نشر مكتبة وهبة بالقاهرة سنة 1415هـ /1995م  :

  سار الشيخ في هذا الكتاب على منهج الاقتصاديين إلى حد جديد في تقسيم النشاط الاقتصادي أو وظائف النظام الاقتصادي إلى مراحل حصرها الشيخ في أربعة مجالات ،   هي : مجال الانتاج ، ومجال الاستهلاك ، ومجال التداول ، ومجال التوزيع ، وفسر هذه المجالات بنفس المعاني التي فسر بها الاقتصاديون تقريباً إلاّ ما يتعلق بالتوزيع ، حيث وسع دائرته لتشمل معظم ما يتعلق بإعادة التوزيع حسب تقسيمات الاقتصاديين ، فحينما تحدث عن قيمة العدل في التوزيع أضاف إليه : (ومن العدل إقامة تكافل اجتماعي شامل ) ثم تحدث عن هذا التكافل من خلال : ضمان اجتماعي للضعفاء والعاجزين في المجتمع ، وتأمين ذوي الحاجات الطارئة ، ثم بين موارد تمويل هذا الضمان من الزكاة ، والضرائب المشروعة ، وموارد الدولة الأخرى مثل الغنى ، والصدقات والنفقات ، والكفارات ونحوها[1] .

  وهذا الاختلاف بين منهج الشيخ في حصر النشاط الاقتصادي في أربعة مجالات ، ومنهج معظم الاقتصاديين في اضافة ( إعادة التوزيع ) يدل بوضوح على أن الشيخ سار على منهج اختاره لنفسه ، وهداه إليه اجتهاد دون تقليد لهؤلاء .

  وإضافة إلى ذلك فإن الشيخ سار على منهجه الفقهي في تأصيل الموضوعات بالأدلة المعتبرة من الكتاب والسنة والأدلة الأخرى ، ولم يَسْرِ على منهج الاقتصاديين في التحليل الاقتصادي ونحوه .

محتوى الكتاب :

الكتاب يتضمن مجموعة من الأفكار والآراء القيمة يمكن إيجازها فيما يأتي :

المقدمة ، تتضمن تمهيداً للكتاب ، تناول فيه الاقتصاد الاسلامي ، وأنه حقيقة واقعة ، وليس وهماً ، وأنه قد طبق في عصر الرسالة ، والخلافة الراشدة ، وان لم يكن تحت هذا الاسم ، بل كان تحت اسم : فقه المعاملات ، وفقه السياسة الشرعية ، وفقه الأموال ، أو الخراج …

  وقد كان الشيخ في دفاعه عن الاقتصاد الاسلامي منصفاً ووسطياً حيث قال :   ( ان كان المقصود بالمنهج والنظام الصورة التفصيلية التي تشمل الفروع والجزئيات والتطبيقات المتنوعة فالاجابة عندي بالنفي ، وان كان المقصود ، الصورة الكلية التي تتضمن الأسس الهادفة ، والقواعد الحاكمة ، والتوجيهات الاساسية الضابطة وبعض الفروع ذات الأهمية الخاصة ، فالاجابة عندي بالايجاب)[2] .

  وقد أزاح الشيخ في هذه المقدمة الغطاء عن بعض شبهات أثيرت حول الاقتصاد الاسلامي ، حيث كان رده مقنعاً وموفقاً [3] .

2ـ تناول الشيخ بعد المقدمة والتمهيد ، القيم وخصائص الاقتصاد الاسلامي ، وأوضح بجلاء أن الاقتصاد الاسلامي ما دامت خصائصه تكمن في أنه اقتصاد رباني ، وإنساني … فإن الأخلاق لا يمكن أن تنفك عنه ، فكونه ربانياً يقتضي أن يكون اقتصاداً قائماً على القيم والأخلاق الربانية .

3ـ ثم تناول الشيخ القيم والأخلاق في المجالات الأربع ، وهي الانتاج ، والاستهلاك ، والتداول ، والتوزيع .

4ـ وضم الشيخ كتابه بمبحث حول دور الدولة في الالتزام بالقيم والأخلاق في الاقتصاد الاسلامي .

منهج الكتاب :

أ ـ  الكتاب باعتباره يتحدث عن القيم والمبادئ فإنه يصنف اقتصادياً ضمن ما يسمى : الاقتصاد الكلي ، ولكنه في داخله أحكام وتفاصيل تدخل فنياً ضمن الاقتصاد الجزئي .

  وبذلك يختلف منهج الشيخ عن منهج الاقتصاديين الذين يحصرون كتاباتهم داخل دائرة واحدة ، أما الشيخ فهو فقيه موسوعي يريد ان يعرض الاسلام بشموليته دون الفصل بين المبادئ والتطبيقات ، والأخلاق والسلوكيات ، والكتاب يستفيد منه من يريد الكتابة عن النظام المالي في الاسلام ، إذ يتضمن معلومات قيمة عندما يتحدث عن التوزيع وغيره ، ويستفيد منه من أراد أن يكتب عن الاقتصاد الاجتماعي لأنه تحدث كثيراً عن هذا الجانب في كتابه عندما تحدث عن الضمان الاجتماعي ، وموارد تمويله .

  كما ان الكتاب يستفيد منه من أراد الكتابة عن التنمية الاقتصادية عندما يتحدث عن مجال الانتاج ، ويستفيد منه كذلك من اراد أن يكتب عن الرفاهية عندما تحدث الكتاب عن الخصائص ، والانتاج والتوزيع .

  لذلك نستطيع القول : بأن منهج الشيخ في كتابه هذا منهج فريد مبدع وشامل ، ولا غرو في ذلك ، فهو فقيه موسوعي يصول ويجول في دوائر متنوعة لخدمة شيء واحد ، وهو تقديم الاسلام بصورته الجميلة في مجال الاقتصاد بشموله وكماله .

ب ـ  التزام الشيخ بمنهجه الاكاديمي من حيث التوثيق ، والتخريج ، والحكم على الأحاديث من حيث الصحة والحسن والضعف ، وقد التزم الشيخ بأن لا يذكر إلاّ الأحاديث الثابتة .

المميزات والأفكار المهمة التي تناولها الكتاب :

يشتمل الكتاب على مجموعة من الأفكار والآراء المهمة في نطاق الاقتصاد نوجز أهمها فيما يلي :

1 ـ تأصيل الفكر الاقتصادي في المجالات الأربعة للنشاط الاقتصادي وذلك بالاعتماد على الأدلة النصية من الكتاب والسنة الصحيحة أو الحسنة ، ثم الاعتماد على بقية الأدلة المعتبرة من الاجماع والقياس ، والمصالح والمقاصد …

  فالشيخ لا يذكر الآراء دون تنقيتها ، وبيان ما فيها من قوة أو ضعف ، وإذا أيدها فإنه يؤيدها بمجموعة من الأدلة المعتبرة من الكتاب والسنة ، والاجماع ، أو القياس ، أو المقاصد .

  فالشيخ له القدح المعلّى في هذا المجال ، فما يذكر رأياً أو مبدءاً ، أو قيمة ، أو خلقاً إلاّ ويؤيده بالمؤيدات الشرعية من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة ، أو الحسنة ، حيث يقول : ( وهو بحث موثق بأدلته من القرآن والسنة … وقد التزمت في هذا الكتاب ألا أستدل إلاّ بحدث صحيح ، أو حسن ، إذ لا حجة في غيرهما )[4] .

وله في ذلك مقصدان أساسيان هما :

الأول ـ أن يثبت أن هذا العلاج هو من صيدلية الاسلام ، وليس من أفكار البشر ، وبالتالي يعود الفضل في ذلك إلى الاسلام ، ويثبت أن الاسلام عالج المشاكل الاقتصادية بمنهج فريد رباني أخلاقي .

الثاني ـ أن لا يقال : ان هذه الأفكار ظهرت بسبب التأثر بالأفكار الاقتصادية الحديثة ، أو كما يقول هو عن نفسه : ( حتى لا يتهمنا امرؤ متحيز ، أو جامد بأننا نقدم إسلاماً جديداً ليس هو الاسلام الذي عرفه الصحابة ، وفهمه أبو حنيفة ومالك …. )[5] .

2ـ الكتاب جديد في بابه ، فلم أر قبل الشيخ القرضاوي من أفرد هذه المجالات الأربعة للنشاط الاقتصادي ببيان قيم كل مجال وأخلاقياته ، ودور الدولة في الالزام بالقيم والأخلاق في الاقتصاد الاسلامي .

  فالكتاب فريد من نوعه يساعد الباحثين والكتاب الاقتصاديين في كل من يكتب في أي مجال من هذه المجالات الأربعة ، حيث يجد كماً وفيراً من التأصيلات ، والأدلة والبراهين والبينات ، اضافة إلى ما يتضمنه في داخل كل مجال من الأفكار النيرات في مجالات أخرى تتعلق بالاقتصاد الاسلامي .

3ـ فكرة ( تمام الكفاية ) :

  يكتفي معظم الاقتصاديين الاسلاميين بان يصل المجتمع إلى ( حد الكفاية ) بحيث يخلو المجتمع من الفقر ، ولا يوجد شخص إلاّ وله مستوى مناسب من المعيشة ، وهذا ما يسميه الفكر الاقتصادي الاسلامي المعاصر ( حد الكفاية ) .

  ولكن الشيخ القرضاوي لا يكتفي بحد الكفاية ، وإنما يشترط أن يصل الضمان الاجتماعي ، ويرتقي التكافل الاجتماعي لكل فرد إلى مستوى تمام الكفاية ، حيث يقول الشيخ : ( إن هذا التكافل لا يقصد به مجرد اسعاف سريع يقضي به الفقير بعض حاجاته المادية أو المعيشية ، ثم يظل محتاجاً إلى كثير من الأشياء الأخرى ، إنما المقصود به : كفالة مستوى للمعيشة لائق به ، يحقق المطالب أو الحاجات المادية والنفسية فلكل انسان أن يعيش في المجتمع الاسلامي ـ مسلماً أو غير مسلم ـ عن طريق اتاحة العمل للقادر عليه ، او تدريبه عليه ان كان يحتاج إلى تدريب ، أو سد حاجته ، ان كان من أهل العجز .

  وهذا المستوى اللائق له صفة الديمومة ، وهو لا يقتصر على أن يوفر للفرد في المجتمع المسلم ( حد الضرورة ) أو ( مستوى الضرورة ) الذي لا يعيش الانسان إلاّ به …. كما لا يقتصر هذا الضمان على توفير ( مستوى الكفاف ) أو ( حد الكفاف ) للفرد ، وهو يعني الحد الأدنى للمعيشة ….. .

  إنما يعمل الضمان الاجتماعي في الاسلام على توفير مستوى ( تمام الكفاية ) كما يعتبر الفقهاء في مبحث ( ما يعطاه الفقير والمسكين ، من الزكاة … ) وقد ذكر الفقهاء أن من تمام كفاية المرء كتب العلم ان كان من أهله ، وأثاث البيت المناسب ، والفرس الذي يركبه ، كما ذكروا أن الزواج يدخل في تمام الكفاية ، بل رأينا الفقهاء ـ كما هو مذهب الشافعي ـ من يرى وجوب اعطاء الفقير من الزكاة كفاية العمر الغالب لأمثاله ، بحيث يغنيه الزكاة غنى دائماً … بأن يعطى أدوات الحرفة ان كان محترفاً ، أو رأس مال التجارة ان كان تاجراً …. ، بهذا انتقله الزكاة من يد آخذة إلى يد معطية …. )[6] .

  وهذا المصطلح الفقهي القديم جدده الشيخ بضخ أفكاره الجديدة فيه وربطه بالواقع المعاصر ، وهو رأي له وجاهته ، وقوته ، وهو جدير بتبنيه بدل ( حد الكفاية ) .

   وأكتفي بهذا المقدار وإلاّ فالكتاب مليئ بالأفكار الجديدة الجيدة الممتازة ، فجزى الله مؤلفه خير الجزاء ..

اعلى الصفحة


([1])  دور القيم والأخلاق ص 317 – 414

([2]) مقدمة كتاب : دور القيم والأخلاق في الاقتصاد الاسلامي ، ص 15

([3]) المرجع السابق ص 14 -21

([4]) مقدمة الكتاب ص 9

([5])  مشكلة الفقر وكيف عالجها الاسلام ص 4

([6]) دور القيم والأخلاق في الاقتصاد الاسلامي ص 381-382 ويراجع : فقه الزكاة (2/603-619) ط21