الدوحة – الشرق
الحلقة : الثامنة عشر
المسلمون جميعاً (أي أمة الاستجابة) الذين تحقق فيهم الإيمان بأركانه الستة، والتزموا بالإسلام بأركانه الخمسة (حسب شروط كل ركن) هم الفرقة الناجية، وإن وقع منهم المعاصي والذنوب
معنى الحديث:
وأما معنى الحديث على فرض صحته، فقد اختلف في معناه، فمن العلماء من حمل الأمة هنا على أمة الدعوة (أي غير المسلمين)، أي إن الأمة التي دعاها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، قد اختلفت إلى 73 فرقة، وأما أمة الاستجابة فهم الفرقة الناجية، لأنها آمنت ودخلت في دين الله تعالى، وبالتالي فلا تدخل في الفرق الهالكة، لأنها حتى لو دخل بعضها النار فإنهم يخرجون منها؛ للأدلة الدالة على إخراج كل من قال بـ: لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
ويدل على هذا المعنى سياق الحديث الذي تحدث عن تفرقة اليهود إلى 71 فرقة، ثم النصارى إلى 72 فرقة، حيث تدل على أن الفرق في عصر اليهود 71، ثم لمَّا جاء المسيح (عليه السلام) برسالته ازدادت الفرق بواحدة، وهي من لم يؤمن بها، ثم لمَّا جاء الرسول صلى الله عليه وسلم برسالته العامة ازدادت فرقة واحدة، وهي من لم يؤمن بها.
وقد استحسن الصنعاني هذا المعنى، ولكن قد يـشوش عليه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: “تفترق” للمستقبل، مع أن التفرقة كانت موجودة قبل عصره صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ويمكن أن يجاب: أن الاستقبال لزيادة الفرقة الثالثة والسبعين بسبب نزول رسالة الرحمة للعالمين، وليس لأصل التفرق الذي كان موجوداً. وبناءً على هذا التفسير؛ فإن المسلمين جميعاً (أي أمة الاستجابة) الذين تحقق فيهم الإيمان بأركانه الستة، والتزموا بالإسلام بأركانه الخمسة (حسب شروط كل ركن)، هم الفرقة الناجية، وإن وقع منهم المعاصي والذنوب، فهم في المآل مؤمنون ناجون من عذاب جهنم، وإن عذَّب بعضهم تطبيقاً لقوله تعالى: “ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ”، قال ابن كثير في تفسير (ظالم لنفسه) “هو المفرط في فعل بعض الواجبات، المرتكب لبعض المحرمات، ويدل عليه قوله تعالى “وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ”، حيث جاء بعد قوله تعالى: “وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ”.
وروى الترمذي والطبراني بسندهما عن أبي سعيد الخدري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية: “وكلهم في الجنة” وروى الطبراني بسنده عن أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية: “كلهم من هذه الأمة”، وروى أحمد بسنده عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: فمنهم ظالم لنفسه” يعني: الظالم يؤخذ منه في مقامه ذلك، فذلك الهم والحزن، ومنهم مقتصد قال: يحاسب حساباً يسيراً..”، وفي بعض الروايات الصحيحة بلفظ “.. والظالم لنفسه يحاسب حساباً يسيراً ثم يدخل الجنة”.
نُقولٌ من بعض العلماء حول متن الحديث ومعناه
وبناءً على ما سبق فإن ظاهر معنى الحديث لا يستقيم مع هذه الآيات ونحوها، لأن معنى “كلهم في النار” أي مستقرون في النار، وأن معنى “كلها هالكة إلا واحدة” أي إن أكثريتهم هالكون، وإن القلة المستثناة هي الناجية فقط، ومن المعلوم أن تخصيص أمة الإسلام بالاستقرار في النار، أو الهلاك لا يتفق مع الآيات والأحاديث الدالة على خيرية هذه الأمة ـ كما سبق ــ
ومن جانب آخر فإن الهلاك والاستقرار في النار من نصيب الكفرة المكذبين للرسول صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال العلامة ابن الوزير: “وإياك الاغترار. بـ “كلها هالكة إلا واحدة” فإنها زيادة فاسدة غير صحيحة القاعدة، ولا يؤمن أن تكون من دسيسة الملاحدة”، وسبق قول الشوكاني في هذه الزيادة. ويقول شيخنا القرضاوي: “وفي متن هذا الحديث إشكال، من حيث إنه جعل هذه الأمة التي بوأها الله تعالى منصب الشهادة على الناس، ووصفها بأنها خير أمة أخرجت للناس، أسوأ من اليهود والنصارى في مجال التفرق والاختلاف، حتى إنهم زادوا في فرقهم على كل من اليهود والنصارى”، ثم قال: “ثم إن هذا الحديث حكم على فرق الأمة كلها إلا واحدةً بأنها في النار، هذا مع ما جاء في فضل هذه الأمة، وأنها مرحومة، وأنها تمثل ثلث أهل الجنة، أو نصف أهل الجنة، على أن الخبر عن اليهود والنصارى بأنهم افترقوا إلى هذه الفرق، التي نيفت على السبعين، غير معروف في تاريخ المِلَّتَين، وخصوصاً عند اليهود، فلا يعرف أن فرقهم بلغت هذا المبلغ من العدد”، وانتهى فضيلة العلامة إلى أن الحديث ضعيف سنداً، وأن متنه لو قُبِل يَحتاج إلى تأويل فقال: “لا يدل على أن هذا الافتراق بهذه الصورة، وهذا العدد أمر مؤبد ودائم إلى أن تقوم الساعة، ويكفي لصدق الحديث أن يوجد هذا في وقت من الأوقات، فقد توجد هذه الفرق ثم يغلب الحق باطلها، فتنقرض ولا تعود أبداً”.