أيها الإخوة المؤمنون

من أشد أنواع الأمراض القلبية والنفسية والاجتماعية مرض خطير، يصيب الإنسان فيظنه خيراً له، بل هو شر له، يجعله بيعيداً عن الله تعالى، كما يجعله مبغوضاً ومكروهاً من قبل الآخرين، ذلكم المرض القلبي والنفسي والاجتماعي هو الكبر الذي يظن صاحبه أنه أفضل من الآخرين، ويستعظم نفسه ويعلو بها ويستصغر الآخرين، ويجعله لا يقب الحق ولا يرضى به، ويجعله رافضاً له ولا يخضع له، حتى ولو كان الحق واضحاً جلياً، وظاهراً بيناً، يحسب أن التزامه بموقفه وثباته على رأيه عز وفخر، ويظن أن الرجوع إلى الحق وقبوله والأخذ به ذل.

هذه نظرية غير صحيحة، وعمل غير حكيم، إذ الإنسان العاقل ـــ ناهيك عن دينه ومعتقده ـــ يخضع للحق ويرضى به حكماً، ويدعو إليه ويأخذ به أينما وجده، وعلى يد من ظهر له، ويتنازل عن مصالحه النفسية والشخصية والاجتماعية في سبيل تحقيق مصلحة الأمة، وفي سبيل تقديم الأنفع للعباد، استجابة لأمر الله تعالى في وجوب التواضع، والتنفير من الكبر.

إن الكبر يحول بين المرء وربه، وبين المرء وقبول الحق والاحتكام إليه، وبين المرء ومن يعاشره في المجتمع، وبين المرء ومن يعايشه في بيئته، ينأى به عن الحق ويدعوه إلى ظلم الناس وبخسهم حقهم، ويؤجج بين أفراد المجتمع نيران البغضاء والكراهية، ويقضي على الحب والوئام.

ولما كان الكبر إلى هذه الدرجة من الخطورة على الفرد والمجتمع حرمه الله تعالى، وجعله من الكبائر، وتوعد المتكبر بعذاب أليم، ونفى محبة الله تعالى له ولكل من لا يرى لنفسه ميزة دون مبرر على عباد الله تعالى، بل تكبراً واستبداداً.

إن الكبر نوعان: النوع الأول: الكبر على الله تعالى في ترك أوامره وفعل نواهيه، وهذا يؤدي بصاحبه إلى الكفر، وإذا دعي إلى الله تعالى وتقواه، وإذا وجه له النصح والإرشاد أخذته العزة بالإثم، ورفض الخضوع للحق، وقال متعجرفاً متكبراً:" ألي يقال هذا؟" تراه فيعجبك قوله، ويبهرك منظره، ويزعم أنه على خير، بل يحلف الأيمان أنه على خير وهدى وتقوى، بينما يضمر السوء في قلبه، ويبطن العداوة في سريرته، تأخذه نشوة الانتصار في المواقف، وتأخذه نشوة الجاه والسلطان، حتى لَيكاد يخال نفسه الآمر الناهي في الكون كله، فيسعى في الأرض بالفساد، ويهلك الحرث والنسل، فيبوء بغضب الله تعالى، وجهنم وبئس المصير، قال الله تعالى واصفاً هذ الحالة: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ* وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ* وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ}.

لا يقبل الحق ولا يحتكم إليه، ويحسب أنه يحسن صنعاً، وهنا تكمن الخطورة، إذ يؤدي هذا النوع من الكبر والغرور بصاحبه إلى التهلكة وإلى الكفر.

ومن كانت هذه شيمته باء بخران عظيم في الدنيا والآخرة؛ إذ الدار الآخرة وما فيها من رضوان الله تعالى والتشرف برؤيته سبحانه، والجنات بجميع أنواعها ومسمياتها لا تكون للمستعلين على الله تعالى الرافضين لدينه، المعتدين على أنبيائه ورسوله، المستكبرين على الحق المتجبرين على العباد، المستبدين على الضعفاء، الباغين الفساد في الأرض، بل كل نعيم الآخرة لمن لان جانبه، وتواضع لأمر الله تعالى فامتثل ما أمر به، واجتنب ما نهى عنه، قال تعالى: { تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}، فالمتقي خاضع لربه، مستسلم له، يقبل الحق ويدعو إليه، ويرجع إليه ولو جاءه على يد من لا يؤبه له في المجتمع.

النوع الثاني من أنواع الكبر، هو استصغار الناس والاستهانة بهم، والاعتداد بالنفس غروراً وتكبراً، مما يزيد المرء طغياناً وفساداً وشراً.

إن هذا المرض الخطير إذا أصاب امرأً ما أدى به إلى المصائب والهاوية، وسعى به إلى جهنم وبئس المصير، يجعله في الدنيا متخبطاً في آرائه، لا يهتدي إلى صواب، ولا يبصر هدى، فيتخذ القرارات غير الصحيحة، وتبني في نفسه سداً يمنعه من قبول نصح الناصحين، والاسترشاد بقول الراشدين، والأخذ بحكمة المستشارين، كما يحدث لبعض حكام المسلمين، حيث يظنون ان عقليتهم الصغيرة ــ وهي صغير بالفعل؛ إذ لا يتمتعون بعقلية علمية كبيرة، ولا بتجارب عملية عظيمة ـــ فيظنون أنفسهم أفضل من شعوبهم وأمتهم، وتكون النتيجة ــ كما شاهدنا في بلادنا العربية المنكوبة التي كانت ترزح تحت حكم المتكبرين المستبدين الطغاة الجبابرة ــــ خراب البلاد، وقتل الأبرياء، وتهجير الأوفياء، تحكموا في مصائر الشعوب، وأوردوا أممهم موارد الحتف والهلاك واللجوء والفقر والحاجة، فباؤوا بغضب الله تعالى، ولعنة التاريخ، وكره الشعوب، وبغضاء الأجيال المتلاحقة.

ولم ينجُ بعض الشعوب من لعنات الله تعالى ولعنات التاريخ والأمم؛ وذلك بسبب سكوتهم عن المطالبة بالحرية والكرامة، ولأنهم رضوا بأن يكون أداة ظلم وطغيان بأيدي الظالمين المتكبرين؛ لأن الله تعالى لا يقبل من الأمة الخنوع، ولا يرضى عنها إذا سكتت عن عبث العابثين بأمنها واستقرارها، بل الواجب على الأمة كلها أن تقوم بالإصلاح، وأن تأخذ على يد الظالم فتمنعه عن الظلم، ولئن سكت الضعفاء في الأمة فإن السكوت يحرم على علمائها ومفكريها وأهل الرأي والمشورة فيها، يجب عليهم قول الحق، والدعوة إليه، والتناصر من أجله، بالحكمة والموعظة الحسنة، حتى لا يعم الله تعالى الأمة كلها بالهلاك والفتن { وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً}، فإذا سكن الجميع إلى الظالم وركن إليه توالت الفتن دون تفرقة بين أحد.

ولقد قص الله تعالى علينا في هذا الجانب ما كان من حوار بين المصلحين وبعض من تسرب اليأس إلى قلبه من الإصلاح في بني إسرائيل، وعاتبوا المصلحين على نصحهم لأولئك المفسدين، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}، ولما آذن الله تعالى بهلاك بني إسرائيل نجى المصلحين؛ لأنهم أدوا الواجب عليهم من حيث النصح والتوجيه.

إن الكبر بلاء كبير، خاصة إذا تكبر من بيده السلطة والحكم والقرار، فإن تكبرهم يدمر البلاد ويفرق شمل العباد، وإذا اقترن هذا الكبر بالظلم أدى إلى خلل في العقيدة، من حيث الولاء لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وللمؤمنين، ومن حيث البراء من الكفار والمشركين والمعتدين.

إن المظلوم يتعلق بأي شيء يلوح له بطوق النجاة من وطأة الظالم وجبروت المتكبر، فيستعين بغير المسلمين في سبيل التحرر من قيود الظلمة، ويلتجئ إلى من لا يرعى في الأمة الإسلامية عهداً ولا يحفظ لها ميثاقاً، وهنا تكون الفرصة مواتية للاحتلال بشكل آخر، ويسعى العدو إلى تطبيق خططه التي خططها منذ عشرات السنين؛ إذ يمر احتلالهم عبر مراحل، المرحلة الأولى: الاحتلال مع الصفر في النتائج والربح، وذلك بالتدخل تحت مسمى الحماية والوصاية ورعاية الأقليات وصون الحقوق، والدفاع، فيجلب قوته إلى بلادنا وينشئ قواعده على أرضنا، دون أن يصرف في ذلك فلساً واحداً كأجرة لاحتلالنا؛ لأننا من دعوناه ورحبنا به في بلادنا، وإن المعروف على مستوى العالم كله أن أي دولة تنشيئ لها كياناً عسكرياً في أي بلد آخر يجب عليها أن تدفع أجرة ذلك، كما حدث لفلبين، حيث كانت الحكومة الفلبينية تأخذ من أمريكا أجرة إنشاء قاعدة عسكرية على أرض فلبين ما يقرب من 600 مليون دولار سنوياً، ثم رفض ذلك الشعب الفلبيني رغم حاجته وفاقته.

المرحلة الثانية من الاحتلال، هي الاحتلال مع الربح، وهو أن يأخذ العدو أرباحاً على حماية الشعب والأمة، وهذا ما صرح به " ترامب" حيث قال بكل بجاحة:" لا بد أن يفع الخليج لنا مقابل حمايتهم"، هذا ما وصل إليه أمر الأمة.

إن المتكبرين والمتجبرين من الذين بأيدهم زمام الأمر فشلوا في حماية الأمة، وأسروا بها إلى الحضيض، بل فشلوا في كل شيء، فشلوا في التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وفشلوا في مجال التربية والتعليم، وفشلوا في الرعاية الصحية، وفشلوا في تحقيق الرفاهية الدنيوية الحقة لشعوبهم، وفشلوا في إيجاد ما يحقق السعادة في الآخرة، فشلوا في الدنيا والآخرة، إلا لطبقة معينة، فمنحوهم الدنيا وأفسدوا الدين.

حتى ذاع صيتهم في الفشل في الحرب ضد العدو إلا ما كان في حرب 73 حيث غيروا بعض الشيء من سلوكهم، ومكنوا العلماء في التربية المعنوية للجيوش للارتقاء بهم، وحاربوا في ظل " الله أكبر" ولو استمروا على تلك الحال لأزالوا إسرائيل.

إن ضرر التكبر كبير حتى فيما بيننا، فنحن نتكبر بسبب الجاه والغنى والسلطة، رغم التربية الدينية لنا، ورغم أن شعار تفاضلنا هو {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، ورغم التربية على الخلق العظيم، والدعوة إلى نبذ العنصرية ووجوب إرساء قواعد المساواة، ولكن لا تزال العصبية القومية والعنجهية الجاهلية قائمة بيننا على قدم وساق، وما زالت هتافات التمييز على أساس اللغة والعرق والجنس والبلد تدعو في كل نادٍ إلى الشقاق.

ليس لنا الحق في الاستهزاء بأحد ـــ لا دينياً ولا إنسانياً ـــ ولننظر ماذا قدمنا من خدمات للشعوب والأمم، وماذا قدم غيرنا من الذين نجعلهم فاكهة مجالسنا للسخرية والاستهزاء.

إن معظم أفراد الأمة العربية لا تقدم إلا قيل وقال، وإضاعة المال وكثرة السؤال، بينما يقدم الآخرون المئات من الأفكار العلمية، والأبحاث المخبرية، فهم وصلوا إلى القمر، ونفذوا من أقطار السماوات والأرض بسلطان العلم والمعرفة، وبما حققوا من ابتكارات علمية، وما زلنا ننتظر، بل اتخذهم أكثرنا سخرياً.

الخطبة الثانية

إن أهم ما يميز هذا الدين أن جعل المؤمن أخاً للمؤمن، ورفع في سبيل القضاء على الفوارق الاجتماعية شعار { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} فالإيمان هو القاسم المشترك بين جميع من ينتسب إلى هذا الدين.

ولنا في سيرة الصحابة قدوة حسنة وأسوة، ثبت في الصحيح، " عَنْ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ لَقِيتُ أَبَا ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ وَعَلَى غُلَامِهِ حُلَّةٌ فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ إِنِّي سَابَبْتُ رَجُلًا فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ فَقَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَبَا ذَرٍّ أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ".

وقرر أبو ذر الغفاري بعدها أن يضع خده على الأرض ليطأه بلال رضي الله عنهما، فما كان منهما إلا التصافح والعناق والتسامح، فهم في دين الله إخوة.

يرتكب البعض منا الإثم بلا مبرر ولا فائدة، لم لا ندعو الآخرين بأحب الأسماء إليهم؟ فهو ادوم للعلاقة، وأوثق للود والاحترام.

لا فضل لأحد على أحد في ديننا إلا بالتقوى، ولا يطلع على التقوى إلا الله تعالى، وهي العروة الوثقى بين أفراد الأمة الإسلامية، فلنحرص على التمسك بها والدعوة إليها.

اللهم أصلح أحوالنا.