تقسيم البلاد ذات الدرجات العالية حسب خطوط العرض :
تقسم البلاد ذات الدرجات العالية حسب خطوط العرض الدولية إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول : البلاد التي تقع بين خطي العرض 45 ْ و 48 ْ شمالاً وجنوباً ، وتتميز فيها جميع العلامات الكونية للأوقات في أربع وعشرين ساعة طالت الأوقات أو قصرت .
القسم الثاني : البلاد التي تقع بين خطي العرض 48 ْ و 66 ْ شمالاً وجنوباً ، وتنعدم فيها بعض العلامات الكونية للأوقات في عدد من أيام السنة ، كأن لا يغيب الشفق الذي يبدأ وقت صلاة العشاء ، فينتهي به وقت صلاة المغرب حتى يتداخل مع الفجر .
القسم الثالث : البلاد التي تقع فوق خط العرض 66 ْ شمالاً وجنوباً إلى القطبين وتنعدم فيها العلامات الكونية للأوقات في فترة طويلة من السنة نهاراً أو ليلاً [1] .
وقد انتهى الدكتور حسين كمال الدين رحمه الله في دراسة قيمة إلى أنه في خط عرض 49 ْ تضيع العلامات لمدة شهر ، وأنه في خط عرض 50 ْ تضيع لمدة تزيد عن أربعين يوماً ، وفي خط عرض 55 ْ تضيع لمدة تقرب من ثلاثة أشهر ، وفي خط عرض60 ْ تضيع لمدة تقرب من أربعة أشهر وهكذا [2].
وقد ذكر الدكتور محمد الهواري وغيره أن محور الأرض مائل بالنسبة لأشعة الشمس العمودية الواردة ، وتقدّر زاوية الميل بحوالي 23 ْ كما هو موضح في الشكل رقم 3 التالي :
وإن هذا الميل وحركة الأرض حول الشمس يقسمان الأرض إلى المناطق التالية :
أ- منطقة خط الاستواء : وهي منطقة حارة وتسقط أشعة الشمس فيه بصورة عمودية على الأرض ، وينعدم الظل في الزوال ويتساوى الليل والنهار في أغلب أيام السنة .
ب- المنطقة المدارية : وتتراوح ما بين مدار السرطان في خط عرض 23 ْ شمالاً إلى مدار الجدي في خط عرض 23 ْ جنوباً ، وهي منطقة مشابهة لدائرة خطة الاستواء ، وتسقط أشعة الشمس عمودية على الأماكن فيها مرتين في العام .
ت- المناطق المعتدلة الشمالية والجنوبية : وتمتد من خط عرض 23-67 ْ شمالاً ومن 23-67 ْ جنوباً ، وهي مناطق يحل فيها الصيف والشتاء والربيع والخريف ، ويختلف فيه طول الليل عن طول النهار ولا يستاويان إلاّ مرتين في العام .
ث- المناطق القطبية وتمتد ما بين خط عرض 67-90 ْ شمالاً و 67-90 ْ جنوباً ، وهي مناطق باردة ، يطول فيها الليل حتى يصبح ستة أشهر في الشمال ، بينما يكون النهار الدائم في الجنوب والعكس بالعكس[3] .
مواقيت الصلاة بايجاز :
بالنسبة لأوقات الصلاة يكاد الاجماع ينعقد على البداية والنهاية للصلوات الخمس في البلاد التي تظهر فيها العلامات المرتبطة بحركات الشمس كالآتي ، دون مراعاة ما سمي بالوقت الاختياري والضروري :
-
بداية وقت الصبح هي طلوع الفجر الصادق ، ونهايته عند أول ظهور لقرص الشمس من الأفق الشرقي .
-
بداية وقت الظهر عند زوال الشمس بأن يصير ظل الشيء مثله إضافة إلى فيئ الزوال ، ونهايته عند الجمهور ( الشافعية ، والحنابلة ، وصاحبي أبي حنيفة ) إلى أن يصير ظل كل شيء مثله سوى فيئ الزوال ، وعند أبي حنيفة إلى أن يصير ظل الشيء مثليه إضافة إلى فيئ الزوال ، ولكن المالكية قالوا : إن وقته الضروري يتداخل مع وقت العصر .
-
بداية وقت العصر عند المالكية والشافعية والحنابلة ، والصاحبين من بعد أي زيادة على ظل الشيء بمقدار المثل سوى فيئ الزوال ، وعند أبي حنيفة ، ظل مثليه سوى فيئ الزوال ، ونهايته بغروب قرص الشمس تحت الأفق الغربي .
-
بداية وقت المغرب بغروب قرص الشمس كاملاً ، ونهايته بغروب الشفق الأحمر عند الجمهور ، والشفق الأبيض ـ أي بعد الحمرة ـ عند الحنفية .
-
بداية وقت العشاء بعد نهاية وقت المغرب على الخلاف السابق ، ونهايته بطلوع الفجر[4] .
وقد لاحظنا ان بداية أوقات جميع الصلوات تبدأ من نهاية الوقت للصلاة السابقة إلاّ الظهر ، وأن أوقات جميعها تمتد إلى دخول وقت صلاة أخرى إلاّ الصبح ، وهذا الارتباط يدل عليه ما رواه مسلم بسنده عن أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أما إنه ليس في النوم تفريط ، إنما التفريط على من لم يصل حتى يجيئ وقت الصلاة الأخرى )[5] حيث يدل على الامتداد إلاّ وقت صلاة الصبح الذي استثنى بأدلة أخرى ـ كما سبق ـ .
مواقيت الصلاة في البلاد القطبية ونحوها :
من المعلوم في الدين بداهة أن أوقات الصلوات الخمس محددة ، فقال تعالى : ( إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً)[6] ، كما وردت أحاديث صحيحة في بيان أوائل وأواخر هذه الأوقات : الفجر ، والظهر ، والعصر ، والمغرب ، والعشاء ، فقد روى الشافعي ، والترمذي وصححه ، وابن ماجه ، والنسائي ، والحاكم في المستدرك وصححه بسندهم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أمني جبريل عليه السلام عند البيت مرتين فصلى الظهر في الأولى منهما حين كان الفيء مثل الشراك ثم صلى العصر حين كان كل شيء مثل ظله ثم صلى المغرب حين وجبت الشمس وأفطر الصائم ثم صلى العشاء حين غاب الشفق ثم صلى الفجر حين برق الفجر وحرم الطعام على الصائم وصلى المرة الثانية الظهر حين كان ظل كل شيء مثله لوقت العصر بالأمس ثم صلى العصر حين كان ظل كل شيء مثليه ثم صلى المغرب لوقته الأول ثم صلى العشاء الآخرة حين ذهب ثلث الليل ثم صلى الصبح حين أسفرت الأرض ثم التفت إلي جبريل فقال يا محمد هذا وقت الأنبياء من قبلك والوقت فيما بين هذين الوقتين) [7].
فهذه الأحاديث حددت أوقات الصلوات للبلاد التي يكون الليل والنهار فيها معتدلين مثل معظم بلاد العالم ، أما المناطق القطبية التي يستمر في نهار دائم ستة أشهر ، وفي ليل دائم ستة أشهر أخرى كما يقول الجغرافيون فلا يمكن تطبيق المعايير السابقة عليها ، لأنه قد لا تطلع فيها الشمس إطلاقاً ، أو لا تغيب ، أو يكون الليل ، أو النهار قصيراً جداً جداً كالجهات القطبية ، والاسكندنافية ، أو البلاد الشمالية التي يتداخل ويتحد فيها وقتا العشاء والفجر في بعض أشهر السنة ، وهي البلاد التي تتجاوز خط العرض 48 ْ شمالاً أو جنوباً [8].
فهل تجب الصلوات على المسلمين الذين يعيشون في هذه المناطق أو تسقط عليهم ، وإذا وجبت فكيف يؤدونها ؟
أولاً : وجوب الصلاة عليهم :
وقد أجمع الفقهاء قاطبة على وجوب الصلوات الخمس على أهل القطبين ، كما اتفقوا ( ما عدا رأياً لبعض الحنفية )[9] على وجوب الصلوات الخمس على أهل البلاد التي يتحد فيها وقتا العشاء والفجر ، أو غيرهما ، في حين ذهب بعض علماء الحنفية إلى سقوط الصلوات التي لم يجدوا لها وقتاً مثل صلاة العشاء والوتر في البلاد التي يظهر فيها الفجر الصادق قبل غياب الشفق الأحمر[10] .
وقد قال العلامة الحصكفي : (وفاقد وقت العشاء والفجر كبلغار ، فإن فيها يطلع الفجر قبل غروب الشفق من أربعينية الشتاء ، ( قال ابن عابدين : وصوابه في أربعينية الصيف ) مكلف بهما فيقدر لهما ، ولا ينوى القضاء لفقد وقت الأداء ، وبه أفتى البرهان الكبير ، واختاره الكمال ، وتبعه ابن الشحنة في ألغازه فصححه )[11] .
قال ابن عابدين : ( هذه المسألة نقلوا فيها الخلاف بين ثلاثة من مشايخنا وهم : البقالي ، والحلواني ، والبرهان الكبير ، فأفتى به البقالي بعدم الوجوب ، وكان الحلواني يفتي بوجوب القضاء ، ثم وافق البقالي لما أرسل إليه الحلواني من يسأله عمن أسقط صلاة من الصلوات الخمس : أيكفر ؟ فأجاب البقالي السائل بقوله : من قطعت يداه أو رجلاه كم فروض وضوئه ؟ قال : ثلاث لفوات المحل ، قال : فكذلك الصلاة ، فاستحسن الحلواني ورجع إلى قول البقالي بعدم الوجوب ، وأما البرهان الكبير فقال بالوجوب لكن قال في الظهيرية وغيرها : لا ينوي القضاء في الصحيح لفقد وقت الأداء )[12] ثم قال : ( والحاصل أنهما قولان مصححان ويتأيد القول بالوجوب بأنه قال به إمام مجتهد وهو الإمام الشافعي )[13] .
وقد رد ابن الهمام على البقالي بقوله : ( ولا يرتاب متأمل في ثبوت الفرق بين عدم محل الفرض وبين سببه الجعلي الذي جعل علامة على الوجوب الخفي الثابت في نفس الأمر وجواز تعدد المعرفات للشيء ، فانتفاء الوقت انتفاء المعرف ، وانتفاء الدليل على شيء لا يستلزم انتفاء ، لجواز دليل آخر وقد وجد وهو ما تواطأت أخبار الاسراء من فرض الله تعالى الصلاة خمساً بعد ما أمروا أولاً بخمسين ثم استقر الأمر على الخمس[14] شرعاً عاماً لأهل الآفاق لا تفصيل فيه بين أهل قُطر وقُطر )[15] .
وقد رد القائلون بعدم وجوب العشاء والوتر على هؤلاء الذين يعيشون في تلك البلاد التي يتداخل فيها وقت العشاء في وقت الفجر ـ كما سبق ـ بأنه يقال : كما استقر الأمر على أن الصلوات خمس فكذا استقر الأمر على أن للوجوب أسباباً وشروطاً لا يوجد بدونها ، ويجاب عن ذلك بأن أصل السبب وهو الوقت موجود ، وإن كان متداخلاً حسبما يظهر لنا .
ومن جانب آخر فإن الحائض لو طهرت بعد طلوع الشمس لم يكن الواجب عليها في ذلك اليوم إلاّ أربع صلوات ، وبعد خروج وقت الظهر لم يجب عليها في ذلك اليوم إلاّ ثلاث صلوات ، وهكذا ، ولم يقل أحد إنه إذا طهرت في بعض اليوم أو في أكثره يجب عليه تمام صلوات اليوم والليلة لأجل أن الصلوات فرضت خمساً على كل مكلف .
ولكن هذا غير وارد لأن الحائض معذورة ولم تجب عليها الصلاة السابقة لفقد شرطها ، كما انها حالة فردية ، في حين أن القول بعدم وجوب صلاة العشاء على هؤلاء يؤدي إلى اسقاط الفرض الخامس كلياً عليهم ما داموا على هذه الحالة ، ومن جانب آخر فإن صلاة الحائض وهي حائض غير جائزة بل محرمة وصلاة هؤلاء أداءً أو قضاءً صحيحة ،ثم كيف يحرم هؤلاء طوال هذا الوقت كله من صلاة العشاء ؟ .
وقد ردّ هؤلاء على قياس هذه الحالة على حديث الدجال بأنه قياس غير صحيح ، لأنه لا مدخل للقياس في وضع الأسباب وأن الحديث ورد على خلاف القياس .
والجواب عن ذلك بأن القياس صحيح لأنه وارد في قياس حالة متشابهة تماماً بحالة الزمن في حديث الدجال حيث تنتهي الأوقات العادية لأن ذلك اليوم كسنة ومع ذلك وجبت الصلوات الخمس تقديراً بأوقاتها السابقة .
والحق أن مناقشات هذه القلة لم تسلم من نقد ونقض ، وأن أدلتهم لم تنج من معارضة وضعف .
وأما ما يتعلق بأهل القطبين من استمرار النهار ستة أشهر والليل ستة أشهر أخرى فلم أر فيه الخلاف المذكور في الكتب التي اطلعت عليها [16] ، ولا ينبغي أن يرد في وجوب الصلوات الخمس عليهم خلاف ، إذا كيف يعفون من الصلوات طوال ستة أشهر ، وستة أشهر أخرى ، وكيف يمكن اعتبار هذه المدة الطويلة يوماً واحداً ، أو يومين ؟
لذلك فالصواب هو وجوب الصلوات الخمس عليهم للأدلة القاطعة على ذلك ، وأن الصواب الذي لا شك فيه هو قول جماهير العلماء من عدم سقوط الصلاة عليهم كلياً ، ولا سقوط صلاة العشاء إذا تداخلت مع صلاة الفجر ، لأن الأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة متضافرة على أن الصلاة صلة بين العبد وربه لا تنقطع في جميع الأحوال مهما كانت صعبة حيث تبقى واجبة على العاحز المريض بحيث إذا لم يستطع قائماً فقاعداً ، فمضطجعاً ، فبالاشارة حتى وبإشارة الرأس ، أو العين ، فهي العهذ الذي بيننا وبين الكفار ، والفاصل الذي يفصل المؤمن عن الكافر ، والفرقان الذي يفرق بين الكافر والمؤمن .
يقول ابن الهمام : ( فاستفدنا ـ أي من جميع الأدلة ـ أن الواجب في نفس الأمر خمس على العموم ، غير ان توزيعها على تلك الأوقات عند وجودها ، ولا يسقط بعدمها الوجوب )[17] ، بل توزع بشكل آخر على هذه المدة وهي 24 ساعة ، حسب أي معيار مناسب .
القياس النسبي وحديث الدّجال ودلالته :
القياس النسبي هو : الاعتماد على معيار أقرب البلاد ، أو أعدلها ، أو بعبارة مختصرة : الاعتماد على التقدير ، حيث يدل على ذلك ما رواه مسلم في صحيحه ، وأحمد في مسنده ، والترمذي بسندهم عن النواس بن سمعان قال : ( ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة … . قلنا: يا رسول الله ما لبثه في الأرض؟ قال: ( أربعون يوماً: يوم كسنة ، ويوم كشهر ، ويوم كجمعة ، وسائر أيامه كأيامكم ، قلنا يا رسول الله: فذلك اليوم الذي كسنة أيكفينا فيه صلاة يوم؟ قال : ( لا ، اقدروا له قدره )[18] فهذا الحديث نص في ان الصلوات الخمس تؤدى حسب الوقت المقدر بالزمن السابق قبل مجيء الدجال ، قال ابن الهمام : ( فقد أوجب صلى الله عليه وسلم أكثر من ثلاثمائة عصر قبل صيرورة الظل مثلاً أو مثلين ، وقس عليه ، فاستفدنا أن الواجب في نفس الأمر خمس على العموم ، غير ان توزيعها على تلك الأوقات عند وجودها ، ولا يسقط بعدمها الوجوب )[19] كذا قال صلى الله عليه وسلم : ( خمس صوات كتبهنّ الله على العباد )[20] وفي رواية ابن ماجه من حديث أبي أمامة ، في آخره : ( …وآخر أيامه كالشَررَة يصبح أحدكم على باب المدينة فلا يبلغ بابها حتى يمسي ، فقيل : يا رسول الله : كيف نصلي في تلك الأيام القصار ؟ قال : ( تقدرون فيها الصلاة كما تقدرونها في هذه الأيام الطوال ، ثم صلوا…. )[21] .
ويقول شيخ الاسلام ابن تيمية : ( والمواقيت التي علمها جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم ، وعلمها النبي لأمته … وهي التي ذكرها العلماء في كتبهم هي في الأيام المعتادة ، فأما في ذلك اليوم الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم ( يوم كسنة ) قال : ( فاقدروا له قدره ) فله حكم آخر يبين ذلك أن صلاة الظهر في الأيام المعتادة لا تكون إلاّ بعد الزوال ، وفي ذلك اليوم يكون من أوائل اليوم بقدر ذلك ….. )[22] .
فهذا الحديث بجميع رواياته يدل بوضوح على حجية القياس النسبي بالنسبة للمناطق التي لا تظهر فيها علامات التميز لأي صلاة ، ويدل عليه كذلك قوله تعالى : ( ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً )[23] حيث فسره جماعة بأن المراد به : يؤتون على مقدار البكرة ومقدار العشي من أيام الدنيا ، وقيل : يعرف ذلك بأنوار تظهر من ناحية العرش كما يعرف ذلك في الدنيا بنور الشمس[24] .
بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم أوجب على أهل ذلك العصر في اليوم الأول الذي كسنة ألفاً وسبعمائة وخمساً وسبعين صلاة إذا اعتبرنا تلك السنة الهجرية سنة قمرية عدد أيامها ثلاثمائة وخمسة وخمسون يوماً ، وأوجب في اليوم الثاني الذي هو كشهر مائة وخمسين صلاة إذا اعتبرنا الشهر ثلاثين يوماً ، وأوجب خمسة وثلاثين صلاة في اليوم الثالث الذي هو كجمعة .
فهذا الحديث يفهم منه بوضوح وجلاء أن أهل القطبين تجب عليهم الصلوات الخمس في كل أربع وعشرين ساعة ثم هم يقدرون أوقاتها حسب التفصيل الذي سنذكره فيما بعد ، وكذلك الأمر بالنسبة لتداخل وقت صلاة العشاء في وقت الفجر ، أو تداخل وقت المغرب في العشاء أوبالعكس فإن هذا العدد خمس صلوات لا تسقط بأي حال من الأحوال ، ولا ينتقص عددها بأي صورة من الصور ، فكيف يتصور أن يكون عدد الصلوات المفروضات على هؤلاء أربعاً مع أن جميع النصوص الشرعية متواترة على فرضية خمس صلوات على كل مسلم في كل يوم .
ومن جانب آخر فإن مقاصد الشريعة في الصلاة هي ذكر الله تعالى وعدم نسيانه ، وارتباط قلب المصلي بالله تعالى طوال الأربع والعشرين ساعة من خلال خمس صلوات مفروضات موزعة عليها بدقة مع سنن ونوافل تشغل قلب الانسان بالله تعالى ، وهذا ما بينه القرآن الكريم في أكثر من آية ، منها قوله تعالى : ( وأقم الصلاة لذكري )[25] وقوله تعالى : ( إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر )[26] ولذلك فإذا لم يمكن تحقيق هذا التوزيع من خلال العلامات الواضحة مثل الغروب ، والشفق فإن أصل الفرض لا بدّ أن يبقى ، ولكنه يربط بعلامات أخرى مثل التقدير بأقرب المناطق أو نحو ذلك .
فتوى والردّ عليها :
ذكر فضيلة الشيخ حسنين مخلوف في فتاويه خلافاً بين الفقهاء في وجوب الصلاة على أهل القطبين ، نذكر فتواه بنصها ، ثم الرد عليها ، حيث قال : ( نفيد بأنه فيما يختص بالبلاد التي تغيب فيها الشمس ستة أشهر أو نحو ذلك ، اختلف الفقهاء في وجوب الصلاة على المقيمين بها وعدم وجوبها فقال بعضهم لا تجب عليهم الصلاة لعدو وجود السبب وهو الوقت ، وقال بعضهم تجب عليهم الصلاة وعلية أن يقدروا لها أوقاتها بالقياس على أقرب البلاد التي تطلع فيها الشمس وتغرب كل يوم والقول الأخير قول الشافعية وهو قول مصحح عند الحنفية وهو الذي اخترناه للفتوى مراعاة لحكمة تشريع الصلاة )[27] .
والتحقيق أن هذا الخلاف الذي ذكره شيخنا العلامة هو خاص بأهل البلاد التي لا يغيب فيها الشفق حتى يطلع الفجر حيث قال بعض علماء الحنفية بسقوط صلاة العشاء والوتر عليهم لعدم وجود الوقت الخاص بالعشاء وهو غروب الشفق الذي هو سبب لوجوب صلاة العشاء ، وهذا ما ذكرته كل كتب الحنفية والشافعية والمالكية[28] التي ذكرت هذه المسألة حيث حصرت قول هؤلاء الأحناف في صلاة العشاء والوتر في حالة عدم غياب الشفق إلاّ بعد طلوع الفجر ، ولم تتطرق إلى حكم الصلاة بالنسبة لأهل القطبين اللذين يستمر عندهم الليل ، أو النهار لمدة ستة أشهر ، أو بعبارة موجزة أن عامهم يوم واحد يتكون من ونهار وليل ، فكيف تسقط عليهم الصلوات طوال العمر كله هذا لم يقل به أحد من الفقهاء حسب علمي وبحثي الطويل .
ويبدو أن شيخنا ( مخلوف ) قد استنبط ذلك من الخلاف الموجود داخل المذهب الحنفي حول سقوط صلاة العشاء على أهل البلاد التي لا يغيب فيها الشفق قبل الفجر ، ومن المعلوم أن لازم المذهب ليس بمذهب ، وأن الأمرين مختلفان جداً ، وأن قياس أحدهما على الآخر قياس مع فوارق لا يستقيم .
ثانياً ـ كيفية تقدير الصلوات :
أ ـ التقدير بالنسبة لتداخل الوقتين :
التقدير النسبي حسب وقت أقرب البلاد :
إن أول من تطرق إلى التقدير النسبّي : الشيخ أبو حامد الاسفرايني الشافعي المتوفى ( 406هـ )[29] حيث سئل عن كيفية أداء الصلوات لأهل البلغار ، فذكر أن الشمس لا تغرب عندهم إلاّ بمقدار ما بين المغرب والعشاء ثم تطلع ؟ فأجاب بأنه : يعتبر صومهم وصلاتهم بأقرب البلاد إليهم)[30] ، ثم أخذ هذا المبدأ متأخرو المالكية من الشافعية ، وصرحوا بذلك مما يدل على مدى الأمانة والحب بين أهل المذاهب فقال العلامة الأمير منهم : ( والذي ذكره بعض حواشي شرح المنهج : أن يقدر لهم مدة شفق من ليلهم بنسبة مدة شفق غيرهم لليلة ، فإذا كان الشفق يغيب في أقرب مكان لهم في ساعة ، ومدة الليل في ذلك الغروب للفجر اثنتا عشرة درجة ، فوقت العشاء بعد الغروب بدرجة ونصف ، وهو أنسب بقواعدهم ـ أعني الشافعية ـ في اختلاف المطالع ، وأن لكل مكان حكم نفسه )[31] .
وكذلك أخذ بهذا الحلّ بعض متأخري الحنابلة[32] .
فعلى ضوء ذلك ذهب جماعة من الفقهاء منهم الشافعية ، وبعض المالكية ، وبعض الحنفية[33] إلى أن أهل البلاد التي يتداخل فيها وقتا العشاء والفجر ـ أي يظهر الفجر قبل مغيب الشفق ـ يقدرون مغيب شفقهم بأقرب البلاد إليهم فإذا كان أقرب البلاد إليهم يغيب فيها الشفق بعد ساعة من غروب الشمس ـ مثلاً ـ ومدة الليل في هذه البلاد ثماني ساعات فيكون أول العشاء عندهم بعد ساعة من غروب الشمس ، وإذا كانت مدة الليل في البلاد التي ليس فيها عشاء اثنتي عشرة ساعة فيقدر مغيب الشفق عندهم بساعة ونصف من غروب الشمس ، لأن مدة بقاء الشفق في أقرب البلاد إليهم ساعة وهي تعادل الثمن من الليل ، لأن الليل عندهم ثماني ساعات والبلاد التي ليس فيها عشاء وليلها فيها اثنتا عشرة ساعة يقدر لغياب الشفق ثمن هذه المدة وهي ساعة ونصف[34] .
ويترتب على هذا الاعتبار بأن تكون صلاتهم أداءً لا قضاء ، وأن يكون الوقت الذي اعتبرناه لهم وقتاً للعشاء حقيقة بحيث يكون العشاء فيه أداءً [35]، قال الصاوي المالكي : ( وقدّر الشافعية بأقرب البلاد لهم واختاره القرافي من أئمتنا فتكون العشاء أداء عليه )[36] .
قال النووي : ( قال صاحب التتمة في بلاد المشرق نواح تقصر لياليهم فلا يغيب الشفق عندهم فأول وقت العشاء عندهم أن يمضي من الزمان بعد غروب الشمس قدر يغيب الشفق في مثله في أقرب البلاد إليهم )[37] .
وجاء في تحفة المحتاج : (ومن لا شفق لهم يعتبر بأقرب بلد إليهم ، ويظهر أن محله ما لم يؤد اعتبار ذلك إلى طلوع فجر هؤلاء بأن كان ما بين الغروب ومغيب الشفق عندهم بقدر هؤلاء ففي هذه الصورة لا يمكن اعتبار مغيب الشفق ، لانعدام وقت العشاء حينئذ ، وإنما الذي ينبغي أن ينسب وقت المغرب عند أولئك إلى ليلهم ، فإن كان السدس مثلاً جعلنا ليل هؤلاء سدسه وقت المغرب ، وبقيته وقت العشاء وان قصر جداً )[38] .
وقد أوضح القليوبي هذه المسألة أكثر فقال : ( مثاله : لو كان البلد الأقرب ما بين غروب شمسه وطلوعها مائة درجة ، وشفقهم عشرون منها فهو خمس ليلهم فخمس ليل الآخرين هو حصة شفقهم ، وهكذا طلوع فجرهم )[39] .
وهذا التقدير القائم على النسبة وهو الراجح لأنه يقوم على معيار واضح بين يمكن الاعتماد عليه في تقدير الأوقات المتداخلة ، أو عند عدم عياب الشفق الأحمر إلى الفجر .
وجاء العلامة الصاوي فشرح لنا هذا الرأي عن طريق الساعة فقال : ( أن يقدّر لهم مدة شفق من ليلهم بنسبة مدة شفق غيرهم لليله ، فإذا كان الشفق يغيب في أقرب مكان لهم في ساعة ، ومدة الليل في ذلك المكان من الغروب للفجر ثمان ساعات فغيبوبة الشفق في الثمن ـ أي ساعة واحدة ـ فإذا كان ليل هؤلاء من الغروب للفجر اثنتي عشرة درجة ـ أو ساعة ـ فوقت العشاء بعد الغروب بدرجة ونصف ـ أي ساعة ونصف ـ ثم قال : وهذا أنسب بقواعد الشافعية )[40] .
ثم ذكر العلامة الصاوي أن بعض المالكية قالوا : ( إن التقدير معناه : تعليق الحكم بغيبوبة شفق أقرب مكان لهم فإذا غاب وجبت عليهم العشاء بعد فجرهم فهو أداء ، لأنه غاية ما في قدرتهم ، إذ لا عشاء إلاّ بغيبوبة شفق ، وهذا أسبق شفق غاب ، وقد أنشد الصاوي على هذا التفسير :
قل للفقيه الذي في عصره انفردا بكل فنّ وكم من مُعضل مـــهّدا
ماذا عشا أديت والفجر قد طلعا وقبل أن يطلع البطلان قد وردا
وجوابه :
هي البلاد التي لاح الصباح بها من قبل غيب الشفق يا صاح فاعتمدا
قول القرافي بتقدير القريب لهم من البــــلاد حيّــــــــاك الله كلّ نـــــدا
ولكن هذا السؤال والجواب واردان على القول الأخير لبعض المالكية ، ولا يردان على قول الشافعية ، والقرافي[41] .
وهذا التفسير الأخير غريب إذ كيف تؤدى صلاة العشاء بعد الفجر وهي أداء في حين أن التفسير الأول للشافعية ، والقرافي وغيرهم واضح بل يشهد على هذا التقدير حديث الدجال الذي سبق ذكره .
وقد ردّ ابن حجر الهيثمي ما ذكره بعض الفقهاء : اعتبار غيبوبة الشفق بالأقرب وإن أدى إلى طلوع فجر هؤلاء حيث لا يدخل به وقت الصبح عندهم بل يعتبرون أيضاً بفجر أقرب البلاد إليهم فقال : ( وهو بعيد جداً ، إذ مع وجود فجر لهم حسي كيف يمكن الغاؤه ويعتبر فجر الأقرب إليهم ؟ ! والاعتبار بالغير إنما يكون فيمن انعدم عندهم ذلك الأمر عليه لا غير)[42] .
وجود بلدين قريبين بهما شفقان مختلفان :
بقي إذا وجد بلدان لهما شفقان مختلفان بقرب هذه البلاد التي لا شفق لها ، أو أن شفقهما لا يغيب إلاّ مع طلوع الفجر ، فإن كان أحدهما أقرب إلى تلك البلاد فالعبرة بالأقرب ، وإن تساويا في القرب بأن كان شفق أحدهما يغيب قبل شفق البلاد الآخر ، رجح بعض الفقهاء منهم العلامة الشيرواني الاعتبار بالبلد الثاني الذي يغيب الشفق بعد البلد الأول ، حتى لا يؤدي إلى فعل العشاء قبل دخول وقتها على احتمال[43] .
تفسير التقدير عن الحنفية :
وذهب بعض علماء الحنفية إلى أن المراد بالتقدير : افتراض أن الوقت موجود وأن كان الوقت وقتاً لصلاة الصبح أي أنه يجب قضاء العشاء بأن يقدّر أن الوقت ـ أعني سبب الوجوب ـ قد وجد كما يقدّر وجوده في أيام الدجال ، لأنه لا يجب بدون السبب ، قال ابن عابدين : ( وحاصله أنا لا نسلم وجود السبب حقيقة بل يكفي تقديره كما في أيام الدجال )[44] وهذا المعنى يتماشى مع رأيهم من أن أداء العشاء على سبيل القضاء ، يقول ابن عابدين : (إذا علمت ذلك ظهر لك أن من قال بالوجوب يقول به على سبيل القضاء ، لا الأداء ، ولو كان الاعتبار بأقرب البلاد إليهم لزم أن يكون الوقت الذي اعتبرناه لهم وقتاً للعشاء حقيقة … وأيضاً لو فرض أن فجرهم يطلع بقدر ما يغيب الشفق في أقرب البلاد إل