الدوحة – الشرق
الحلقة : التاسعة عشر
كل الفرق الإسلامية ادعت الوصل بليلى في أنها الفرقة الناجية، ووضعت بعضها لنفسها آثاراً تدل على ذلك، كما استغلت آثاراً أخرى لوصف فرقة معينة بأنها الفرقة الهالكة، أو من الفرق الهالكة:
1 -فقد وضعت بعض الشيعة بعض الأحاديث المنسوبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منها ما روي عن سيدنا علي عن النبي (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) بلفظ “.. ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، منها فرقة ناجية، والباقون هالكة، والناجية: الذين يتمسكون بولايتكم ” الخطاب لسيدنا علي، ومنها: أن النبي (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) قال لعلي:” يا أبا الحسن.. وأن أمتي ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، فرقة ناجية، والباقون في النار ” فقلت: يا رسول الله ما الناجية؟ قال: المتمسك بما أنت وأصحابك عليه ” وكلا الحديثين فيهما الضعف، والانقطاع والنكارة، بحيث لا يقبلان حسب قواعد الجرح والتعديل، وقد ردَّ على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه منهاج السنة بثمانية أوجه
2 -والمعتزلة أيضاً وضعت لنفسها حديثاً بلفظ:”.. ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة، أبرُّها وأتقاها الفئة المعتزلة ” وهو حديث واه بل موضوع ومنكر باتفاق النقاد.
3 -وبالمقابل فقد أُقحمت أسماء بعض الفرق بأنها هي الهالكة مثل ما رواه ابن أبي عاصم بسنده عن علي (رضي الله عنه) قال:” تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وأنتم على ثلاث وسبعين، وإن من أضلها وأخبثها من يتشيع أو الشيعة ” وفي إسناده ليث بن أبي سليم، وهو معروف بالضعف، وأنه اختلط، كما أن الوضع ظاهر من صياغته، وذكر الذهبي بأن ليث بن أبي سليم مولى آل أبي سفيان بن حرب الأموي، قال أحمد: ليث مضطرب الحديث، كما أن علماء الجرح متفقون على ضعفه وتخليطه، وقالوا أبو حاتم: لا تقوم به حجة.
وكذلك روي أن أهل القياس هم الفرقة الهالكة، حيث روى الحاكم، والطبراني، وابن حزم، والحاكم وغيرهم بسندهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:”تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة، أعظمها فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم فيحلون الحرام ويحرمون الحلال”، قال الحاكم “صحيح على شرط الشيخين”، قال البيهقي: تفرد به نعيم بن حماد، وسرقه منه جماعة من الضعفاء وهو منكر وقال ابن عدي: قال لنا ابن حماد: هذا وضعه نعيم بن حماد وجاء في تاريخ بغداد أن يحيى بن معين حكم على هذا الحديث بأنه منكر.
وورد في بعض روايات الحديث أن الفرقة الهالكة هم “الزنادقة وأهل القدر” وهذه الرواية ليس لها أصل كما قال يحيى بن معين، وهناك روايات أخرى في تحديد الفرقة الهالكة أو الناجية وكلها إما موضوعة ومنكرة أو ضعيفة.
تأصيل الفرق الهالكة، والفرقة الناجية بناءً على هذا الحديث:
ومع أن حديث الافتراق ثبت لدينا بالمنهج العلمي أنه ضعيف جداً، بل منكر في معظم طرقه، وأنه وقع في متنه اختلاف واضطراب، وما في معناه من إشكاليات، لكنه مع ذلك بنى عليه البعض تقسيم الأمة وتصنيفها على أساس الفرقة الناجية، والفرق الهالكة، ودخلت الأهواء، وادعت كل فرقة أنها الناجية، وغيرها هي الهالكة الداخلة في النار، وأدى ذلك إلى التزكية للفرقة التي ينتمي إليها الشخص، واتهام غير من لا ينتسب إلى جماعته وفرقته بأنهم من الهالكين، فازدادت الأمة تفرقاً وتمزقاً، ودخل سلاح التكفير والتبديع في هذا المجال من أوسع الأبواب، وتفرع من التكفير التفجير كما نراه اليوم.
والذي تقتضيه الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة هو الانطلاق من الأمة الإسلامية الواحدة، واعتبارهم من الناجين المقبولين جميعاً، والابتعاد عن التكفير، والتبديع والتضليل داخل الأمة الإسلامية للوصول إلى لمِّ الشمل وتوحيد الكلمة، والتعامل والتعاون على البر والتقوى، وعدم التعاون على الإثم والعدوان والظلم والطغيان، والانطلاق من هذا الإطار لا يمنع التنافس على الخيرات والمسارعة فيها كما لا يمنع الإرشاد والنصح والتوجيه من الجميع للجميع كما قال تعالى: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ).
تزكية النفس
أما قيام كل فرقة أو جماعة (داخل الأمة الإسلامية) بتزكية نفسها وحصر الحق فيها وجعلها الفرقة الناجية، وغيرها من الفرق الهالكة فهذا مخالف لظاهر النصوص الشرعية من الكتاب والسنة، وما كان عليه السلف الصالح، حيث كان الأصل في المجتمع الإسلامي هو حسن الظن بالناس فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ).