العرب الدوحة
في تحليله لحقيقة التعاون يرى القره داغي أن التعاون سر من أسرار الله أودعه في جميع خلقه، وبما أن الله خلق الإنسان مدني الطبع لا يستطيع أن يعيش دون عون أخيه في حياته كلها، بل التعاون فطري حتى بين الحيوانات، ولكنه كلما ازداد التعاون بينها كلما ازدادت به رقيّاً، فالنحل والنمل إنما خصص الله تعالى لكل واحدة منهما سورة، لأنهما في قمة الصبر والتعاون والتنظيم، ولأن فيهما قدوة وعبرة وفوائد للإنسان ليستفيد من تنظيمهما وتعاونهما البنّاء.
في تأصيله للعمل الإنساني، وذِكر دور الإسلام في ترسيخه، يرى الدكتور على محيي الدين القرة داغي، أن حضارة الإسلام قامت على التعاون البنّاء والشراكة الحقيقية والإيثار، مشيراً إلى أن جانب الإيثار يختزل الكثير من المعاني الإنسانية، لذا وصف الله تعالى الجيل الأول من هذه الأمة بقوله: (…وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)، حيث تآخى الأنصار مع المهاجرين، وعلى أساس تلك الأخوة تنازل الأنصار عن نصف ما لديهم من ثمار لإخوانهم المهاجرين في صفقة مؤاخاة لم يشهد التاريخ مثلها جلالاً وروعة وصفاء وحباً وإيثاراً.
وقد أقام الرسول صلى الله عليه وسلم المجتمع الإسلامي الأول على أساس الحب لله ولأوليائه، والخير المتجسد في العقيدة والأخلاق التي يتصدّر التعاون منها موقع الصدارة، حيث تمت المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار على أساس العقيدة، ثم كتب صحيفة بينه وبين اليهود والمشركين الموجودين في المدينة المنورة على أساس المواطنة، والدفاع عن المدينة تعدّ قمّة في التعاون الإنساني، كما أنها أول دستور يجمع جميع الساكنين في الدولة على أساس التعاون على البرّ والتقوى، وجعلهم أمة واحدة في التعاون على الدفاع ونحوه.
ثم إن مظاهر التعاون البنّاء المصحوب بالأخوة الصادقة والحب المفعم كانت تتجلى في كل تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث كان يبدأ بنفسه، فلما بنى مسجد المدينة شارك في مستلزمات البناء، فقال قائل من المسلمين:
لئن قعدنا والنبيّ يعمل
لذاك منا العمل المضلل
ثم ارتجز الأنصار:
لا عيش إلًا عيش الآخرة
اللهم ارحم الأنصار والمهاجرة
وردّ عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو يحمل ويعمل معهم: (لا عيش إلّا عيش الآخرة اللهم ارحم المهاجرين والأنصار)، ويوم الخندق كان صلى الله عليه وسلم ينقل التراب حتى أغبّر بطنه وهو يقول:
والله لولا أنت ما اهتدينا
ولا تصدقنا ولا صليّنا
فأنزِلَنْ سَكِينةً علينا
وثبِّت الأقدام إنْ لاقينا
إنْ الأُولى قد بغوا علينا
إذا أرادوا فتنة أبَيْنا
وقد عقد البخاري له باباً سماه: باب التعاون في بناء المسجد وباباً آخر سماه: باب تعاون المؤمنين بعضهم بعضاً، ثم روى بسنده عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضاً)، ثم شبّك بين أصابعه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً، إذ جاء رجل يسأل أو طالب حاجة، أقبل علينا بوجهه فقال: (اشفعوا فلتؤجروا، وليقض الله على لسان نبيه ما شاء)، قال ابن بطال: (والمعاونة في أمور الآخرة، وكذلك في الأمور المباحة من الدنيا مندوب إليها، وقد ثبت حديث أبي هريرة: (والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه).;