بسم الله الرحمن الرحيم
أيها الاخوة المؤمنون
إن أكبر داء أصاب الأمة الإسلامية في جماعتها ودولها وحكوماتها وأفرادها وشركاتها ومؤسساتها هو داء الفساد. وداء الفساد يشمل الفساد المالي والسياسي والاجتماعي وكل الأنواع الأخرى من الفساد، لذلك أولى الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم عناية قصوى بعلاج هذا المرض القاتل، هذا الداء الخطير الذي إذا شاع وانتشر لم يكن هناك تقدم ولا نهضة، وإنما تكون هناك جيوب تدخل فيها أموال الفقراء والمساكين، وأموال الأمة، وتصبح الأمة حينئذ طبقات تكون الغالبية القصوى تعاني من الفقر والمشاكل والبطالة والتضخم.
ولذلك ذكر الله سبحانه وتعالى خطورة الفساد بهذا المعنى الشامل في خمسين آية، وقابل هذه الكلمة بكيفية الإصلاح في أكثر من ثلاثة أضعاف، أي مائتي آية في كيفية إصلاح هذا الفساد داخل النفس وداخل المجتمع، أي أكثر من حوالي ثلامئة آية حول هذه المشكلة، مما يدل دلالة واضحة على خطورة هذا الوضع والواقع فعلاً في أمتنا الإسلامية والأمم النامية، التي تشترك معنا في التخلف، رغم أن العالم يتقدم بشكل غريب.
عالمنا الإسلامي اليوم بكل إمكانياته المتاحة وعقوله وما لديه من إمكانبات بشرية وموارد مالية عظيمة يزداد تخلفاً وفقرًا، وبمقارنة العالم الإسلامي في الستينيات واليوم في نسبة الفقر نجد أن الفقر يزداد بنسبة غريبة، وأن البطالة تزداد بنسبة خطيرة وأن التضخم قد أكل أموال الناس في معظم هذه الدول، وهذا يعني أننا نتجه اتجاهاً معاكسًا، بدل أن نتجه نحو التقدم، وله أسبابه السياسية بلا شك، وله أسباب أخرى، لا شك أن منها العالم الخارجي الذي لا يريد لهذه الأمة الخير، ولكن ذلك ليس عذراً في نظر الإسلام، العدو الخارجي ليس عذراً في نظر الإسلام وفي المنهج القرآني، وليس الخلل في هؤلاء، لأنه لا يمكن أن يتوقع أو يتصور من أن يقف العدو موقف المساند، أو حتى من الدول المتنافسة، فهم يريدون أمة مستهلكة، و مسألة الاستهلاك مرتبطة بالإنتاج، كلما زاد الاستهلاك زاد الإنتاج، وكلما زاد الإنتاج زادت الموارد بالنسبة لهؤلاء، وبما إننا حوالي مليار وسبعمائة مليون نسمة أمة مستهلكة، فمن مصلحتهم أن نظل مستهلكين، ولا نصبح منتجين حتى في مجال الزراعة وباقي المجالات الأخرى.
ولجعل الأمة الإسلامية تتفرغ لنفسها ولا تعلق المشاكل على شماعة الأعداء أو المتنافسين يقول رب العالمين (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، نفسيتنا قابلة للاستعمار، وأن لا نتفهم مع البعض، قابلة أن لا ننظر إلى مصالحنا الاستراتيجية، وإنما ننشغل بمصالحنا الذاتية الشخصية الفردية الأنانية القبلية القومية وليست في صورتها الصحيحة وإنما في صورتها السلبية، فلذلك أوصلنا إلى ما وصلنا إليه، فنحن مسئولون أمام الله وأمام الأجيال اللاحقة لأننا لم نقم بوضع المنهج الصحيح الذي يريده الله سبحانه وتعالى لهذه الأمة أن تكون خير أمة أخرجت للناس، أمة قوية منتجة وأخذت بعدتها.
يقول الشيخ محمد عبده حينما زار باريس قال رأيت بلداً دينه يقول من ضربك على خدك الأيمن أدر له الخد الأيسر، فوجدت حول المدينة أكثر من ألف أسطول حربي وصناعي وتجاري، وعدت إلى بلدي الذي دينه يقول (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) فوجدت بدل ألف أسطول مليون مسطول أي الشخص الذي لا يعي) هذه المفارقة الغريبة في أمتنا لا بد أن تعالج، وإلا سنظل متخلفا، ومن أعظم هذه الأسباب الداعية للتخلف على الإطلاق هي قضية الفساد بجميع أنواعه.
نحن اليوم في هذه الخطبة نتحدث عن الجانب المالي الذي أولى الإسلام به عناية قصوى، حينما يتحدث القرآن الكريم عن خطورة الفساد وأنه ستترتب عليه نتائج في الدنيا قبل الآخرة (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)، الله سبحانه وتعالى يذيقنا بعض هذه الأثار من المشاكل والاضطرابات والفقر حتى نرجع إلى الطريق الصحيح، فهذا من باب التأديب الإيجابي، وبين الله خطورة الفساد حينما يقول: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ)، ماذا يفعل هؤلاء الذين وصفهم الله بألد الخصام؟ لم يصفه بالكفر فقط، ولم يصفهم بعبوديتهم للوثنية فقط، وإنما وصفهم بخطورة الفساد.
وضع الله جزاء المفسدين أكبر العقوبات فالمفسد في الأرض يقتل وتقطع يداه و رجلاه من خلاف ويصلب (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ).
ومن أخطر أنواع الفساد هو الفساد المالي والمقصود بالفساد المالي أيُّ مال يعطى لشخص بغير وجه حق، فهو فساد سواء أعطيت للحاكم أو القاضي أو الأستاذ أو المدير، أو تعطيه لأي شخص تريد به أخذ مال بغير وجه حق، فهو فساد في الأرض ولذلك بيّنه الله سبحانه وتعالى بهذه الشمولية في قوله تعالى (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)، ومن دقة التعبير القرآني أنه قال إنكم تعطون شيئاً للحاكم، ولكن الحاكم لا يعطيك من ماله الخاص أبداً، وإنما يعطيك من أموال الناس ومن أموال الدولة أو الشركة أو المؤسسة، ولا يعطيك من جاهه ولا يشركك في الإدارة، وإنما على حساب شخص آخر، والحاكم هنا كل من بيديه قدرة أن يمرر شيئًا، فالرئيس حاكم في بلده والمدرس حاكم في المدرسة والمدير و المسئول حاكم في المؤسسة، وكل إنسان له قدرة فهو حاكم في هذا المعنى فهو يشمل كل مال تأخذه بغير وجه حق، وكل جاه تأخذه بدون وجه حق، وكل سلطة أو وظيفة أو مكافأة أو ترقية بدون وجه حق.
الله لعن اليهود وخاصة الذين كانت لهم السلطة الدينية بسبب ( أكلهم السحت ) والسحت كما يقول سيدنا عباس وجمهور المفسرين: هنا الرشوة، والسحت أي المال الذي يصل به الحرمة إلى أعلى الدرجات، والذي يصل إلى أعلى الدرجات هو السحت أي الرشوة، فالله أبعد اليهود عن رحمته، وكتب عليه الذل لأنهم أخذوا الرشوة، والرشوة فساد خطير جداً، يفسد الأمور، ويختل النظام، ولا يعلم المتزن ماذا يفعل، وماذا يفعل المصلحون، إما أن تتوقف شركاتهم، أو أن يعطون الرشوة، ولا تستطيع إلا قلة قليلة أن تقف أمام هذه الضغوط، لذا يجب أن يعي الراشي والخلية التي تعمل معه أو اللوبي الذي يعمل معه أن عقوبتهم أشد من عقوبة المرتد عبرة لمن يعتبر.
في الغرب حينما يكتشف خلية من المرتشين يسقطون، ويكتبون في اللائحة السوداء، ويحاسب، وقد اطلعت على أمر مرشحة لرئاسة الوزراء في إحدى الدول الأوروبية صرفت من أموال الدولة بغير قصد 250 دولاراً فقط وليس ألفًا أو مليونًا فحين اكتشف ذلك قدمت اسقالتها باعتبارها غير مؤتمنة على أموال الدولة.
الرشوة داء ينخر مثل السوس وأخطر من ذلك يقول الرسول ( لعن الله الراشي (الذي يعطي) والمرتشي (الذي يقبل الرشوة) والرائش (الذي يتوسط) فكلهم ملعونون كما لعن الله سبحانه وتعالى اليهود بسبب أكلهم السحت.
إن محاربة هذا المرض الخطير ليست واجبة على الدولة فقط، بل واجب على الجميع وكل في مكانه ولا يجوز السكوت عنه والساكت عن هذا الحق شيطان أخرس، ويجب أن تبين ذلك ولا تخاف في الله لومة لائم، وإلا ستكون منتجاتنا خطيرة مهددة بالسقوط والانهيار .
ومن خلال التجارب والآيات الكثيرة التي تحدثنا عن بعضها والأحاديث الكثيرة التي تتحدث عن هذه المسألة إننا إذا لم نعالج الفساد في دولنا وأمتنا ومؤسساتنا لا نتقدم أبدًا مهما كثرت مواردنا، وإنما نتأخر، لأن التقدم يكون من خلال الإتقان والإبداع ومن خلال النظام وهذا الذي نريده والذي نطلبه من الله سبحانه وتعالى أن يحققه لنا جميعًا.
الخطبة الثانية
إن قضية الفساد من أهم أسباب التي ثارت الأمم بسببها، لأن هؤلاء الحكام وصلوا فعلاً إلى قمة الفساد، فالرئيس السابق في إحدى الدول يأتي وهو ضابط وخلال حكمه تصل ثروته إلى عشرات المليارات من الدولارات، من أين لك هذا ؟ سيدنا عمر كان يحاسب الوالي وكل من له سلطة في كل عام ويرسل الناس لاستجوابهم من أين لك هذا ؟ ولا بد له أن يبين أنه حلال، وحتى بعد أن يبين الوالي أن ماله حلال ووجد عمر أن له زيادة ربحية غير متناسبة كان يأخذ نصف أموالهم ويعيدها إلى خزينة الدولة، ويقول: لو لم تكن واليًا لما ربحت هذا الربح، وأخذت الربح بسبب وجودك في الولاية. وكان يمنع الحكام أن يدخلوا في التجارة، لأن الحكام إذا دخلوا في التجارة لا يستطيع الآخر المنافسة، يقول ابن خلدون في كتابه المقدمة: ( إذا دخل الحكام في التجارة فسدوا وأفسدوا التجارة)؛ لذا يجب أن تفصل السلطة المالية عن السلطة التجارية وتسمى الآن الحوكمة وما يسمى بتعارض المصالح والشخص كحاكم لا بد له أن ينظر إلى مصلحة العامة وأما كتاجر فينظر إلى المصلحة الشخصية فهناك تعارض المصالح، وقد أثبتت فعلياً ذلك، ولذلك يمنع في بعض الدول الرؤساء من أن يدخلوا في التجارة إلا من خلال آخرين .
وفي ظل الربيع العربي لا تريد المعارضة في بعض بلدانها محاسبة الفاسدين، وإنما تريد مجرد الفوضى الخلاقة والفوضى الهدامة، وسمى كيسنجر بالفوضى الخلاقة لأنها تخدم أمريكا وتخلق لهم فرص إنتاجية ولبيع الأسلحة للدول التي فيها مشاكل، وأما بالنسبة لنا فهو الفوضى الهدامة، والغريب ومن نتيجة الفساد اكتشف أن أغنى أغنياء العالم هم رؤساء الدول الإفريقية الذين تأن شعوبهم تحت الفقر.
وفي سوريا لن تكن هناك شركة إلا إذا فرض على صاحبها أن يشارك ابن خال الأسد في الشراكة وبنسبة 50% وإلا لا موافقة ولا هم يحزنون. هذا في فسادهم المالي وأما فسادهم السياسي والأخلاقي فحدث ولا حرج. ولكنهم سوف يزاحون ويزيلون قريباً إن شاء الله.
والعراق اليوم يمر بأزمة دون استجابة من الحكومة رغم أن مطالبهم مشروعة تمامًا ولم يطالبوا بشيء خارج إرادتهم ولكنه تعنت واستكبار.
ولا بد أن نذكر ما يحدث في بنجلاديش هذا البلد الإسلامي العزيز الذي يُحارب، يحكمهم نظام دكتاتوري بكل ما تعنيه هذه الكلمة، يحارب الناس ويعدمهم على مواقفهم الفكرية ومواقفهم الدينية أيام انفصال بنغلاديش عن باكستان، وقد صدرت أحكام إعدام في بعضهم من بينهم من يعتبر من كبار علماء على مستوى العالم الإسلامي . فلماذا تحيي مشكلة حدثت قبل 40 سنة وذلك لإحداث فوضى خلاقة لهم وفوضى هدامة لنا.