اعتبر فضيلة الشيخ د.علي محيي الدين القرة داغي أن المعاصي سبب لما يجري للأمة من ضعف، ومنه استيلاء شذاذ الآفاق على أرضنا ورغبتهم في تدمير الأقصى، مشيراً إلى مظاهر هذه المعاصي في حياة المسلمين، فيما واصل فضيلته حديثه المتواصل عن صفات عباد الرحمن.. جاء ذلك في خطبة الجمعة أمس بمسجد السيدة عائشة بفريج كليب، وقد بدأها فضيلته قائلا: لا زلنا نعيش في ظل الآيات القرآنية التي تتحدث عن عباد الرحمن، تلك هي أمنيتنا جميعا أن ندخل في عباد الرحمن في هذه الدنيا ونفوز في الآخرة بالخلود الدائم في الجنة إن شاء الله، ولذلك أيها الإخوة الأحبة حق لنا أن نعيش مع هذه الصفات بل يجب علينا أن نبحث عن هذه المواصفات سائلين المولى سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن يتحلون بها، وقد تحدثنا في الخطب السابقة عن أهم مواصفات عباد الرحمن هؤلاء بدءاً بالصفات القولية والسلوكية العالية والأخلاقيات النبيلة والعيش مع الله من خلال العبودية لله سبحانه وتعالى، ثم من خلال الدعاء إليه ثم المنهج الوسطي في الإنفاق وفي كل شيء، كما نزههم الله سبحانه وتعالى عن ارتكاب الكبائر والمنكرات، ومنها «والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا».

باب التوبة

وتابع قائلا: هؤلاء الذين وقعوا في هذه المعاصي هل لهم من طريق أن يلتحقوا بعباد الرحمن؟ بين الله سبحانه وتعالى ذلك فقال بأن باب التوبة مفتوح، والتوبة المبنية على أسس وهي الندم والإقلاع، ولكن هؤلاء لهم طريق آخر وهو طريق التوبة الذي بموجبه يدخلهم الله برحمته في ظل عباد الرحمن حينما تكون توبتهم نصوحاً.

إن الآيات التي تتحدث عن عباد الرحمن تتحدث عن الجرائم التي تقع على الضروريات الخمس وهي مقاصد الشريعة والتي هي الحفاظ على ضروريات الإنسان في الدين والعقل والنفس والنسل وكذلك المال، فهذه الآيات الكريمة ضمنت الأصول الخمسة والحفاظ عليها بعدم الاعتداء، ثلاثة منها ذكرت بالنص في قوله تعالى: «والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر» وهذا فيه اعتداء على الدين وذلك بالشرك بالله تعالى «ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق» وهذا دليل على الحفاظ على النفس من خلال عدم الاعتداء عليها، وهذا ما يسمى بالجانب السلبي أو العدمي، أما جانب الوجود فهو من خلال الحفاظ على الصحة، وذلك بمأكل طيب ومشرب طيب وتوفير الغذاء والدواء الذي يحتاج إليه الإنسان للحفاظ على هذه النفس، وكذلك الحفاظ على النسل «ولا يزنون» من جانب السلب، حيث يكون هناك حد على الزنا، ومن جانب الوجود بالتزوج والإعفاف بعدم الاعتداء على أعراض الناس. أما المقصدان الآخران فقد تحدثت الآيات السابقة عن المال حينما تحدثت عن الإنفاق الوسط، قال تعالى: «والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما» وهذا يدل على المحافظة على المال وهي الضرورة الرابعة. أما مسألة الحفاظ على العقل فقد تناولتها هذه الآيات من خلال مسألة التفكير، وذلك من خلال القول في قوله تعالى: «والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما».

واجب الدولة

وقال فضيلته: هذه هي الضرورات الخمس التي يقوم عليها الإنسان ويقوم عليها المجتمع ويجب على الدولة أن تحافظ عليها، ثم بعد أن تحدث الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات عن هذه المكارم والمحافظة عليها تحدث الله سبحانه وتعالى عن الجرائم والكبائر التي يجب اجتنابها، فتحدث سبحانه عن الطريق المطلوب اتباعه للخروج منها لمن وقع فيها أو في بعضها بقوله: «إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات».

شروط التوبة

وتابع فضيلته: هذه الآية الكريمة تتكون من الشروط الأساسية لقبول التوبة، الشرط الأول: أن تعود إلى الله أي أن تقتلع وتمتنع عن الذنوب والمعاصي التي كنت قد ارتكبتها «إلا من تاب» وهنا يستعمل القرآن الكريم الفعل في صيغة الماضي وهذا يدل على تحقق التوبة وأنه ليس هناك تفكير في المستقبل للعودة إلى هذه المعاصي.

الشرط الثاني: هو الإيمان بالله؛ لأن إيمانك هو الذي يردعك عن الرجوع إلى هذه المعاصي، وكل ما يصيبك من الذنوب إنما هو راجع إلى ضعف الإيمان، فأكبر وسيلة للامتناع عن ارتكاب الذنوب هو تقوية الإيمان.

الشرط الثالث: «وعمل عملا صالحا» إذ لا يكتفى بالإيمان فقط، بل لا بد من العمل الصالح، والعمل الصالح نوعان، فالعمل الصالح إذا كانت الذنوب من حقوق الله سبحانه وتعالى فعليك بالتوبة وتقوية الإيمان والندم وعليك بالرجوع إلى الله تعالى وليس عليك شيء آخر، أما إذا كانت الحقوق للناس مظلمة غيبة أو نميمة أو اعتداء على الأنفس أو على الأعراض فهنا لا تكفي التوبة وحدها إذا أردنا أن نكون من عباد الرحمن، وفي بعض الآيات الأخرى «إلا الذين تابوا وأصلحوا» وماذا يعني «أصلحوا»؟ أي أصلحوا ما أفسدوه.

الثمن الغالي

وقال القرة داغي: إن التوبة ليست عملية سهلة، فالتوبة ثمنها غال ألا وهو الجنة، يقول ابن عباس ترجمان القرآن في الآية الكريمة «فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات» أي أن الله تعالى يوفق هؤلاء التائبين إلى أن يعملوا بدل السيئات حسنات، وتفسير ابن عباس أن الله تعالى يوفقهم للعبادة؛ لأن التوفيق للعبادة ليس أمرا سهلا، وكما يقول صلى الله عليه وسلم: «كل ميسر لما خلق له». فسيئتك لا تتحول إلى حسنة وإنما أنت الآن تندم وتتوب فيكتب الله لك الأجر لأنك ندمت على السيئة، ولذلك إخوتي الكرام فإن جنة الله وسلعة الله غالية، ولذلك لا بد أن نأخذ بما هيأه الله تعالى لنا من الطريق الصحيح، وهذا لا يمنع أن رحمة الله واسعة، «قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا». ولذلك أيها الإخوة فإن الذي وقع في معصية فإن باب التوبة مفتوح ولكن له شروط من التوبة إلى الله والندم والامتناع عن ارتكاب المعاصي.

دور المعاصي

في خطبته الثانية ركز على أحوال الأمة وأثر المعاصي في مسيرتها فقال: إن للمعاصي والذنوب التي ذكرتها الآية الكريمة تأثيرا على أحوال الأمة حتى من الناحية العملية، فحينما يزداد الغش وتزداد المعاصي ويزداد أكل المال بالحرام ويزداد الجشع، فعند ذلك لا يبقى للأمة تماسكها، ولا تبقى الثقة، وبالتالي تضعف، فالضعف يأتي من الناحية الواقعية والناحية العقدية، ولذلك فالأمة اليوم تزداد تمزقا رغم حضارتها ودينها العظيم، فالأمر يعود إلى هذه الذنوب، وإلا، فكيف يمكن لمجموعة من شذاذ الآفاق أن يستولوا على أرضنا ويريدوا تدمير الأقصى؟!.

هذا الضعف أيها الإخوة ستكشف الأيام أنه بسبب المعاصي، فما وصلت إليه الأوضاع الآن في الأراضي الفلسطينية المباركة لم تصل إليه الأمة في أي وقت من الأوقات، فالمستوطنات تزداد والناس مشغولون بدنياهم، وقد قررنا في الاتحاد العالمي أن نقوم بعدة ندوات لنعرف الأمة بما يحدث وبواجباتها لتحريك الأمة في كل مكان، الأمة الإسلامية التي تبلغ مليارا وسبعمئة مليون نسمة، أي أنها أكبر من الصين ومن أوروبا ثلاث مرات، ومع ذلك فهي على ما هي عليه من سوء الحال.