم 19 مرة، يؤخذ منها أن الرشد هو حب الخالق وهو الله وحب جميع المخلوقات، فحينما تحبهم تتعامل معهم برفق وبرشد، ولا تتعامل بقسوة وشدة، كما تشير إلى ذلك الآية الكريمة ( وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ) فالراشدون هم المؤمنون، هم الذين يحبون الله، وهم الذين يحبون الخير، ويكرهون كراهة شديدة الظلم والعدوان، ويكرهون الفسوق والعصيان والخروج عن أوامر الله، ويكرهون الإيذاء ولو حشرة واحدة بدون سبب.
ومن لطف الله ورحمته أن يصل الإنسان إلى هذه المرحلة، ينبثق من حب الله حبُ مخلوقات الله، فيتعامل معهم دائماً بهذه الرحمة، ويكره كل ما فيه فسوق وفجور وعدوان وإيذاء.
والرشد في القرآن الكريم أيضاً تأتي ضد الغواية وضد الأهواء، ولا يمكن أن يتفق الرشد مع أهواء النفس، سواء كانت هذه الأهواء للمال أو للجنس أو الجاه والسلطة لذلك يقول الله ( قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ )، الغي: اتباع الأهواء، والرشد: اتباع الحق والعدل والخير والمحبة، واتباع ما يريده الله سبحانه وتعالى، واتباع ما فيه منفعة البلاد والعباد .
والرشد أيضاً يأتي في القرآن الكريم بمعني النضج في التعامل، ولذلك لا تسلم الأموال إلى الأولاد الصغار إلا بعدما يوصلون إلى النضج (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ).
مشكلتنا نحن في عواطفنا وسرعتنا في التعامل، قد يكون الشخص طيباً مباركاً، ولكنه بمجرد أي إيثارة يثور وينسى كل شيء ويخلط بين الحق والباطل، اتق الله! هل تحب أن تكون مع الغاوين ومع الظالمين والفاسدين ومع الهالكين، فهذه هوي أعمال أهل الضلال! أما أعمال أهل الرشد هو النضج والتعامل بالحكمة والهدوء، فالرشيد هو الإنسان الهادي الهادئ الهادف، والهادي هو الإنسان الذي يتعامل بالبصيرة والحكمة والعلم (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ ) ولا تتعامل بجهالة وغواية وليس المقصود بالبصيرة أن يرى أو أن ينظر أبداً، بل كم هناك من أعمى في نظر الناس، وعند التعامل معهم هم أصحاب بصيرة .
البصيرة هي أن تفكر في المستقبل، كما يسمى في الفقه ب(فقه المآلات) أي النظر في مآلات كلمتك، فلا تلقي كلمتك إلا بعد دراسةٍ داخل قلبك وعقلك، ولا تستعجل في النطق بها حتى لا تتكلم إلا بالخير .
نحتاج في مسألة الرشد إلى ترويض وتربية، وأن نعلم أنفسنا وأولادنا على الرشد في الكلام و في التفكير والتصرف والأخلاق والسلوكيات والتعامل مع الناس جميعاً ومع البيئة وكل شيء، وهذا هو الرشد الذي يريده الله منا، و إلا دخلنا في الضلال والغواية، و فيما لا يرضي الله تعالى، سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى الجماعات والأحزاب أو على مستوى الدول، أو حتى اليوم على مستوى الشركات كما يسمون بالحكم الرشيد في الشركات بعد الأزمة المالية العالمية، لما ظهرت مجموعة من المشاكل الأخلاقية، أوجدوا ما يسمى بالحوكمة والحكم الرشيد في التجارة والشركات.
وقد بين الله سبحانه وتعالى خطورة عدم الالتزام بالرشد فيذكر الله سبحانه وتعالى لنا قصص هؤلاء الطغاة الذين لم يكونوا راشدين أدى ذلك إلى أن يهلكوا أنفسهم وأن يهلكوا شعوبهم. فيتحدث القرآن عن فرعون وقومه في دراسة في غاية من الأهمية والروعة، وإن كانت كلماتها مختصرة، ولكنها تحتاج إلى شروح ومجلدات، دراسة تحليلية في كيف استطاع هذا الر جل من خلال الاستخفاف والإذلال والكبت أن يسيطر على هذا الشعب المتحضر آنذاك ، و استطاع كذلك من خلال وسائل الإعلام السائدة في ذلك العصر، وفي هذا العصر الذي نشاهده اليوم، وهم السحرة، وكانوا بالآلاف، وكانوا أصحاب مزايا، وكانوا مقربين من فرعون، فاستغل فرعون هذه الوسائل للاستخفاف بقومه وإذلالهم، كما نشاهده اليوم تماماً وتتكرر رغم أن العالم تحضر كثيراً.
وما الذي قدم فرعون لمصر وخاصة فرعون الذي أهلكه الله! ربما الفراعنة السابقون هم الذين بنوا الأهرامات، ولكن القوم اتبعوا أمر فرعون بدون مناقشة، وكانت أوامره مقدسة ولكن الله يقول (وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ)، وإلا لسمح لموسى بأخذ اليهود معه، وهم بالأصل ليسوا من أهل مصر، فيخرجون ويعودون إلى بلادهم، أو لطلب منهم البقاء بالحوار، لكن بما أن حكمه ضلال فقد أدى الأمر إلى قتل أبنائهم واستبقاء نسائهم، وما نشاهده اليوم في مصر أشد حالاً من هذه الحالة؛ لأن النساء يقتلن أيضاً.
اتصلت بي أحد الأخوات القطريات، وقالت نحن في المستشفى والدولة وفرت لنا هذه النعم عند الولادة، فكم تألمنا وهذه المرأة المصرية تلد وهي مكبلة، لا طبيبة ولا حكيمة، انظروا إلى هذا الظلم والقسوة! وما فعل فرعون الجديد في مصر؟ هل أنقذ مصر؟ هل شارك في حروب التحرير؟ أبداً، وإنما قتل فقط من أبناء مصر.
لا يجوز لحاكم يحب شعبه أن يفرق بينهم، وأن يضحي بمجموعة كبيرة من شعبه، ولا يجوز له حتى أن يضحي بشخص واحد، لِمَ لا يجلس معهم ويحاورهم؟ أيجوز الجلوس مع أهل الملل الأخرى ولا يجوز الجلوس معهم؟ فأين الرشد فيما يتعامل من في السلطة اليوم في مصر؟! هذا يؤدي إلى أن تعود أمتنا إلى حكم الدكتاتورية الشديدة القاتلة، والغواية والخداع والتضليل، وأن يعود الكبرياء والعنجهية والفرعنة.
فالرشد الرشد في تربيتنا أفراداً وجماعات، وكم حاجتنا إلى الحكم الرشيد في تعاملنا في السياسة والأموال وبناء الرجال والعقلاء.
الخطبة الثانية
كل ما يصيبنا في عالمنا الإسلامي يعود إلى عدم اتباعنا الرشد الذي يريده القرآن الكريم، وهو الرشد الذي يتفق مع العقول السليمة، ومع الفطر السليمة في الشرق والغرب.
فالرشد طريق مستقيم سمت كامل، في رؤية وبصيرة، فالمسلم يرى القيامة أمام عينيه، فكيف لا يرى آثار كلمته أمام عينيه؟.
وليس من الرشد الظلم وعدم البصيرة، ومن دون هدف فلا أدري ماذا ينتظر الظالم الجائر من مآلات أفعاله في سوريا؟ والعالم ساكت عن هذا الظلم، وقد فشلت جميع المفاوضات التي أصلاً لا يقصد منها غير التمديد في حكم هذا الجائر.
أين العالم الإسلامي في حل مشاكلنا، انظر إلى الأمم الأوروبية كيف تجمعت وتعاونت في حل مشكلة أكروانيا، فأين نحن من حل مشاكلنا؟ فهل يجب أن نرجع إليهم؛ ليحلوا مشاكلنا، ومصالحهم لا تقبل الا تدمير سوريا دولةً وشعباً.
وانظر إلى ما يحدث في فلسطين والقدس الشريف، يحاول اليهود فرض رقابتهم على القدس، وهو مخالف لجميع القوانين الدولية، ولكنه منطق القوة، وضعفنا جرّأهم على ذلك.
هناك من يدعم بقوة ويصرف أمواله مما لا تستفيد منه الأمة، بل يضرها، فهناك من يدعم دحلان للعودة إلى غزة والقضاء على المقاومة، أو من يدعم الانقلابيين في ليبيا، مع أن الحكم في ليبيا ليس بيد جماعة الإخوان المسلمين.
ولو خرجنا عن العالم العربي و رأينا ما يحدث في أفريقيا الوسطى أو الميانمار أو بنغلاديش، والله ذاك ما يندى له الجبين، فالمسلمون يقتلون ويحرقون وأمام الجيش الفرنسي، والمسلمون مستضعفون.
الحالة مزرية يحتاج إلى دعاء ودعم بكل الإمكانيات المشروعة والله المستعان.