أيها الإخوة المؤمنون
لقد تحدثنا في الخطبة السابقة عن سنن الله تعالى المبثوثة في كتابه الكريم والمنتشرة في كتابه المفتوح المتمثل بهذا الكون العظيم والمبثوثة في الأمم والشعوب.
هذه السنن هي الطرائق وهي السنن المتبعة التي كتب الله على نفسه وجعلها من مقتضيات عدله وحكمته.
حيث إن هذه السنن لا تفرق بين أحد سواء أكان مسلماً أو كافراً فمن أخذ بها فقد تحققت له نتائجه بإذن الله تعالى ومن لم يأخذ بها أيضاً تتحقق فيه نتائجه بإذن الله تعالى.
فهذه السنن ترشدنا إلى أنه على هذه الأمة أن تقرأ مع الكتاب الكريم التاريخ وأن تكون على علم بما تحقق للأمم السابقة والحاضرة من التقدم والتحضر ومن التخلف والفقر والبطالة وغير ذلك، يقول الله سبحانه وتعالى ويأمرنا بذلك: ( قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ )، بيّن الله سبحانه وتعالى لنا ذلك وأمرنا أن نسير وننظر إلى عاقبة المكذبين وعاقبة المتقين والمتعلمين وننظر إلى عاقبة الذين لم يأخذوا بهذه السنن.
ويبين الله لنا في هذه الآية حقيقة من الحقائق وسنة من سننه جل في علاه والتي طبقها على رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم آله وصحبه الكرام الذين كانوا معه في غزوة أحد، حيث كانت هذه الغزوة ابتلاءً عظيماً ومصيبة كبرى على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى صحابته الكرام، حيث استشهد منهم سبعون صحابياً من خيار آل بيت وصحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام أمثال حمزة وغيره من الصحابة من الذين استشهدوا في هذا الوقت حيث لم عدداً بسيطاً باعتبارهم من خيار الصحابة والآل في ذلك الوقت.
فبدأ التلاوم بين عامة الصحابة وأهل المدينة يتساءلون أين نصر الذي وعد المؤمنين به؟ وقد فعل المشركون بهم ما فعلوا حتى الرسول صلى الله عليه وسلم قد جُرح وكسرت رباعيته في هذه الغزوة فكانت محنة عظيمة في ذلك الوقت.
فالله سبحانه وتعالى هنا بيّن أن هذه سنة من سننه جل في علاه، وأن ما حدث لكم في هذه الغزوة كانت بسببكم أنتم، حيث يبين سبحانه وتعالى في قوله: ( وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ ۚ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۚ )، مجموعة من السنن التي تُطبق على المسلمين وغير المسلمين.
وأن الله سبحانه وتعالى قد صدق وعده ونصر المؤمنين في البداية.
وبالعودة إلى بداية الغزوة حينما سمع الرسول صلى الله عليه وسلم بأن قريشاً قد جهزت جيشاً بقيادة أبي سفيان وأنهم قادمون نحو المدينة، فقام الرسول عليه الصلاة والسلام باستشارة المؤمنين والخروج لملاقاتهم، وقام عليه الصلاة والسلام بترتيبهم والأخذ بسنن الله تعالى، فجهز مجموعة من خمسين صحابياً على أن يكونوا على جبل قريب اسمه جبل العينين بقيادة عبد الله بن جبير وأمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتمركزوا على الجبل وأن لا ينزلوا من الجبل سواء انتصر المسلمون أم انهزموا.
ولكنهم عندما وجدوا أن المشركين قد انهزموا وقتل منهم عدد كبير كما قال تعالى : (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم )، تحسونهم أي تقتلونهم قتلاً تأصيلياً وتقضون عليهم بهذه الطريقة.
فلما رأوا ذلك وأن بعض الصحابة شرعوا في جمع الغنائم، فنزل البعض منهم ظناً منهم أن المعركة قد انتهت، فانتهز خالد بن الوليد الفرصة والتف حولهم وحوّل نصر المؤمنين إلى هزيمة.
هنا نرى بأن هؤلاء الرماة لم يأخذوا بالأسباب ولم يسمعوا لرسول الله عليه الصلاة والسلام ولم يأخذوا بوصيته ولم يسمعوا لكلام قائدهم عبد الله بن جبير والذي قُتل مع قلة قليلة ممن بقوا في مكانهم.
إن الله سبحانه وتعالى كان قادراً أن يرسل الملائكة، ولكنه لم يرسلهم حتى يكون درساً لهذه الأمة حيث إنها أمة مستمرة وخالدة، ولكنها لا يمكن أن تسير وتستمر على المعجزات والتي هي خاصة بعصر الرسالة، وإنما تستمر هذه الأمة بالسنن والأخذ بالأسباب.
وبيّن الله سبحانه وتعالى بأن الهزيمة جاءت نتيجة عدم الأخذ بالأسباب، حيث ترك الرماة أماكنهم مما جعل نصرهم هزيمة لهم، لذلك فالخطط الحربية ضرورة يجب وضعها وتطبيقها ولا مانع من بعض الحيل والخدع المشروعة حيث كما يقال ( الحرب خدعة )، لأنها من أسباب النصر.
وفي قوله تعالى: (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ )، أي أن هذه السنن عامة لكل الناس، والله يأمرنا بالسير والنظر في هذه السنن للأمم السابقة لمعرفة التاريخ والنتائج والآثار، وقال تعالى: ( هَٰذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ )، ثم أمرهم بقوله تعالى: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ).
ثم بيّن الله سبحانه وتعالى سنة من سننه في نفس سياق الآية إذ يقول: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)، أي أن سنة الحياة والممات تطبق حتى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس معناه أنه قد مات يجب أن تنقلبوا وترتدوا.
هذه السنن تجعل الأمة أمة عقلانية ولبست مجرد أمة عاطفية، وأن تكون الأمة متوكلة على الله مع الأخذ بالأسباب، والابتعاد عن التواكل، حيث إن العبادات تنفع الأمة في الدنيا والآخرة ولكنها لا تنفع الأمة في الحرب، لذلك لابدّ مع الدعاء والعبادات الأخذ بالأسباب كما فعل عليه الصلاة والسلام.
وللأسف في هذا الوقت المسلمون منقسمون إلى شقين، شق قد ابتعد عن الدين ظناً منه أن الإسلام هو سبب التخلف والتراجع كما كانت المسيحية في القرون الوسطى، والقسم الآخر يعتمد على الجوانب العاطفية والشعائرية وكثرة العبادات رغم أهميتها، ولكنهم لا يلتفتون إلى هذه السنن التي كتب الله سبحانه وتعالى على نفسه وطبقها على رسوله الكريم وصحابته الكرام.
الواجب على أمتنا الإسلامية إلى جانب العبادات والشعائر وغير ذلك، أن تنظر إلى هذه السنن لخدمة هذا الدين الحنيف، وتقديمُ الخير لهذا الدين لا يتحقق إلا حسب سنن الله سبحانه وتعالى.
وقد أراد الله سبحانه وتعالى أن يكون لسننه أحكام تكليفية، يكلف بها عباده، وجعل بعض هذه السنن من باب الحكمة والعدالة، حيث يجب علينا أن نكون على يقين تام بأن كل شيء بيد الله، وأن النصر والهزيمة والحضارة والفقر والغنى بيده سبحانه وتعالى.
هذا ما يتعلق بالتكليف وواجبنا أن نؤمن به ونعتقد بذلك ونأخذ بالأسباب للنجاح في الدنيا.
أما بالنسبة للآيات التي ذكرها الله تعالى في كتابه الكريم: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)، (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ )، (وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ )، ليست متناقضة، إنما هذه الآيات والأحاديث والسنن إنما هي من داخل دائرة عقيدتنا، وإن هذه الآيات التي ذكرها أيضاً عن السنن إنما تدل على الأخذ بالأسباب ومعرفة عاقبة المكذبين والمتقين.
وكما نرى في وقتنا الحاضر أن الأمة الإسلامية من أكثر الأمم صلاة وعبادة ولكن لم تستطع أن تفعل شيئاً في مجال العلوم 0والتكنولوجيا، وجعلوا من قضية فلسطين شماعة لهم ولم يبذلوا لها شيئاً.
وإن دولة ككوريا الجنوبية وهي في حرب دائم مع كوريا الشمالية، عندما أخذت بأسباب العلم والتقدم، أصبحت أمة متقدمة ومتطورة.
والأمة الإسلامية أمة جامعة تكون لها الدنيا بالأخذ بالأسباب وتكون لها الآخرة بالعبادة والشعائر.
فالقوة والحضارة لا تأتي بالصلاة والعبادة فقط، وإنما بالأخذ بالأسباب أيضاً، حيث لمن يكن ليدخل الإسلام أحداً لولا الجهود المبذولة في سبيل الدعوة إليه، وكذلك الانتصارات في الغزوات كانت إنما بالإعداد والتجهيز لها إلى جانب الدعاء والعبادات.
والأمة الإسلامية أمة عظيمة أراد الله سبحانه وتعالى أن يصنعها على جناحين، جناح العقيدة والعبادات والشعائر التي تحقق لها السعادة في الدنيا والآخرة، وجناح العلم والسنن والعقل والحكمة والاستفادة من التاريخ فتكون له الدنيا.
أسأل الله تعالى أن يهدينا سنن الذين من قبلنا وأن يوفقنا للجمع بين هذين الجناحين وأن ينصر أمتنا نصراً عزيزاً….
الخطبة الثانية:
أيها لأخوة الكرام إذا نظرنا إلى تطبيق ما ذكرناه في الخطبة الأولى من سنن الله تعالى على أمتنا الإسلامية: كيف تنتصر الأمة بهذا الخلاف الكبير والشائع، وقد وصلت إلى مرحلة من الفُرقة والتشتت، ولم تجمعهم هذه العقائد العظيمة، فهم مختلفون ومتفرقون، وللأسف الشديد هم أشداء على المسلمين ورحماء على الأعداء.
وحتى المتشدقون بالعروبة لم تجمعهم قوميتهم ولا غيرها من القوميات مع شعوبهم.
ما دامت أمتنا في تنازع فلا يمكن أن تنتصر لأن الفشل نتيجة للتنازع.
وأعداء الإسلام على مرّ التاريخ يتربصون بها ويفرقونهم ( فرق تسد)، وإنهم أنما يجتمعون مع أمتنا ليزدوا فُرقة، يقول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ۚ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ )، لذلك خطورة الفُرقة كبيرة جداً على الإسلام.
اللهم أصلح أحوالنا
12 / 1 / 2018م