شهد مركز قطر الوطني للمؤتمرات يوم الاحد الماضي تظاهرة وفاء من قطر لواحد من رواد التعليم العالي وأحد رموز الحضارة الاسلامية في السودان وقطر، حيث عقدت كلية الدراسات الاسلامية ندوة علمية تنويرية حول جهود المؤرخ والمفكر الراحل الدكتور عثمان سيد احمد البيلي وزير التعليم السوداني الاسبق الذي عمل استاذا بجامعة قطر ومؤسس ومدير مركز الشيخ محمد بن حمد لإسهامات المسلمين في الحضارة في الذكرى الاولى لرحيله حيث توفي في الدوحة في الرابع عشر من مارس 2011.
واستعرضت الندوة جهود المرحوم البيلي العلمية وعطاءاته الانسانية وإسهاماته في نشر الدعوة الاسلامية في افريقيا سواء بجهوده الفردية او عبر منظمة الدعوة الاسلامية بصفته من المؤسسين للمنظمة.
وقد حضر الندوة المشير عبد الرحمن سوار الذهب رئيس السودان الأسبق رئيس مجلس امناء منظمة الدعوة الاسلامية والدكتور حاتم القرنشاوي عميد الكلية والدكتورة عائشة المناعي عميدة كلية الشريعة بجامعة قطر مديرة مركز اسهامات المسلمين في الحضارة والدكتور عبد الله جمعة الكبيسي رئيس قسم اللغة العربية بجامعة قطر وابناء الراحل ورفاقه من الوزراء السابقين والسفراء والاساتذة والعلماء وتلاميذ الفقيد واعضاء السفارة السودانية.
وجدير بالذكر ان الفقيد تخرج في جامعة الخرطوم وشارك في صنع المشهد الفكري السوداني الذي كانت تموج به الجامعة ما بين تيارات فكرية يسارية شيوعية واسلامية اخوانية فاختط لنفسه طريقا وسطا حتى قيل انه عاش اجواء الربيع العربي في جامعة الخرطوم في الخمسينيات قبل ان يعرفها الوطن العربي في 2011، ونال دراساته العليا من جامعة لندن، وبعد تخرجه عاد إلى السودان، وعمل محاضراً بقسم التاريخ، ثم رئيسا للقسم، ثم عميداً لكلية الآداب جامعة الخرطوم. وختم فترة عمله بالسودان وزيراً لوزارة التربية والتعليم العالي في عهد النميري حيث اتخذ قطر وطنا ثانيا فاضت على ارضها روحه، إذ قدم الى الدوحة سنة 1985 استاذا ورئيسا لقسم التاريخ بجامعة قطر وأسس وأدار مركز الشيخ محمد بن حمد لإسهامات المسلمين في الحضارة منذ عام 1995 حتى عام 2011 حيث رحل عن عالمنا بعد صراع مع المرض.
وقال فضيلة الامين العام للاتحاد العالم يلعلماء المسلمين علي القره داغي داغي أن الفقيد الذي رافقه منذ لحظة قدومه الى قطر حيث كان مقرهما الاولي في فندق شيراتون وجاوره في سكنه بفريق كليب وزامله في التدريس بالجامعة وصاحبه في مجالسه العلمية الدعوية فاستفاد منه تاريخا وفكرا وعلما وسياسة وتربية واستفاد منه الراحل فقها. وفيما يلي نص كلمته:
بسم الله الرحمن الرحيم
اصحل السعادة والسماحة والفضيلة
إخوتي وأخواتي
لا يسعنا ونحن نحيي ذكرى الاستاذ الدكتور عثمان سيد احمد اسماعيل البيلي استاذ الاجيال علماً وخلقاً، وهدوءاً وقدوة، إلا أن نتقدم بالشكر الجزيل والثناء العاطر لمؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع، وكلية الدراسات الاسلامية، ولدولة قطر شعباً وأميراً وحكومة على إحتضانها للعلماء واحتفائها بهم أحياءً وأمواتاً، وعلى هذه الندوة المباركة عن عالم ومؤرخ كبير فبارك الله في الجميع.
ايها الاخوة الكرام:
تعرفت على الاستاذ الدكتور عثمان البيلي عندما شاء الله تعالى ان ناتي معاً الى جامعة قطر الحبيبة، وأن يجمعنا السكن في شيراتون قبل ترتيب السكن، حيث أحببته، وقويت أواصر الاخوة والمحبة من خلال جلسات العلم والحوار المتواصلة حتى عندما قامت جامعة قطر بتوزيع المساكن على الاساتذة طلبنا أن يكون بعضنا بجانب البعض، ولكن ادارة الجامعة قالت: بسبب التنافس واختلاف المناطق قررنا أن يكون ذلك بالقرعة، فحزننا، ثم قال لي الدكتور عثمان (رحمه الله): يا علي : أنت تدعو الله بطريقتك، وأنا كذلك أقرأ ختمة بتهليل وتسبيح لعل الله تعالى يجعل مسكني جنب مسكنك، وفعلاً دعونا، وانتظرنا فإذا القرعة طلعت أننا جنب البعض تماماً فبقينا أخوين وجارين، وقررنا أن يكون صحبة علم وتعلم فهو يعرض علي المسائل الفقهية، والاقتصادية، وأنا أعرض عليه القضايا التأريخية والسياسية والتربوية، فقد استفدت منه الكثير، فقرأت معظم ما كتبه من البحوث والكتب، والذي أتاسف عليه أنني لم أدون الملاحظات والافادات خلال صحبة طويلة في البيت، وفي الطريق الى المسجد، وخارج البيت، ويزداد أسفي اذا كان الدكتور نفسه (رحمه الله) لم يسجل مساهماته العظيمة وملاحظاته الدقيقة، وتحليلاته العميقة، وتجاربه العديدة، وتصوراته النيرة، فحمل معه كل هذه المعلومات الى مرقده، فخسر الناس بذلك خسارتين، خسارة فقده، وخسارة لا تعوض في فقدنا لتلك التجارب..
ايها الاخوة والاخوات،
إن الحديث عن ا.د. عثمان البيلي حديث عن جيل شامخ، وجبل راسخ شاهق أشم، فقدنا بموته الكثير كما يقول الشاعر:
لعمرك ما الرزية فقدُ مال ولا شاة تموت، ولا بعيرُ
ولكن الرزية فقدُ حرّ يموت بموته خلق كثير
فقد كان رحمه الله أحد رواد التاريخ والحضارة، وأحد كبار ربط ثقافتنا بالأصل وتراثنا الأصيل، ووصلها بالعصر، يظهر ذلك من خلال كتبه، ولا سيما كتابه الموسوم “الكشاف الميسر لفهارس كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبرلابن خلدون”، حيث وصفه ا.د. هشام الخطيب بأنه ليس مسألة تنظيم شكلي فحسب، بل هو أكبر من ذلك بكثير، ويستحق أن يوصف بأنه إحياء لتراث ابن خلدون الذي يقوم سداه على مقدمة كتاب العبر، والمجلدات الستة اللاحقة لها، إذ يحوي في صدره فهارس سلسلة عن محتويات الكتاب، ويكتنز في عجزه نخبة عن الموضوعات المختارة التي تتناول المداخل المعرفية لإبن خلدون وإسهاماته الفكرية.
فالدكتور عثمان رحمه الله كان مهتماً بدراسة هذا الجانب التأريخي مع ربطه بعصرنا، حيث يمثل هذا الجانب بعداً كبيراً من ابعاده الأربعة المشرقة المضيئة.
كان متاثراً بمنهج ابن خلدون في الربط والتعليل والتحليل، حيث يظهر ذلك في كتابه: “دراسات في تاريخ الخلافة العباسية: ثلاثية الحكم في العصور العباسية: الخلافة، والسلطة، والدولة”. فالكتاب ليس مجرد سرد او قراءة للتأريخ، ولا مجرد تحقيق وإنما فيه الكثير من التحليل والتعليل، وقد أكمل ذلك بكتابه الثاني الخاص بدراسات حول المعتصم وعسكرة الخلافة العباسية.
وميزة أخرى لهذين الكتابين هي أنهما أبرزا العطاء الفكري والثقافي والحضاري الذي شهده عصر المعتصم مع بدئها للصراعات المريرة.
والبعد الثاني هو عنايته القصوى بالاسلام في افريقيا من خلال كتابه الموسوم: “جوانب من الاسلام في افريقيا” حيث دافع فيه عن الاسلام وانتشاره في غرب افريقيا، وأنه لم ينتشر بالسيف والقوة، وإنما بالدعوة والحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، حيث ردّ بذلك على مزاعم المستشرقين، ويظهر ذلك جلياً في كتابه الآخر الموسوم: “جوانب من الاسلام والثقافة العربية الاسلامية في افريقيا” وهو كتاب يضم عدة مقالات أصيلة في هذا الجانب.
والبعد الثالث هو بعد عنايته وإهتمامه ببلده السودان الشقيق الذي كتب عنه، وعاش له، بل لأمته العربية والاسلامية، فكتب عدة مقالات في مجالات مختلفة، لا تسع المجال لذكرها، ولكن الجدير بالذكر هو قلقه الذي كنت اشاركه في جلساتنا وهو القلق على وحدة السودان، حتى كتب قبل وفاته مقالة عنوانها: “توحدوا من اجل الشمال والجنوب”، قال فيها: “ما عاد الأمر أمر سلطة تقسم أو ثروة تقسم، أو حكومة تبدل، أو دستور يعدل، ، ثم قال:”وما عاد الأمر أمر محاسبة من فرط الوحدة، أو من مهد للانفصال، الزمن لايسمح بهذا الترف، لأن الزمان زمان لمّ الشمل، وإدراك الواقع…” ثم توقع الانفصال بوضوح في مقالته التي كتبها بفترة قبل الانفصال، فقال: “فالراجح أن إنفصال الجنوب وااقع لا محالة”
البعد الرابع هو بعده الحضاري الذي كان يعيش في عقله ولبّه وتفكيره، حيث كنت حينما اجلس معه كان الحديث عن حضارتنا السابقة، ويقول: يا علي: كيف كنا، والآن أنظر ما نحن فيه، وهل الغد يحمل لنا عودة الامة الى التقدم والحضارة، أو عودة الحضارة والتقدم الى أمتنا. فكنت اقول: أمتنا خالدة بالوصف، وليس بالجنس، ولعنايته القصوى بالحضارة إتصل بي أحد الأيام: يا علي أبشرك بأن سعادة الشيخ محمد بن حمد آل ثاني حفظه الله يفتح مركزاً لإسهامات المسلمين في الحضارة، وطلب مني أن أكون مديراً له. ففرحت كثيراً ثم كان الحوار الدائم بيني وبينه بحكم أنني حققت كتاب الوسيط للغزالي وكتبت عنه، فقال لي : رشح لي مجموعة من كتب التراث. فجزى الله الشيخ محمداً خيراً على أن حقق أمنية الدكتور عثمان، بل حقق جزءاً كبيراً من أمنية أمتنا الإسلامية، حيث لم نستفد كثيراً من إمكانياتنا المادية والمعنوية لبيان اسهامات حضارتنا الاسلامية التي كانت المقدمات الممهدات للحضارة الغربية المعاصرة.
وفي الختام فإن الحديث عن هذا الجبل الاشم لا ينتهي، فلكم الشكر على هذا الوفاء ولدولتنا الفتية الوفية ولقيادتها الحكيمة والرشيدة الدعاء الخالص والثناء على العناية بالعلم والعلماء.
واكتفي بهذا القدر حتى لا أطيل، وعزاؤنا أن الموت ليس آخر المطاف بل هو – إحدى المحطات-
فأملنا جميعا ان نلتقي به جميعاً في الفردوس الأعلى.
كما أنه حي بيننا بآثاره الطيبة فهو حي بأولاده الصالحين وحي بأنه ترك علماً نافعاً،
فرحمه الله وبارك الله في اولاده عملا وعلماً وفي جميع الحاضرين.
والسلام عليكم ورجمة الله وبركاته
ا.د. علي القره داغي
26/3/2012