بسم الله الرحمن الرحيم

أيها الإخوة المؤمنون

لقد تحثنا في الخطب السابقة عن أهمية التغيير في الأنفس والأرواح والعقول والسلوك، وفي هذه الخطبة نتحدث عن الخطوة الثانية التي تقتضيها عملية الإصلاح وتقتضيها عملية صلاح الفرد والأمة والمجتمع، وهذه الخطوة الثانية هي عملية الإصلاح لكل ما فسد في حياة الإنسان، والإصلاح أهم مطلب بعد العقيدة الصحيحة من مطالب وغايات وأهداف الرسائل السماوية التي أنزلها الله سبحانه وتعالى لإصلاح البشر، بل كان الإصلاح دائماً شعار الأنبياء كما عبر عن ذلك سيدنا شعيب (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)

وقد كان سيدنا شعيب رسولاً لإصلاح السلوك والمعاملات، ولذلك كان يصنف أنه أتى لإصلاح المعاملات والجانب الاقتصادي، حيث كان قومه في مدين قد عاثوا في الأرض فساداً، وقاموا بالغش والتطفيف، وعدم مراعاة المكاييل والموازين، وعدم حفظ الأمانات، وغير ذلك مما تقتضيه المعاملات في الإسلام وفي جميع الأديان السماوية.

لذلك بدأ الله سبحانه وتعالى في سورة هود (وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ۚ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ۚ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ).

 وسيدنا شعيب انطلق للإصلاح من منطلقين أساسيين: الأول: العقيدة لإصلاح الداخل، والثاني: الشريعة لإصلاح الخارج والمعاملات وغيرها. فركز سيدنا شعيب على جانب العقيدة بحيث ربط الإنسان بالله سبحانه وتعالى أساساً، لأن ما يحدث من الغش ومن تنقيص الميزان والتطفيف في حقيقتها لا تعالج إلا من خلال عقيدة قوية قويمة مؤثرة في النفوس.

من هنا تسمى الأزمة المالية التي ما زال العالم يعاني منها بأزمة الأخلاق التي ترتبت عليها الأزمة الاقتصادية. 

وعبر سيدنا شعيب بـ (مالكم من إله) أي ما لكم من معبود وخالق ورازق ومقدر الأشياء، فالأشياء التي تعملونها من أجل الغنى أو لأجل المال غير صحيح، وإن الرزق بيد الله وإن الإنسان قد قدر له ما كان وما يكون.

فإذا رُبط الإنسان بهذه العقيدة الصحيحة حينئذ لا يكون جشعاً ولا طماعاً ولا يكون بحيث لا يشبع أبدًا، وإنما يتوكل على الله سبحانه وتعالى دائماً، ويقتنع بما آتاه الله قليلاً كان أو كثيراً. وهذه المعالجة الأساسية التي مازال العالم اليوم ـ على رغم تقدمه وعلى رغم ما وصل إليه من تقنيات ـ في أشد الحاجة إلى جوانب القيم والعقيدة والأخلاق.

وبعدما حاول شعيب ربطهم بالله سبحانه وتعالى وأن يكون إيمانهم بالله على سبيل الحقيقة، والتوكل الحقيقي على الله، حينئذ ربطهم بمستقبل آخر على الإنسان أن يعمل له كما يعمل لدنياه، وهو مستقبل اليوم الآخر الذي يبدأ بعد الموت وينتهي بعد ذلك إما إلى الجنة أو إلى النار، وهي مسافة زمنية طويلة لا يعلم مداها الا الله سبحانه وتعالى، فإذا كان الإنسان مرتبطاً بهذين الجانبين، حينئذ إن كان مؤمناً حقًا بهذين الأمرين: بالمبدأ والمنتهى، لا يستطيع أن يعمل الغش ولا الخيانة ولا أي عمل سيء من جانب المعاملات وفي غيرها، لأنه يعلم أنه إذا آذى شخصاً أو أكل أموال الناس بالباطل وفعل الفواحش ما ظهر منها وما بطن أن له مصيراً محتوماً وأنه سيموت، وفي القبر أول ما يحاسب عليه هي هذه الأموال التي جمعها ولن تذهب معه ولن تكون معه وإنما تبقى بأيدي الناس، وبالتالي لن تنفعه هذه الأموال إلا إذا قدمها لمستقبله في القبر، وما بعد القبر من الحشر، إلى أن ينتهي المطاف به؛ إما أن يكون في الجنة أو في السعير.

الذي يعمل المنكر يغفل عن الأمرين، يغفل عن المبدأ الخالق ويغفل من المنتهى القبر، فكيف يستطيع أن يرتكب المنكر وهو يمكن بعد لحظة أو دقيقة أن يموت وأن الله سيحاسبه مرتين: مرة في القبر، فإن نجا تحول القبر إلى روضة من رياض الجنة وإن كان ذا مشاكل تحول القبر إلى حفرة من حفر النيران.

الناس اليوم مشاكلهم في الاثنين: في عدم إيمانهم القوي بالله بأنه الخالق والرازق وأن الله ،وهو الخالق، أعطى للإنسان ضماناً برزقه، وأن رزقه يصله إليه كما ذكره الله في سورة الذاريات .

إن التركيز على تقوية الجانب الإيماني هو السبيل الوحيد لإصلاح الإنسان من الداخل، وبه يصلح من الخارج، لأن الخارج تعبير عن الداخل، ولذلك لو خشع قلب الإنسان لخشعت جوارحه، ولو ارتبط قلب الإنسان بالله سبحانه وتعالى ارتباطاً حقيقياً لارتبطت الجوارح بالله سبحانه وتعالى، حتى إذا غفل غفلة أو سها سهوة  سرعان ما يعود إلى الله سبحانه وتعالى عن هذا الخطأ أو النسيان.

الجانب الثاني الذي انطلق منه سيدنا شعيب، وهو امتداد لمنهج الإسلام، هو الشريعة، والمقصود بالشريعة هنا معالجة الجوانب العملية وسلوكيات الإنسان وتصرفات الإنسان وتعامله مع الناس .

هذا التعامل ضبطته الشريعة تماماً، ولا نجد من حركات الإنسان أو تصرفاته إلا بيّن الله لنا حكمه، هل هو حلال أم حرام أم مندوب إلى آخره، وبينه إما بالنص لا سيما في مجال العبادات، أو عن طريق الاستنباط أو القياس، الذي يقوم به العلماء الربانيون من عصر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الخلافة الراشدة وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

والشريعة في جانبها التعاملي ركزت على أن الدين الحقيقي هو المعاملة وأن مقياس قرب وبعد الإنسان من الله تعالى والجنة هو السلوكيات، وهذا ما ورد في أحاديث كثيرة . وأن أقربهم إلى الله وإلى الجنة الذين يتحلون بالأخلاق الفاضلة الطيبة، وأن أبعدهم عن الله وأقربهم إلى النار الذين لا يتحلون بالأخلاق الفاضلة، وهذا هو المعيار الحقيقي للإنسان، وإذا أردت أن تقيس نفسك وأن تزن نفسك وزناً حقيقياً، وكم أنت قريب من الله أو بعيد منه، وكم أنت قريب من الجنة أو بعيد عنها فانظر إلى سلوكياتك وتصرفاتك.

(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فالاتباع والعمل والسلوك والأخلاق الفاضلة والقيم السامية هي المعايير الحقيقية لوزن الإنسان، وما العبادات إلا غاية ووسيلة للتأثير على سلوكيات الإنسان (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) وكذلك الصيام ( لعلكم تتقون) والتقوى هي الجانب العقدي الذي يجعل القلب مرتبطاً بالله، حتى يعلم المرء بأن الله يراه في كل تصرفاته ( أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك).

إذا كان التغيير حقيقياً في الأنفس وفي الداخل بسبب العقيدة الصحيحة فإن آثار هذا التغيير تظهر في الإصلاح، فإذا أردت التغيير والسير على منهج الأنبياء والرسل وتريد أن تصلح فلا بد لأن يتجسد  إيمانك وعقيدتك بهذه القوة، وتعمل بأمر الله، وتعلم أن الرزق مربوط بأمر الله، وكذلك في الإيمان بالله في قضايا الخوف، وقضايا مظلمة الناس، وإذا وجدت خللاً في هذا المجال فعليك بالإصلاح، وأول شيء تبدأ به في عملية الإصلاح إصلاح النفس، ومعالجة الأمور السيئة بما يضادها من أخلاق طيبة، إذ النفس الإنسانية إذا تركت وشأنها ولم يتدخل الشيطان في توجيهها فإنها تحب الخير؛ لأن النفس الإنسانية مفطورة على الحنيفية السمحاء ( كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) .

علينا أيضا أن نذكر أنفسنا صباحاً ومساءً بتقوى الله كما كان يفعل عمر كان يطلب من الناس أن يذكروه بالله من بعد العشاء بـ ( اتق الله يا عمر في ليلك )، وفي الصباح بعد صلاة الفجر بـ ( اتق الله يا عمر في نهارك )، وكانت هاتان النصيحتان ملازمتين لعمر من المؤمنين، وذلك ليحاسب نفسه ( حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ).

الخطبة الثانية

بعدما تحدثنا عن الإصلاح، نرى أن كل المشاكل في الأمة الإسلامية في تفرقها وتمزقها، وما وصل إليه الأمر من الشعوب أن يضحوا بأنفسهم، وبفلذات أكبادهم بسبب هذا الفساد، الذي عم معظم العالم الاسلامي، كما قال الله تعال (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) ولا سيما مع هذه الحكومات الدكتاتورية التي وصل بهم الاستبداد والاستكبار والظلم إلى أن لا يحس الإنسان داخل هذه البلاد بنفسه وإنسانيته وكرامته وبكلمته، ويخاف متى يؤخد، ومتى يعتدى عليه، ومتى يأتي زوار الفجر.

كم قتلوا، وذبحوا وأهانوا؟ ففي سوريا في الثمانينات كم من النساء اعتقلن وسجن وقتلن بالتعذيب، مما تهتز له القلوب. لذلك ثارت الشعوب، ووقفة هذه الشعوب مبررة شرعاً وقانوناً، وهؤلاء لم يقوموا بالسلاح وإنما قاموا بالمظاهرات السلمية في سوريا وفي كل بلدان الربيع العربي، ولكن الحكام الظلمة قاوموا السلم بالاعتداءات، وأول من اعتدي عليه كانوا أطفالاً، هكذا كانت البداية لهذه الثورة المباركة في سوريا، وشعارهم في الثورة وكأن الله ألهمهم ( ما لنا غيرك يا الله ) وبالفعل لم يعنهم في مواجهة النظام الشرس  إلا الله وكذلك بعض الدول منها قطر وتركيا والسعودية ويحارب الثوار النظام بالأسلحة التي يغتنمونها من جيش النظام، الذي كون أساسًا لمحاربة إسرائيل ولكنهم رجعوا عن الجولان والآن أسلحتهم موجهة إلى صدور الثوار.

لذا يجب علينا أن نقف مع الشعب السوري، والوقوف معهم فريضة شرعية، ومن تخلف عنه فهو آثم، فيجب دعمه بالمال، وعلى الحكومات دعمه بالسلاح والتأييد، و جزى الله قطر خيراً فقد طرد سفير هذا النظام الفاسد وأتبعه بتعيين سفير للثوار؛ ليكون سفير الجمهورية الجديدة قريباً بإذن الله، ونرجو من الدول الأخرى أن يقلدوا قطر في هذه الخطوة، فما الذي بقي من شرعية النظام حتى تبقى سفراؤهم.

وأوروبا تدعي مساندة الشعب السوري ولكن مصلحتها في إسقاط الشعب السوري كله ومؤسساته، وكله لأجل إسرائيل، حتى تنشغل سوريا بنفسها لسنوات، ولا تتفق مع الدول المتحررة لإنهاء العدوان في الأراضي المحتلة في فلسطين.

ولا ننسى إخواننا في العراق الذين يطالبون بحقوقهم بثورة سلمية، ولكنها لا تستجاب ونرجو من الحكومة الاستجابة لمطالبهم، ونرجو أن تبقى ثورتهم سلمية، وإلا فنار الفتنة الطائفية تأكل الأخضر واليابس.

وما يحدث في فلسطين، في غياب وانشغال المسلمين بهذه القضايا، من بناء آلاف المستوطنات، وكذلك في تعذيب إخواننا الأسرى، وعلى رأسهم الأسير سامر العيساوي، نسأل الله أن يفرج كربه، وأن يخلصه من العدو الصهيوني الذي كاد أن يموت بسبب إضرابه واعتصامه.