تنمية موارد الوقف والحفاظ عليها
( دراسة فقهية مقارنة )
بقلم :
أ . د . علي محي الدين القره داغي
الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه الطيبين وبعد
فإن الدارس للحضارة الإسلامية يقف معجباً كلّ الإعجاب بدور الأوقاف في المساهمة في صناعة الحضارة الإسلامية والنهضة الشاملة للأمة ، وأن من يقرأ تأريخ الوقف ليجد أنه شمل مختلف جوانب الحياة من الجامعات والمستشفيات إلى الأوقاف الخاصة بالحيوانات ( مثل خيول الجهاد ) التي لم تعد صالحة للاستعمال فحينئذٍ تُحال إلى المعاش وتصرف لها أعلافها وما تحتاج إليها من هذه الأوقاف … … إلى الأوقاف على الأواني التي تنكسر بأيدي الخادمات حتى لا تعاقب فيجدن بدائل عنها في مؤسسات الوقف .
لذلك فإعادة دور الوقف تعني إعادة دور كبير للجانب الطوعي المؤسس لخدمة الحضارة والتقدم ولخدمة تنمية المجتمع وتطويره .
ومن هنا كان بحثي هذا مساهمة متواضعة في مجال تنمية موارد الوقف والحفاظ عليها ، حيث تطرقت إلى تنمية القائمين على الوقف ، والحفاظ على أمواله ، وأحكام الاستبدال ، ثم الاستثمار وطرقه القديمة ، ووسائله المعاصرة ، ثم تطرقت إلى دور الشخصية الاعتبارية للوقف ( التي سبق بها الفقه الإسلامي ) في تطوير الوقف .
وقد رجعت من خلال البحث إلى كتبنا الفقهية وآراء سلفنا الصالح فوجدت فيها كلّ ما يشفي الغليل ، والمرونة الكافية في التعامل مع الوقف مما يسهل للقائمين على الوقف أن يقوموا بتطوير الوقف وأمواله وأدواره إن أرادوا .
والله نسأل أن يوفقنا لتحقيق ما نصبوا إليه ، ويجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم إنه مولاي فنعم المولى ونعم النصير .
كتبه الفقير إلى ربّه
علي محي الدين القره داغي
الدوحة ـ قطر
التعريف بتنمية الموارد الوقفية والحفاظ عليها :
نحاول أن نوجز القول في تعريف العنوان في اللغة والاصطلاح :
فلفظ ( التنمية ) لغة : مصدر نمّى ينمّي تنميةً بتشديد الميم ، فيقال نمّى الشيء أي جعله نامياً والحديث أي أذاعه على وجه النميمة ، ونمّى النار أي أشبع وقودها .
وأصله من ( نما الشيء ينمو نماءً ونمواً ) أي زاد وكثر ، فيقال : نما الزرع أو المال أو الولد : ازداد ، ومن نمى ـ بفتح الميم ـ وينمي ـ بكسر الميم أي الناقص اليائي ـ فيقال : نمى الحديث نماءً ونُمياً أي شاع ، ونمى الحيوان أي سمن ، والصيد أي غاب عن الصائد ، ونما الشيء رفعه وأعلى شأنه ، فيقال : فلان ينميه حَسَبُه أي يرفع شأنه ، ونمى المال زاده وكثّره .
ومن هنا فالتنمية هي الزيادة الذاتية ، والنماء الحاصل للشيء ، وليست الكثرة والإضافة ، ولكن ابن منظور ذكر من معانيها الكثرة فقال : ( نمى : أي زاد وكثر ) ، فعلى ضوء ذلك تدخل الزيادة الخارجية المضافة إلى المال في التنمية .
ولم يرد لفظ ( التنمية ) في القرآن الكريم ، ولكن جاءت مشتقاتها في السنة النبوية المشرفة ، منها قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ( حسن الخلق نماء وسوء الخلق شؤم ) .
والوقف : لغة هو الحبس ، واصطلاحاً : هو حبس العين والتصدق بمنفعتها . والموارد الوقفية هي كلّ الأموال الخاصة بالوقف .
إذن فالمقصود بتنمية الموارد الوقفية هي : بذل كلّ الجهود بكل الوسائل المتاحة لزيادة موارد الوقف وتكثيرها عن طريق الاستثمار ونحوه .
إذن فهذه التنمية تقتضي الحفاظ على أموال الوقف وموارده من خلال إضافة موارد جديدة ، ونمائها وزيادتها عن طريق الاستثمار والاستغلال ، وبما أن ذلك لا يتحقق إلاّ عن طريق تنمية الموارد البشرية . إذن فيقتضي أن نتحدث عن هذه الأمور الأربعة بشيء من الإيجاز .
أولاً ـ تنمية القائمين على الوقف ( بإيجاز ) :
لا يمكن أن تـتحقق تنمية الموارد الوقفية إلاّ إذا سبقتها أو صاحبتها تنمية الموارد البشرية وبالأخص تنمية القائمين ، ونحن في هذا البحث لا نخوض في تفاصيل هذه المسألة وإنما نوجز القول في أهم متطلبات تنمية الموارد البشرية وهي :
1. اختيار العناصر الفعالة المتقية المتعاونة المتماسكة القادرة على التطوير ، والجامعة بين الإخلاص والاختصاص ( إنّ خير مَن استأجرت القوي الأمين ) ، وهذا يتعلق بعمليات الاختيار وإدراة الترقيات والتنقلات .
2. الحفاظ على صحة القائمين على الوقف بكل الوسائل المتاحة ، إذ الدراسات العلمية أثبتت أن المرض يمكن أن يخفض الإنتاجية إلى الثلث ، وأن الخدمات الصحية والاجتماعية لها دور كبير في الإنتاجية وتطويرها ، لذلك فعلى المؤسسات الوقفية العناية بصحة موظفيها والعاملين فيها ، وتهيئة التأمين الصحي وبرنامج الصيانة البشرية ، وما يرتبط به من تحسين بيئة وظروف العمل وتقديم الخدمات الاجتماعية والصحية وخدمات الأمن والسلامة .
3. تحقيق اليسر المادي للعاملين في الوقف ، أو بعبارة الفقه الإسلامي : الكفاية ، والغنى ، كما عبّر عنه الخليفة الراشد علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ حيث قال : (… أباح الله لهم ـ أي للمتقين ـ الدنيا ما كفاهم به ، وأغناهم … ) ، فالغرض من التنمية الاقتصادية هو تحقيق الكفاية والغنى لأفراد المجتمع ، وهي نفسها لا تحقق بصورتها الشاملة الكاملة إلاّ بأفراد قادرين على ذلك.
4. التخطيط الدقيق بحيث تكون جميع أعمال القائمين تسير حسب اللوائح والخطط والبرامج .
5. الارتقاء بالقائمين على الوقف والعاملين فيه ارتقاءً شاملاً للجوانب الروحية والنفسية والفكرية والعلمية وذلك من خلال التعويد على التطوير الذاتي بالقراءة ، والاستماع ، والمشاهدة ، ومن خلال الدورات التدريبية في المجالات التي تحقق الهدف المنشود ، والدراسات المتخصصة في مجالات الإدارة وعلم النفس ، والاجتماع ، والتنمية ونظم المعلومات ونحوها ، ومن خلال الزيارات للمؤسسات المشابهة داخل البلاد وخارجها.
6. العناية القصوى بالمتابعة وتقييم الأداء على موازيين دقيقة ومعايير منضبطة وبالتالي تطبيق قاعدة الثواب والعقاب ، وكذلك العناية بتقييم النظم المطبقة في المؤسسة ، فعلى المؤسسات الوقفية إن أرادت التنمية الشاملة أن تولي عنايتها القصوى بهؤلاء العاملين من شتّى الجوانب المذكورة. وبالأنظمة والبرامج واللوائح ، وإعادة النظر فيها للارتقاء بها على سبيل الدوام هذا ما أردنا هنا التنويه دون الخوض في تفاصيل الموضوع .
العـلاقة بين الوقف والتنمية :
وأما الوقف نفسه فكان ـ ولا يزال ـ له دور عظيم اقتصادياً واجتماعياً وعلمياً في التنمية بل الوقف نفسه تنمية بشرية ، وتنمية اجتماعية وتنمية اقتصادية حتى يمكن القول بسهولة إن حضارتنا الإسلامية هي حضارة الوقف ، وقد كان له دوره في توفير الحدّ الأدنى من الطيبات العامة للفقراء من خلال الأوقاف الخاصة بالفقراء لإطعامهم ، وكسوتهم ، بل وتعليمهم ، وتقليل الفروق بينهم وبين الأغنياء ، وزيادة مساحة القاعدة الوسطية بين الفقراء والأغنياء ، إضافة إلى الأوقاف الخاصة بالمستشفيات ( بيمارستان ) ونحوها ، لذلك يمكن تلخيص هذه الأدوار فيما يأتي :
1.توفير الأمن الغذائي،وتحقيق الحاجيات الأساسية ، بل حتى بعض المحسِّنات للفقراء :
فقد ساعد الوقف على مرّ العصور على توفير الحاجيات الأساسية ، بل حتى بعض المحسنات للفقراء والمحتاجين من خلال الوقف الخيري الخاص بهم ، ومن خلال التكايا والخانقاهات التي كانت تقدم لمن يسكنها من الفقراء ما يحتاجونه من الملبس والمأكل والمشرب والمنام ، ومن المعلوم بداهة أن الفقر والعوز والحاجة من أهم معوقات التنمية ، والنهضة الشاملة المنشودة .
2.توزيع الثروة وتقليل الفجوة بين طبقات المجتمع :
للوقف دور مهم في هذا المجال حيث يقدم الأغنياء بعض أموالهم للوقف على هؤلاء المحتاجين والمستحقين ، وبالتالي ينـتقص في الظاهر جزء من أموالهم ، ويضم إلى أموال المحتاجين بما يرفع مستوى معيشتهم ، ومن هنا فإن الوقف ( مع بقية الوسائل الأخرى للتوزيع ) يؤدي إلى توسيع القاعدة الوسطية وتقليل الفجوة بين طبقات المجتمع ، ويخفف من غلوائها .
3.توفير التعليم المجاني للفقراء من خلال المدارس والجامعات التي وقفها المسلمون ، ووقفوا لها أموالاً ضخمة للإنفاق عليها ، وبذلك يتوافر التعليم المجاني للفقراء والمحتاجين ولأبنائهم وبناتهم ، وهذا بلا شك يؤدي إلى التنمية البشرية الحقيقية ، ويكفي للاستدلال على ذلك تلك الجامعات التي بناها الوقف مثل جامعات الأزهر ، والزيتونة ، والمدارس النظامية ، وغيرها التي لا تـزال آثارها باقية إلى اليوم .
وللتعليم دور في تنمية الإنسان نفسه ، وفي تنمية الموارد ، إذ به ترتقي الأمة سلّم الحضارة والتقدم والرفاهية ، وأما الجهل والأمية فمن أخطر الأمراض والمعوقات على الإطلاق .
4.توفير الأمن الصحي للفقراء والمحتاجين من خلال المستشفيات ( بيمارستان ) التي بناها الواقفون والتي تفتخر بها حضارتنا إلى اليوم بعظمتها وخدماتها وأنظمتها ، وللصحة دور كبير حتى في تنمية الموارد ، إذ الأمراض تكلف المجتمع مبالغ كبيرة إضافة إلى تأثر الإنتاج بها تأثراً كبيراً .
5.رعاية الأيتام وكفالتهم وتربيتهم من خلال الوقف الخاص بهم ، أو الوقف العام للفقراء والمحتاجين ، حيث ساعد ذلك على الحفاظ على ثروة كبيرة للأمة لا يستهان بها تحولت إلى طاقات نافعة ومنتجة بدل أن تتبعثر فتتعثر ، بل تتحول إلى طاقات هدم وفساد .
6.توفير عدد من الوظائف من خلال النظار والموظفين والمشرفين ونحوهم في المؤسسات الوقفية والمساجد ، ونحوها ، وهو عدد كبير لا يستهان به ، يتخصصون في تلك المجالات ويتطورون .
7.المساهمة في تطوير العمل الخيري في المجتمع الإسلامي من خلال العمل المؤسسي للجمعيات والمؤسسات الوقفية ، وزيادة عدد قنوات العون وزيادة فاعليته .
8.المساهمة في عملية التنمية الاقتصادية ، وزيادة عوامل الإنتاج كمّاً ونوعاً ، واستيعاب التقنية الحديثة ، وزيادة الموارد من خلال الاستثمار .
ثانياً ـ الحفاظ على أموال الوقف ( بإيجاز ) :
وذلك يقتضي البحث عن كيفية الحفاظ على أموال الوقف المختلفة من أراض ، ومبان ، ومنشآت ، وحدائق وبساتين ، ومن منقولات كالحيوانات والنقود ونحوها.
فالحفاظ على العقارات وما في حكمها من منشآت يتم بالصيانة والرعاية وعدم الإهمال وبعبارة موجزة وجود جهاز دقيق للصيانة الدورية والرعاية الشاملة ، وإذا كان الوقف أشجاراً فتحتاج إلى رعاية خاصة من قبل المتخصصين في الزراعة وأمراضها من خلال الرش ونحوه .
وأما الحفاظ على المنقولات الحية كالحيوانات فإنها تكون بالرعاية الشاملة ، وترتيب مستلزماتها ، وأما النقود فيكون الحفاظ عليها بوضعها في مكان أمين وبتحويلها إلى عملات مستقرة ولو نسبياً بل في استثمارات مؤتمنة حتى يمكن الحفاظ على قيمتها بعيداً عن التضخم وتقلبات أسعار العملات ، أو إقراضها للمؤتمنين حسب شرط الواقف ، وأما الحفاظ على الحُليّ المخصص للوقف فيتمُّ عن طريق وضعه في مكان أمين ، وعدم تسليمه إلاّ إلى المؤتمنين عند الإعارة .
والخلاصة أن الحفاظ على أموال الوقف واجب يقتضيه الأمانة وعدم التفريط في حقوق الآخرين وهو واجب أساسي على الدولة الإسلامية بأن تضع الأنظمة والأجهزة لحماية أوقاف المسلمين ، والحفاظ عليها ، وهو واجب كذلك على ناظر الوقف ومتوليه ، بل على المسلمين جميعاً كلٌّ حسب إمكانه وصلاحياته .
وقد نصّ الفقهاء على إعطاء الأولوية من ريع الوقف لإصلاحه وتعميره وترميمه وصيانته بما يحافظ على قدرته على الانتفاع به ، حيث يوجه الريع الناتج من الوقف إلى إصلاحه أولاً ثم إلى المستحقين ، حتى أن الفقهاء قد نصوا على أنه إذا شرط الواقف أن يصرف الريع إلى المستحقين دون النظر إلى التعمير فإن هذا الشرط باطل ، قال المرغيناني : ( والواجب أن يبتدأ من ارتياع الوقف بعمارته ، شرط ذلك الواقف ، أو لم يشترط ، لأن قصد الواقف صرف الغلة مؤبداً ، ولا تبقى دائمة إلاّ بالعمارة فيثبت شرط العمارة اقتضاءً ) ، وقال ابن الهمام : ( ولهذا ذكر محمد ـ رحمه الله ـ في الأصل في شيء من رسم الصكوك فاشترط أن يرفع الوالي من غلته كل عام ما يحتاج إليه لأداء العشر ، والخراج ، والبذر ، وأرزاق الولاة عليها ، والعمالة ، وأجور الحراس والحصادين والدراسين ، لأن حصول منفعتها في كل وقت لا يتحقق إلاّ بدفع هذه المؤن من رأس الغلة ، قال شمس الأئمة:(وذلك وإن كان يستحق بلا شرط عندنا لكن لا يؤمن جهل بعض القضاة فيذهب رأيه إلى قسمة جميع الغلة،فإذا شرط ذلك في صكه يقع الأمن بالشرط ) ثم قال:(ولا تؤخر العمارة إذا احتيج إليها ) .
فالواجب هو إبقاء الوقف على حالته السليمة التي تستطيع أن تؤدي دورها المنشود وغرضه الذي أوقفه الواقف لأجله ، وذلك بصيانته وعمارته والحفاظ عليه بكل الوسائل المتاحة ، بل ينبغي لإدارة الوقف ( أو الناظر ) أن تحفظ دائماً بجزء من الريع للصيانة الدائمة والحفاظ على أموال الوقف .
ثالثاً ـ استبدال عين الوقف :
المقصود بالاستبدال هنا تغيير العين الموقوفة بالبيع أو نحوه إلى شيء آخر ، والاستبدال على ثلاثة وجوه :
الأول : أن يشترطه الواقف لنفسه فقط أو لغيره فقط ، أو لهما معاً ، فحينئذٍ يكون الاستبدال جائزاً لمن شرط له على الصحيح .
الثاني : أن لا يشترطه وإنما يسكت عنه .
والثالث : أن يشترط عدم الاستبدال ففي هذين الوجهين يأتي التفصيل والخلاف ، ولكنه من المتفق عليه أن الأصل العام والقاعدة الكلية في الشريعة هو عدم الاستبدال إلاّ لمسوغ مشروع ، ولذلك اختلف الفقهاء في جواز استبدال عين الوقف ـ من غير المسجد ـ أو بيعها في حالات نذكر هنا أهمها :
1. حالة الهدم والخراب بحيث تتعذر عمارة الوقف : قال المرغيناني : ( وما انهدم من بناء الوقف وآلته صرفه الحاكم في عمارة الوقف إن احتاج إليه ، وإن استغنى عنه أمسكه حتى يحتاج إلى عمارته يصرفه فيهما ، لأنه لا بدّ من العمارة ليبقى على التأبيد فيحصل مقصود الواقف … وإن تعذر إعادة عينه إلى موضعه بيع وصرف ثمنه إلى المرّمة صرفاً للبدل إلى مصرف المبدل ) بل ادعى ابن الهمام أن خروج الوقف عن الانتفاع به ينبغي أن لا يختلف فيه ، أي في المذهب الحنفي ،
أما إذا انهدمت الدار ـ مثلاً ـ ولم يكن إعادتها فتباع ويشترى بثمنها مثلها ، أو قسط منه ما عدا المسجد ، وذهب أحمد إلى أن الدار الموقوفة إذا خربت يباع نقضها ويصرف ثمنها إلى وقف آخر .
2. حالة عدم الانتفاع والاستغناء : قال ابن الهمام : ( ومن زيادات أبي بكر بن حامد : أجمع العلماء على جواز بيع بناء الوقف وحصيره إذا استغنوا عنه ) وقال أيضاً : (وينبغي للحاكم إّذا رفعه إليه ولا منفعة في الوقف أن يأذن في بيعها إذا رآه أنظر لأهل الوقف ) وهذا رأي جمهور الفقهاء حيث قالوا : ويباع كلّ ما لا ينتفع به فيما حبس فيه من غير المسجد على تفصيل فيه ومن غير العقار عند مالك حيث لا يباع وإن خرب .
3. حالة الهجر : وذلك بأن يترك أهل القرية ، أو المنطقة وقفهم فيهجر ، فعند الحنفية ـ في غير المسجد ـ يعود إلى الواقف ، وعند الجمهور يظلّ وقفاً ، وعند أحمد يباع نقضه ويصرف إلى مسجد آخر ، إن كان مسجداً أو إلى جهة مماثلة .
4. حالة رجاء منفعة أكبر : ذهب جماعة من الفقهاء إلى أنه يجوز بيع الوقف إذا رأى الموقوف عليه ، أو الناظر للوقف أن غيره أكثر نفعاً وريعاً ، فقد جاء في فتح القدير (وروي عن محمد : إذا ضعفت الأرض عن الاستغلال ويجد القيم بثمنها أخرى أكثر ريعاً كان له أن يبيعها ويشتري بثمنها ما هو أكثر ريعاً ) ، ولكن بعض علماء الحنفية رجحوا عدم الجواز ، لأن الواجب إبقاء الوقف على ما كان عليه دون زيادة أخرى ، لأنه لا موجب لتجويزه إذا لم يكن هناك شرط ، أو ضرورة ، ولا ضرورة في هذا ، إذ لا تجب الزيادة فيه بل تبقيه كما كان .
وهذا هو رأي جمهور الفقهاء من المالكية ، والشافعية ، والحنابلة ، وذلك لأن الأصل هو تحريم بيع الموقوف ، وإنما أبيح لضرورة أو حاجة تنـزل منـزلة الضرورة ، صيانة لمقصود الوقف عن الضياع مع تحقق الانتفاع وإن قلّ ، وبذلك يجمع بين الخيرين وهو أولى من التضحية بأحدهما لحساب الآخر ، لكن قال الحنابلة : إذا بلغ الوقف في قلة النفع إلى حدّ لا يعدّ نفعاً فيكون وجود ذلك كالعدم فيجوز بيعه وشراء مثيل له يكون أكثر نفعاً . وهذا الرأي له وجاهته ووفاقه مع مقاصد الوقف في الشرع .
5. حالة الإتلاف : لو أتلف الموقوف عليه وعوض فيشتري ببدله مثله ويقوم مقامه ، وذهب المالكية إلى أن مَنْ هدم وقفاً تعدياً فعليه إعادته إلى ما كان عليه ولا تؤخذ قيمته حتى ولو كان المهدوم بالياً ، لأن الهادم ظالم بتعديه والظالم أحق بالحمل عليه ، أما إذا كان خطأ فعليه قيمته هذا ما رآه الخليل وغيره ، في حين ذهب الدردير وآخرون إلى أن عليه القيمة مطلقاً كسائر المتلفات ، وحينئذٍ تجعل تلك القيمة في عقار مثله يجعل وقفاً عوضاً عن المهدوم ،وتكون القيمة معتبرة باعتبار البناء قائماً لا مهدوماً .
6. حالة حاجة الوقف إلى التعمير أو الإنفاق وليس له مورد : إذا احتاج الوقف إلى التعمير وليس له مورد لذلك فإن جمهور الفقهاء ذهبوا إلى جواز بيع جزء من الوقف ليعمّر به بقية الوقف لأنه بدون ذلك يتعطل الوقف كله ، وما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب ، وأما الوقف العام إن كان حيواناً ـ مثل الفرس للجهاد ـ يحتاج إلى نفقة فإن هذه النفقة إن لم يرتبها الواقف فعلى بيت المال ، فإن عدم ، أو لم يمكن الوصول إليه بيع وعوض ببدله سلاح ونحوه مما لا يحتاج إلى نفقة لأنه أقرب لغرض الواقف ، كما يباع عندما يصاب الفرس بداء الكلب .
7. الخوف من الغلية عليه : ذهب جماعة من الفقهاء منهم طائفة من مشايخ الحنفية إلى أنه ( إذا خاف المتولي على الوقف من وارث ، أو سلطان يغلب عليه قال في النوازل يبيعها ويتصدق بثمنها قال : وكذا كلّ قيّم خاف شيئاّ من ذلك ) لكنه قال ابن الهمام : (فالفتوى على خلافه ، لأن الوقف بعدما صحّ بشرائطه لا يحتمل البيع ، وهذا هو الصحيح) . والراجح أن على الناظر البحث عن أي وسيلة تحمي الوقف حتى ولو كانت عن طريق البيع الصوري .
8. بيع أشجار الوقف حفاظاً على زيادة الثمرة : جاء في الفتاوى الهندية : ( أما بيع أشجار الوقف فينظر إن كانت لا تنتقص ثمرة الكرم بظلها لا يجوز بيعها ، وإن كانت تنتقص ثمرة الكرم بظلها ينظر إن كانت ثمرة الشجر تـزيد على ثمرة الكرم ليس له أن يبيعها ويقطعها ، وإن كانت تنتقص عن ثمرة الكرم فله أن يبيعها ، وإن كانت أشجاراً غير مثمرة وتنتقص ثمرة الكرم بظلها فله أن يبيعها ويقطعها ، وإن كانت أشجار الدلب والحلان ونحوه مما إذا قطع ينبت ثانياً وثالثاً جاز قطعها وبيعها ) ، وهذا يدل على أن العبرة بما هو الأصلح للوقف .
9. حالة الاشتراط : وذلك بأن يشترط الواقف عند الوقف أن يكون له أو للقيّم حق الاستبدال بوقف آخر إذا شاء ذلك وكذلك لو اشترط أن يبيعها ويشتري بثمنها أرضاً أخرى ، وهذا مذهب أبي يوسف وهلال والخصاف من الحنفية حيث يصح الوقف والشرط معاً ، وذهب محمد إلى أن الوقف صحيح والشرط باطل ، قال ابن الهمام : ( وليس له بعد استبداله مرة أن يستبدل ثانياً لانتهاء الشرط بمرة إلاّ أن يذكر عبارة تفيد له ذلك دائماً ، وكذا ليس للقيّم الاستبدال إلاّ أن ينص له بذلك … وفي فتاوى قاضيخان : ( قول هلال ، وأبي يوسف هو الصحيح ، لأن هذا شرط لا يبطل الوقف ، لأن الوقف الانتقال من أرض إلى أرض … وإذا كان حاصله إثبات وقف آخر لم يكن شرطاً فاسداً هو اشتراط عدم حكمه وهو التأبيد بل هو تأبيد معنى ) ، بل إن قاضيخان ذكر الإجماع على ذلك فقال : (وأجمعوا على أن الوقف إذا شرط الاستبدال لنفسه يصح الشرط والوقف ويملك الاستبدال ، أما بلا شرط أشار في السير إلى أنه لا يملكه إلاّ بإذن القاضي ) .
وبمثل قول محمد قال جماعة من الفقهاء منهم الظاهرية ، لأنه شرط ليس في كتاب الله فيكون باطلاً في نظرهم ، وبمثل قول أبي يوسف قال المالكية حيث أجازوا اشتراط بيع الوقف إن احتاج إليه الواقف ويعمل بشرطه .
اسـتبدال المسـجد :
يختص المسجد بعدة أحكام لا تتوافر في غيره ، فمثلاً عند أبي حنيفة لا يلزم الوقف في غير المسجد إلاّ بحكم الحاكم ، أو الايصاء به ، أما المسجد فيلزم بمجرد وقفه حيث لا يبقى له حق الرجوع عنه ، لذلك شدد الفقهاء في استبداله ، ونذكر هنا بعض نصوصهم ، قال المرغيناني الحنفي : ( ولو خرب ما حول المسجد واستغنى عنه يبقى مسجداً عند أبي يوسف .. وعند محمد يعود إلى ملك الباني ، أو إلى وراثه بعد موته ، لأنه عينه لقربة وقد انقطعت فصار كحصير المسجد وحشيشه إذا استغنى عنه ، إلاّ أبا يوسف يقول في الحصير والحشيش أنه ينقل إلى مسجد آخر ) .
وقد اتفق المالكية والشافعية مع رأي أبي يوسف في أن المسجد يظلّ مسجداً فلا يجوز بيعه لظاهر النصوص الدالة على عدم جواز بيع الموقوف مثل قول عمر: ( فلا يباع أصلها ولا يوهب) لأن ما لا يجوز بيعه مع بقاء منافعه لا يجوز بيعه مع تعطلها ، ولكن يجوز نقل آلته وأنقاضه إلى مسجد آخر .
وأما الحنابلة فيرون عدم التفرقة بين المسجد وغيره حيث يباع ويشترى بثمنه مكانٌ آخر ليكون مسجداً بدله ، ولأهمية رأيهم ووجود تفاصيل فيه أنقل ما جاء في المغني : ( ان الوقف إذا خرب وتعطلت منافعه كدار انهدمت ، أو أرض خربت وعادت مواتاً ولم تمكن عمارتها ، أو مسجد انتقل أهل القرية عنه وصار في موضع لا يصلى فيه ، أو ضاق بأهله ولم يمكن توسيعه في موضعه ، أو تشعب جميعه فلم يمكن عمارته ، ولا عمارة بعضه إلاّ ببيع بعضه ، جاز بيع بعضه لتعمّر به بقيته، وغن لم يمكن الانتفاع بشيء منه بيع جميعه ) ، وأضاف الحنابلة إلى ما سبق حالة الخوف من اللصوص في رواية صالح عن أحمد ، وكذلك إذا كان موضعه قذراً يمنع من الصلاة فيه .
وقد حقق شيخ الإسلام ابن تيمية مذهب أحمد في هذه المسألة تحقيقاً طيباً نذكره لأهميته بإيجاز مع التعليق عليه إن احتاج إلى ذلك حيث ذكر أن مذهب أحمد في غير المسجد أنه يجوز بيعه للحاجة ، وأما المسجد فيجوز بيعه أيضاً للحاجة في أشهر الروايتين عنه ، وفي الأخرى : لا تباع عرصته ، بل تنقل آلتها إلى موضع آخر .
فالمسجد الموجود ببلدة أو محلة إذا تعذر انتفاع أهلها بيع وبني بثمنه مسجد آخر في موضع آخر كما في زيت المسجد وحصره إذا استغنى عنها المسجد صُرِف إلى مسجد آخر ، بل يجوز عند أحمد صرفها في فقراء الجيران ، واحتج على ذلك بأن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ كان يقسم كسوة الكعبة بين المسلمين ، لأن المسلمين هم المستحقون لمنفعة المساجد ، واحتج أيضاً لصرفها في نظير ذلك : بأن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ جمع مالاً لمكاتب ، ففضلت فضلة عن قدر كتابته فصرفها في مكاتب آخر ، بأن المعطين أعطوا المال للكتابة ، فلما استغنى المعين صرفها في النظير .
والمقصود أن أحمد بن حنبل ـ رحمه الله ـ اختلف قوله في بيع المسجد عند عدم بيع الانتفاع به ، ولم يختلف قوله في بيع غيره عند الحاجة ، قال في رواية ابنه عبدالله : إذا خرب المسجد يباع ، وينفق ثمنه على مسجد آخر ، وإذا كان الوقف داراً فخربت وبطل الانتفاع بها بيعت وصرف ثمنها إلى شراء دار ويجعل مكانها وقفاً .
وأما إبدال المسجد بغيره للمصلحة مع إمكان الانتفاع بالأول ففيه قولان في مذهب أحمد ، واختلف أصحابه في ذلك ، لكن الجواز أظهر في نصوصه ، وأدلته ، منها ما ورد أنه لما قدم عبدالله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ على بيت المال كان سعد بن مالك قد بنى القصر ، واتخذ مسجداً عند أصحاب التمر ، قال فنقب بيت المال ، فأخذ الذي نقبه ، فكتب إلى عمر بذلك ، فكتب عمر : ( أن لا تقطع الرجل ، وانقل المسجد ، واجعل بيت المال قبلته ، فإنه لن يـزال في المسجد مصلي ، فنقله عبدالله فخطّ له هذه الخطة ) قال صالح : قال أبي : يقال إن بيت المال نقب من مسجد الكوفة فحول عبدالله بن مسعود المسجد ، فوضع التمَّارين اليوم في موضع المسجد العتيق ، وصار سوق التمَّارين في موضعه .
قال صالح وسألت أبي عن رجل بنى مسجداً ، ثم أراد تحويله إلى موضع آخر ، قال إن كان الذي بنى مسجداً يريد أن يحوله خوفاً من اللصوص ، أو يكون في موضع قذر فلا بأس أن يحوله ، وسئل أبو عبدالله : هل يحول المسجد ؟ قال إذا كان ضيقاً لا يسع أهله فلا بأس أن يجعل إلى موضع أوسع منه .
وقال عبدالله سألت أبي عن مسجد خرب : ترى أن تباع أرضه ، وينفق على مسجد آخر أحدثوه ؟ ، قال : ( إذا لم يكن له جيران ولم يكن أحد يعمره فلا أرى به بأساً أن يباع وينفق على الآخر.
وقال القاضي أبو يعلى : وقال في رواية أبي داود في مسجد أراد أهله أن يرفعوه من الأرض ، ويجعل تحته سقاية وحوانيت ، وامتنع بعضهم عن ذلك ؟ قال : ينظر إلى قول أكثرهم ، ولا بأس به ، قال أبو يعلى : فظاهر هذا أنه أجاز أن يحمل هذا على أن الحاجة دعت إلى ذلك لمصلحة تعود إلى المسجد .
ثم ذكر أن بعض أصحاب المذهب حاول التكلف في حمل رواية أحمد هذه حالة الابتداء قبل بناء المسجد ، فقال : ( وهذا تكلف ظاهر لمخالفة نصّه ، فإنه نصّ صريح في المسجد المبني ، وليس في ابتداء بناء المسجد ، لأن الأخير لا نـزاع فيه ) .
ثم ردّ ابن تيمية على من قال بعدم جواز النقل والإبدال إلاّ عند تعذر الانتفاع بأنه ليس لهم على ذلك حجة شرعية ، ولا مذهبية ، بل دلت الأدلة الشرعية وأقوال صاحب المذهب على خلاف ذلك ، وقد قال أحمد : ( إذا كان المسجد يضيق بأهله فلا بأس أن يحول إلى موضع أوسع منه ، وضيقه بأهله لم يعطل نفعه ، بل نفعه باق كما كان ، ولكن الناس زادوا ، وقد أمكن أن يبنى لهم مسجد آخر ، وليس من شرط المسجد أن يسع جميع الناس ، ومع هذا جوز تحويله إلى موضع آخر ، لأن اجتماع الناس في مسجد واحد أفضل من تفريقهم في مسجدين ، لأن الجمع كلما كان أكثر كان أفضل ، لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده ، وصلاته مع رجلين أزكى من صلاته مع الرجل ، وما كان أكثر فهو أحبّ إلى الله تعالى ) .
وقد أمر عمر ـ رضي الله عنه ـ بنقل مسجد الكوفة إلى مكان آخر ، وصار الأول سوق التمارين للمصلحة الراجحة ، لا لأجل تعطل منفعة تلك المساجد ، فإنه لم يتعطل نفعها ، بل مازال باقياً ، وقد فعل عمر ذلك بمشهد الصحابة ولم يرد إلينا أنه اعترض عليه أحد ، بل نفذه الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ فكان ذلك إجماعاً ، لأن الصـــحابة ـ رضي الله عنهم ـ ما كانوا يسكتون لو كان ذلك غير جائز ، والتأريخ شاهد على اعتراضاتهم على كلّ ما كان منكراً حتى ولو في نظر بعضهم ، فقد اعترضت المرأة على عمر حينما أراد تحديد المهر ، واعترضوا على عثمان لأنه كان يتم الصلاة في الحج .
واحتج ابن تيمية أيضاً بما روى أبو حفص في المناسك عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنه قيل لها : يا أم المؤمنين ! إن كسوة الكعبة قد يداول عليها ؟ فقالت : تباع ، ويجعل ثمنها في سبيل الخير ، فأمرت عائشة ببيع كسوة الكعبة مع أنها وقف ، وصرف ثمنها في سبيل الخير ، لأن ذلك أصلح للمسلمين .
وقد انتهى شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن بيع الوقف والتعويض بثمنه يجوز إذا كان ذلك أصلح وأنفع دون الحاجة إلى تقيد الجواز بالضرورة ، أو تعطل الانتفاع بالكلية ، فالمسوغ للبيع والتعويض هو نقص المنفعة وذلك يتحقق بكون العوض أصلح وأنفع ، أو للحاجة التي يقصد بها هنا تكميل الانتفاع ، فإن المنفعة الناقصة يحصل معها عوز يدعوها إلى كمالها فهذه هي الحاجة من مثل هذا مثلما أجيز لبس الحرير المحرم على الرجال لأجل الحكة ( الحساسية ) .
وقد استدل كذلك بما فعله عمر وعثمان من تغيير بناء مسجد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ووجه الاستدلال بذلك أن اللبن والجذوع التي كانت وقفاً أبدلها الخلفاء الراشدون بغيرها ، وهذا من أعظم ما يشتهر من القضايا ولم ينكره منكر ، ولا فرق بين إبدال البناء ببناء ، وإبدال العرصة بعرصة ، إذا اقتضت المصلحة ذلك ، لهذا أبدل عمر مسجد الكوفة بمسجد آخر ، أبدل نفس العرصة ، وصارت العرصة الأولى سوقاً للتمّارين بعد أن كانت مسجداً ، وهذا أبلغ ما يكون في إبدال الوقف للمصلحة .
ويدل على ذلك أيضاً ما ثبت أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ جوَّز إبدال المنذور بخير منه فقد روى أحمد وأبو داود والدارمي ، وابن الجارود ، وأبو يعلى ، والبيهقي بسند صحيح عن جابر بن عبدالله ـ رضي الله عنه ـ : ( أن رجلاً قام يوم الفتح ، فقال : يا رسول الله إني نذرت لله إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس ركعتين ، قال : صلّ ههنا ، ثم أعاد عليه ، فقال : صلّ ههنا ، ثم أعاد عليه ، فقال : شأنك إذن ) .
وهناك أحاديث وآثار أخرى تدل على ذلك منها ما رواه مسلم في صحيحه بسنده عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : ( أن امرأة شكت شكوى ، فقالت : لو شفاني الله فلأخرجنَّ فلأصلينَّ في بيت المقدس ، فبرأت ، ثم تجهزت تريد الخروج فجاءت ميمونة تسلم عليها ، وأخبرتها بذلك ، فقالت : اجلسي ، فكلي ما صنعت ، وصلِّي في مسجد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإني سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : ( صلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلاّ مسجد الكعبة ) .
قال ابن تيمية : وهذا هو مذهب عامة العلماء … ومعلوم أن النذر يوجب عليه ما نذره لله تعالى من الطاعة ن ومع ذلك فإن الشارع بيّن أن البدل الأفضل يقوم مقام هذا ، وكذلك الأمر بالنسبة للحيوانات التي تجب فيها الزكاة حيث تجزئ سنٌّ أعلى من الواجب في مذهب عامة أهل العلم ، فـثبت أن إبدال الواجب بخير منه جائز ، بل يستحب فيما وجب بإيجاب الشرع ، وبإيجاب العبد ، والخلاصة أن الإبدال للحاجة ، أو المصلحة راجحة ، وبما هو خير من الأصل جائز تظافرت عليه الأدلة المعتبرة .
وقد استدل الحنابلة على ذلك بالآثار والمعقول :
أما الآثار فمنها ( أن عمر ـ رضي الله عنه ـ كتب إلى سعد لما بلغه أنه قد نقب بيت المال الذي بالكوفة : انقل المسجد الذي بالتمّارين واجعل بيت المال في قبلة المسجد ، فإنه لا يـزال في المسجد مصلى ) ، قال ابن قدامة : ( وكان هذا بمشهد من الصحابة ولم يظهر خلافه فكان إجماعاً ) .
ومنها ما رواه البيهقي والخلال عن علي بن أبي عبدالله المديني عن أبيه عن علقمة عن أمه قالت : (دخل شيبة بن عثمان الحجي على عائشة ـ رضي الله عنها ـ فقال : يا أم المؤمنين إن ثياب الكعبة تجتمع علينا فتكثر فنعمد إلى آبار فنحفرها ، فنعمقها ، ثم تدفن ثياب الكعبة فيها كيلا يلبسها الجنب والحائض ، فقالت له عائشة ـ رضي الله عنها ـ: ما أحسنت ولبئس ما صنعت ، إن ثياب الكعبة إذا نزعت لم يضرها إن لبسها الجنب والحائض ، ولكن بعها واجعل ثمنها في المساكين وفي سبيل الله ، قالت فكان شيبة بعد ذلك يرسل بها إلى اليمن فتباع هناك ، ثم يجعل ثمنها في المساكين وفي سبيل الله وابن السبيل ) .
واستدلوا كذلك بأن مصلحة الواقف تقتضي أن تبقى آثار الوقف بأية صورة ممكنة ، حيث إن ذلك أحسن وأفضل من أن يترك الوقف مهملاً دون الاستفادة منه ، ولذلك قال ابن عقيل : (الوقف مؤبد فإذا لم يمكن تأبيده على وجه يخصصه استبقاء الغرض وهو الانتفاع على الدوام في عين أخرى ، وإيصال الإبدال جرى مجرى الأعيان ، وجمودنا على العين مع تعطلها تضييع للغرض ، ويقرب هذا من الهدي إذا عطب في السفر فإنه يذبح في الحال وإن كان يختص بموضع ، فلما تعذر تحصيل الغرض بالكلية استوفى منه ما أمكن وترك مراعاة المحل الخاص عند تعذره ، لأن مراعاته مع تعذره تقضي إلى فوات الانتفاع بالكلية وهكذا الوقف المعطل المنافع ) .
والراجح هو قول الحنابلة في المساجد وغيرها ، لأن الوقف وإن كان فيه الأجر والثواب لكنه معقول المعنى ، وليس من العبادات المحضة التي لا يبحث فيها عن العلل والمقاصد ، فمقاصد الشارع ، وكذلك مقاصد الواقف واضحة في أن يستمر الثواب والأجر إلى ما شاء الله ، ولذلك سمي بالصدقة الجارية ، ولذلك يجب الحفاظ على العين وعدم استبدالها ما دامت العين الموقوفة تحقق الغرض المنشود والقصد المطلوب ، وهو الانتفاع بها بالشكل المطلوب ، فإذا لم تعد قادرة على تحقيق ذلك الغرض بأن كان مسجداً للصلاة فترك منطقته أهلها ، أو كان فرساً للجهاد فكبرت فحينئذٍ فنحن أمام أحد الأمرين :
إمّا أن نـترك ذلك بحيث لم يعد المسجد ينتفع به ، وينتهي الفرس إلى الموت ، وحينئذٍ انقطع أجر الواقف .
وإمّا أن نـتدارك الموقف فنبيع المسجد ونشتري به مكاناً آخر ليتحول إلى مسجد ، وإن كان أصغر من الأول ، ونبيع الفرس ونشتري بثمنها فرساً أخرى أو حتى جزءاً منها أو أسلحة للجهاد ، فلا شك أن الاختيار الثاني هو الأفضل ، لأنه يؤدي إلى الانتفاع من السابق ، بل يؤدي إلى استمرارية الوقف وتأبيده من حيث الغرض والقصد والنتيجة ، ولذلك قال أبو بكر الخلال في ترجيح القول بجواز البيع ( لإجماعهم على جواز بيع الفرس الحبيس يعني الموقوفة على الغزو إذا كبرت فلم تصلح للغزو ، وأمكن الانتفاع بها في شيء آخر مثل أن تدور في الرحا ، أو تكون الرغبة في نتاجها ، أو حصاناً يتخذ للطراق فإنه يجوز بيعها ويشتري بثمنها ما يصلح للغزو ) .
وقال ابن قدامة : ( لأن المقصود استبقاء منفعة الوقف الممكن استبقاؤها وصيانتها من الضياع ، ولا سبيل إلى ذلك إلاّ بهذه الطرق ) .
حالة عدم الانتفاع بالمسجد :
هناك حالات لا ينتفع فيها بالمسجد مثل مسجد بني ، ثم انهدم من خشبه أو قصبه أو شيء من نقضه فإنه لا يباع ، وإنما يعان به مسجد آخر ، هكذا نصّ عليه أحمد وهكذا الحكم عندما يفضل من حصر المسجد وزيته ولا يحتاج إليه فيجوز أن يجعل في مسجد آخر أو يتصدق من ذلك على فقراء جيرانه وغيرهم ، وكذلك ان فضل من قصبه أو شيء من نقضه ، قال المروزي : ( سألت أبا عبدالله عن بواري المسجد إذا فضل منه الشيء ،أو الخشبة ، قال : يتصدق به ، وأرى أنه قد احتج بكسوة البيت إذا انخرقت تصدق بها ، وقال في موضع آخر قد كان شيبة يتصدق بخلقان الكعبة ) . ، ولكن إذا لم تتحقق المنفعة بهذا التحويل فيجوز البيع وصرف ثمنه في خدمة المساجد .
عدم بيع العقار الموقوف عند مالك :
لا يجوز بيع العقار المحبوس عند مالك وإن خرب ونقص ، ولو بيع بعقار آخر صالح إلاّ لتوسيع مسجد جامع ، أو الطريق ، أو المقبرة ، حيث قال في المدونة : ( ولا يباع العقار الحبس ولو خرب ، وبقاء أحباس السلف دائرة دليل على منع ذلك ) ، قال الدسوقي : ( ورد المصنف بالمبالغة بقوله ” وإن خرب ” على رواية أبي الفرج عن مالك : إن رأى الإمام بيع ذلك لمصلحة جاز ويجعل ثمنه في مثله وهو مذهب أبي حنيفة أيضاً ) ، بل هو مذهب الحنابلة كما سبق .
وقد علق الدردير على ذلك : ( وهذا في الوقف الصحيح ، وأما الباطل كالمساجد والتكايا التي بناها الملوك والأمراء بقرافة مصر ، ونبشوا مقابر المسلمين ، وضيقوا عليهم فهذه يجب هدمها قطعاً ونقضها … وتباع لمصالح المسلمين أو يبنى بها مساجد في محل جائز ، أو قنطرة لنفع العامة ، ولا تكون لوارثهم ان علم ، إذ هم لا يملكون منها شيئاً ، وأين لهم ملكها وهم السمّاعون للكذب الأكّالون للسحت يكون الواحد منهم عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء وهو كَلٌّ على مولاه ، فإذا استولى بظلمه على المسلمين سلبهم أموالهم وصرفها فيما يغضب الله ورسوله … وأما أوقافهم بوسط البلد فهي نافذة لأنها من مصالح المسلمين ) .
ثمـن الوقف :
في حالة جواز بيع الوقف أو جزء منه ” حسب الحالات السابقة ” فما الذي يجب أن يتجه إليه ثمن الوقف ؟ للإجابة عن ذلك نقول : ان فيه تفصيلاً يتلخص فيما يأتي :
1. إذا بيع جزء من الوقف فإنه يصرف على تعمير الباقي أولاً ، وإذا زاد عن ذلك فيوزع على مستحقيه ، وإذا كان مسجداً فيصرف عليه وعلى مصالحه .
2. إذا بيع الوقف كله للأسباب السابقة فإن ثمنه لا بدّ أن يوجه إلى مثل له حسب الإمكان ، فإن كان مسجداً يبنى به مسجد آخر في مكان مناسب ، وإن كان داراً أو عمارة ، أو نحو ذلك يبنى به ما هو مثله في الغرض حتى يؤدي دوره للمستحقين ، وإن كان فرساً للجهاد يشترى بثمنها فرس أخرى للجهاد ، أو أي شيء من وسائل الجهاد ، وهكذا .
هذا إذا وفّى ثمن الوقف بشراء وقف آخر مثله ، فإذا لم يفِ بذلك يوجه الثمن للمساهمة في شراء وقف آخر مثله ، نصّ عليه أحمد ، لأن المقصود استبقاء منفعة الوقف الممكن استبقاؤها وصيانتها من الضياع ، ولا سبيل إلى ذلك إلاّ بهذا الطريق .
3. إذا كان الموقوف شجرة جفّت ، أو قلعتها الريح ، يباع ما بقي ، ويصرف الثمن إلى الموقوف عليه في وجه عند الشافعية ، أو يشترى به شجرة أو شقص من جنسها أو فسيل يغرس ليكون وقفاً في الوجه الثاني عندهم .
4. إذا كان الوقف حصر المسجد ، أو أخشابه ، أو أستار الكعبة ولم يبق فيها منفعة ولا جمال تباع ويصرف ثمنها في مصالح المسجد عند جماعة من الفقهاء ، قال النووي : (والقياس أن يشترى بثمن الحصر حصير… قال الإمام : وإذا جوّزنا البيع فالأصح صرف الثمن إلى جهة الوقف ) ، ثم قال الرافعي : ( جميع ما ذكرناه في حصر المسجد ونظائرها هو فيما إذا كانت موقوفة على المسجد ، أما ما اشتراه الناظر للمسجد ، أو وهبه له واهب وقبله الناظر فيجوز بيعه ع