استبدال عين الموقوف :


 



 ومما يرتبط بموضوع استثمار الوقف بيع الموقوف أو استبداله بعين أخرى ، لذلك نذكره بإيجاز :


 


 


 الاستبدال لغة طلب البدل ، والإبدال هو إحلال شيء محل آخر ، والتبديل هو التغيير ، وبادله أي أخذ بدله(1) وكلاهما يقصد به معنى واحد ، وهو تغيير العين الموقوفة بالبيع ثم شراء عين أخرى بثمنها ، او عن طريق المقايضة أي بيع العين الموقوفة بعين أخرى لتصبح وقفاً(2) ونبحث في هذا الموضوع موضوع بيع الموقوف ، والاستفادة من ثمنه في تعميره وأن يستفيد منه الموقوف عليه مباشرة ، وأوسع المذاهب في هذا المجال هم الحنفية ، حيث قسموا الاستبدال على ثلاثة أوجه :


 


الأول : أن يشترطه الواقف لنفسه فقط أو لغيره فقط ، أو لهما معاً ، فحينئذٍ يكون الاستبدال جائزاً لمن شرط له على الصحيح ، وقد ذكر الحافظ ابن حجر أن بعض علماء السلف منهم الإمام علي رضي الله عنه يجيزون ذلك ، ويستدلون في ذلك بأن حسان بن ثابت رضي الله عنه قد باع حصته من وقف أبي طلحة لمعاوية(3) وأوّلوا ذلك بأن أبا طلحة شرط للموقوف عليهم أن من احتاج إلى بيع حصته منهم جاز له بيعها(4)  .


 الثاني : أن لا يشترطه وإنما يسكت عنه .


 والثالث : أن يشترط عدم الاستبدال(5) ففي هذين الوجهين يأتي التفصيل والخلاف ، ولكنه من المتفق عليه أن الأصل العام والقاعدة الكلية في الشريعة هو عدم الاستبدال إلاّ لمسوغ مشروع ، ولذلك اختلف الفقهاء في جواز استبدال عين الوقف ـ من غير المسجد ـ أو بيعها في حالات نذكر هنا أهمها :           


1. حالة الهدم والخراب بحيث تتعذر عمارة الوقف : قال المرغيناني : ( وما انهدم من بناء الوقف وآلته صرفه الحاكم في عمارة الوقف إن احتاج إليه ، وإن استغنى عنه أمسكه حتى يحتاج إلى عمارته يصرفه فيهما ، لأنه لا بدّ من العمارة ليبقى على التأبيد فيحصل مقصود الواقف … وإن تعذر إعادة عينه إلى موضعه بيع وصرف ثمنه إلى المرّمة صرفاً للبدل إلى مصرف المبدل ) بل ادعى ابن الهمام أن خروج الوقف عن الانتفاع به ينبغي أن لا يختلف فيه(6) , أي في المذهب الحنفي ،


 أما إذا انهدمت الدار ـ مثلاً ـ ولم يكن إعادتها فتباع ويشترى بثمنها مثلها ، أو قسط منه ما عدا المسجد(7) ، وذهب أحمد إلى أن الدار الموقوفة إذا خربت يباع نقضها ويصرف ثمنها إلى وقف آخر(8) .


2. حالة عدم الانتفاع والاستغناء : قال ابن الهمام : ( ومن زيادات أبي بكر بن حامد : أجمع العلماء على جواز بيع بناء الوقف وحصيره إذا استغنوا عنه ) وقال أيضاً : (وينبغي للحاكم إّذا رفعه إليه ولا منفعة في الوقف أن يأذن في بيعها إذا رآه أنظر لأهل الوقف )(9) وهذا رأي جمهور الفقهاء حيث قالوا : ويباع كلّ ما لا ينتفع به فيما حبس فيه من غير المسجد على تفصيل فيه  ومن غير العقار عند مالك حيث لا يباع وإن خرب(10) .      


3. حالة الهجر : وذلك بأن يترك أهل القرية ، أو المنطقة وقفهم فيهجر ، فعند الحنفية ـ في غير المسجد ـ يعود إلى الواقف ، وعند الجمهور يظلّ وقفاً ، وعند أحمد يباع أو يباع نقضه ويصرف إلى مسجد آخر ، إن كان مسجداً أو إلى جهة مماثلة(11) 


 4. حالة رجاء منفعة أكبر : ذهب جماعة من الفقهاء إلى أنه يجوز بيع الوقف إذا رأى الموقوف عليه ، أو الناظر للوقف أن غيره أكثر نفعاً وريعاً ، فقد جاء في فتح القدير (وروي عن محمد : إذا ضعفت الأرض عن الاستغلال ويجد القيم بثمنها أخرى أكثر ريعاً كان له أن يبيعها ويشتري بثمنها ما هو أكثر ريعاً )(12) ، ولكن بعض علماء الحنفية رجحوا عدم الجواز ، لأن الواجب إبقاء الوقف على ما كان عليه دون زيادة أخرى ، لأنه لا موجب لتجويزه إذا لم يكن هناك شرط ، أو ضرورة ، ولا ضرورة في هذا ، إذ لا تجب الزيادة فيه بل تبقيه كما كان(13) .


  وهذا هو رأي جمهور الفقهاء من المالكية(14) ، والشافعية(15) ، والحنابلة(16) ، وذلك لأن الأصل هو تحريم بيع الموقوف ، وإنما أبيح لضرورة أو حاجة تنـزل منـزلة الضرورة ، صيانة لمقصود الوقف عن الضياع مع تحقق الانتفاع وإن قلّ ، وبذلك يجمع بين الخيرين وهو أولى من التضحية بأحدهما لحساب الآخر ، لكن قال الحنابلة : إذا بلغ الوقف في قلة النفع إلى حدّ لا يعدّ نفعاً فيكون وجود ذلك كالعدم فيجوز بيعه وشراء مثيل له يكون أكثر نفعاً(17) وهذا الرأي له وجاهته ووفاقه مع مقاصد الوقف في الشرع .


5. حالة الإتلاف : لو أتلف الموقوف عليه وعوض فيشتري ببدله مثله ويقوم مقامه(18) ، وذهب المالكية إلى أن مَنْ هدم وقفاً تعدياً فعليه إعادته إلى ما كان عليه ولا تؤخذ قيمته حتى ولو كان المهدوم بالياً ، لأن الهادم ظالم بتعديه والظالم أحق بالحمل عليه ، أما إذا كان خطأ فعليه قيمته هذا ما رآه الخليل وغيره ، في حين ذهب الدردير وآخرون إلى أن عليه القيمة مطلقاً كسائر المتلفات ، وحينئذٍ تجعل تلك القيمة في عقار مثله يجعل وقفاً عوضاً عن المهدوم ،وتكون القيمة معتبرة باعتبار البناء قائماً لا مهدوماً(19) . 


6. حالة حاجة الوقف إلى التعمير أو الإنفاق وليس له مورد : إذا احتاج الوقف إلى التعمير وليس له مورد لذلك فإن جمهور الفقهاء ذهبوا إلى جواز بيع جزء من الوقف ليعمّر به بقية الوقف لأنه بدون ذلك يتعطل الوقف كله ، وما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب ، وأما الوقف العام(20) إن كان حيواناً ـ مثل الفرس للجهاد ـ يحتاج إلى نفقة فإن هذه النفقة إن لم يرتبها الواقف فعلى بيت المال ، فإن عدم ، أو لم يمكن الوصول إليه بيع وعوض ببدله سلاح ونحوه مما لا يحتاج إلى نفقة لأنه أقرب لغرض الواقف ، كما يباع عندما يصاب الفرس بداء الكلب(21) .


7. الخوف من الغلية عليه : ذهب جماعة من الفقهاء منهم طائفة من مشايخ الحنفية إلى أنه ( إذا خاف المتولي على الوقف من وارث ، أو سلطان يغلب عليه قال في النوازل يبيعها ويتصدق بثمنها قال : وكذا كلّ قيّم خاف شيئاّ من ذلك ) لكنه قال ابن الهمام : (فالفتوى على خلافه ، لأن الوقف بعدما صحّ بشرائطه لا يحتمل البيع ، وهذا هو الصحيح)(22) والراجح أن على الناظر البحث عن أي وسيلة تحمي الوقف حتى ولو كانت عن طريق البيع الصوري .


  وجاء في المعيار : (وسئل عن امرأة حبست نصف دار لها ونصف كرمها على مسجد معين ، وتركت ابني عم لها أخذ أحدهما نصف الدار في إرثه ، وأخذ آخر نصف الكرم ، والذي أخذ نصف الدار يسكن النصف المحبس بالكراء حتى طال الأمد ، وأراد قسمة الدار وإبراز حظه ، فشهد فيه أنه لا يتأتى قسم الدار ، إذ لا يتأتى لأحد القسمين مدخل ولا يجد من يشتريه منه من قبل الحبس ، فأراد بيع الدار كلها واقتسام الثمن ، ويشتري بما يخص الحبس داراً أو غيرها مما لا شركة فيه ، فهل يجوز هذا أو لا يجوز ؟ فإن قلتم بجواز البيع ، فهل يجوز أن يعطي فيها ملكاً من أملاكه بقيمته بعد التقويم والسداد ؟ . وأما ابن العم الآخر الذي أخذ نصف الكرم فإنه قسم الكرم مع الحبس وامتاز بنصفه ، ثم أراد الآن أن يعوض من الحبس بملك من أملاكه بعد  القسمة ، وليس للحبس في هذا فائدة إلاّ توفير منابه ، وذهاب الخوف من ضياعه وهلاكه بطول السنين ، فهل تجوز المعاوضة لهذه المصلحة أو لا  تجوز ؟ لأنه يمكن أن يصلح من فائده .


 فأجاب : تأملت المكتوب هذا بطرته ، فأما الكرم فقد خرج بسبيله فحكمه حكم سائر الأحباس لامتيازه وعدم الشركة فيه ، وأما  الدار فأعدل الأقاويل الثلاثة قول ابن حبيب وابن الماجشون : إنه يجوز بيعه ويشتري بثمنه ما يجعل حبساً مثله ، فإن حكم بها قاض ثبت ولم يسع أحداً بعده أن ينقضه)(23)


 8. بيع أشجار الوقف حفاظاً على زيادة الثمرة : جاء في الفتاوى الهندية : ( أما بيع أشجار الوقف فينظر إن كانت لا تنتقص ثمرة الكرم بظلها لا يجوز بيعها ، وإن كانت تنتقص ثمرة الكرم بظلها ينظر إن كانت ثمرة الشجر تـزيد على ثمرة الكرم ليس له أن يبيعها ويقطعها ، وإن كانت تنتقص عن ثمرة الكرم فله أن يبيعها ، وإن كانت أشجاراً غير مثمرة وتنتقص ثمرة الكرم بظلها فله أن يبيعها ويقطعها ، وإن كانت أشجار الدلب والحلان ونحوه مما إذا قطع ينبت ثانياً وثالثاً جاز قطعها وبيعها )(24) ، وهذا يدل على أن العبرة بما هو الأصلح للوقف .


 9. حالة الاشتراط : وذلك بأن يشترط الواقف عند الوقف أن يكون له أو للقيّم حق الاستبدال بوقف آخر إذا شاء ذلك وكذلك لو اشترط أن يبيعها ويشتري بثمنها أرضاً أخرى ، وهذا مذهب أبي يوسف وهلال والخصاف من الحنفية حيث يصح الوقف والشرط معاً وهو المروي عن علي رضي الله عنه(25) وبه فسر بيع حسان حصته من وقف أبي طلحة رضي الله عنهما ـ كما سبق ـ ، وذهب محمد إلى أن الوقف صحيح والشرط باطل ، قال ابن الهمام : ( وليس له بعد استبداله مرة أن يستبدل ثانياً لانتهاء الشرط بمرة إلاّ أن يذكر عبارة تفيد له ذلك دائماً ، وكذا ليس للقيّم الاستبدال إلاّ أن ينص له بذلك … وفي فتاوى قاضيخان : ( قول هلال ، وأبي يوسف هو الصحيح ، لأن هذا شرط لا يبطل الوقف ، لأن الوقف الانتقال من أرض إلى أرض … وإذا كان حاصله إثبات وقف آخر لم يكن شرطاً فاسداً هو اشتراط عدم حكمه وهو التأبيد بل هو تأبيد معنى )(26) ، بل إن قاضيخان ذكر الإجماع على ذلك فقال : ( وأجمعوا على أن الوقف إذا شرط الاستبدال لنفسه يصح الشرط والوقف ويملك الاستبدال ، أما بلا شرط أشار في السير إلى أنه لا يملكه إلاّ بإذن القاضي )(27) .


 وبمثل قول محمد قال جماعة من الفقهاء منهم الظاهرية ، لأنه شرط ليس في كتاب الله فيكون باطلاً في نظرهم(28) ، وبمثل قول أبي يوسف قال المالكية حيث أجازوا اشتراط بيع الوقف إن احتاج إليه الواقف ويعمل بشرطه(29) .


 


 


 اعلى الصفحة


اسـتبدال المسـجد :

 



 يختص المسجد بعدة أحكام لا تتوافر في غيره ، فمثلاً عند أبي حنيفة لا يلزم الوقف في غير المسجد إلاّ بحكم الحاكم ، أو الايصاء به ، أما المسجد فيلزم بمجرد وقفه حيث لا يبقى له حق الرجوع عنه ، لذلك شدد الفقهاء في استبداله ، ونذكر هنا بعض نصوصهم ، قال المرغيناني الحنفي : ( ولو خرب ما حول المسجد واستغنى عنه يبقى مسجداً عند أبي يوسف .. وعند محمد يعود إلى ملك الباني ، أو إلى وراثه بعد موته ، لأنه عينه لقربة وقد انقطعت فصار كحصير المسجد وحشيشه إذا استغنى عنه ، إلاّ أبا يوسف يقول في الحصير والحشيش أنه ينقل إلى مسجد آخر )(30) .


 


 


 وقد اتفق المالكية والشافعية مع رأي أبي يوسف في أن المسجد يظلّ مسجداً(31) فلا يجوز بيعه لظاهر النصوص الدالة على عدم جواز بيع الموقوف مثل قول عمر: ( فلا يباع أصلها ولا يوهب)(32) لأن ما لا يجوز بيعه مع بقاء منافعه لا يجوز بيعه مع تعطلها ، ولكن يجوز نقل آلته وأنقاضه إلى مسجد آخر .


 


 وأما الحنابلة فيرون عدم التفرقة بين المسجد وغيره حيث يباع ويشترى بثمنه مكانٌ آخر ليكون مسجداً بدله ، ولأهمية رأيهم ووجود تفاصيل فيه أنقل ما جاء في المغني : ( ان الوقف إذا خرب وتعطلت منافعه كدار انهدمت ، أو أرض خربت وعادت مواتاً ولم تمكن عمارتها ، أو مسجد انتقل أهل القرية عنه وصار في موضع لا يصلى فيه ، أو ضاق بأهله ولم يمكن توسيعه في موضعه ، أو تشعب جميعه فلم يمكن عمارته ، ولا عمارة بعضه إلاّ ببيع بعضه ، جاز بيع بعضه لتعمّر به بقيته، وغن لم يمكن الانتفاع بشيء منه بيع جميعه ) ، وأضاف الحنابلة إلى ما سبق حالة الخوف من اللصوص في رواية صالح عن أحمد ، وكذلك إذا كان موضعه قذراً يمنع من الصلاة فيه(33) .


 


وقد حقق شيخ الإسلام ابن تيمية مذهب أحمد في هذه المسألة(34) تحقيقاً طيباً نذكره لأهميته بإيجاز مع التعليق عليه إن احتاج إلى ذلك حيث ذكر أن مذهب أحمد في غير المسجد أنه يجوز بيعه للحاجة ، وأما المسجد فيجوز بيعه أيضاً للحاجة في أشهر الروايتين عنه ، وفي الأخرى : لا تباع عرصته ، بل تنقل آلتها إلى موضع آخر .


 


فالمسجد الموجود ببلدة أو محلة إذا تعذر انتفاع أهلها بيع وبني بثمنه مسجد آخر في موضع آخر كما في زيت المسجد وحصره إذا استغنى عنها المسجد صُرِف إلى مسجد آخر ، بل يجوز عند أحمد صرفها في فقراء الجيران ، واحتج على ذلك بأن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ كان يقسم كسوة الكعبة بين المسلمين ، لأن المسلمين هم المستحقون لمنفعة المساجد ، واحتج أيضاً لصرفها في نظير ذلك : بأن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ جمع مالاً لمكاتب ، ففضلت فضلة عن قدر كتابته فصرفها في مكاتب آخر ، بأن المعطين أعطوا المال للكتابة ، فلما استغنى المعين صرفها في النظير .


 


والمقصود أن أحمد بن حنبل ـ رحمه الله ـ اختلف قوله في بيع المسجد عند عدم بيع الانتفاع به ، ولم يختلف قوله في بيع غيره عند الحاجة ، قال في رواية ابنه عبدالله : إذا خرب المسجد يباع ، وينفق ثمنه على مسجد آخر ، وإذا كان الوقف داراً فخربت وبطل الانتفاع بها بيعت وصرف ثمنها إلى شراء دار ويجعل مكانها وقفاً(35) .


 


وأما إبدال المسجد بغيره للمصلحة مع إمكان الانتفاع بالأول ففيه قولان في مذهب أحمد ، واختلف أصحابه في ذلك ، لكن الجواز أظهر في نصوصه ، وأدلته ، منها ما ورد أنه لما قدم عبدالله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ على بيت المال كان سعد بن مالك قد بنى القصر ، واتخذ مسجداً عند أصحاب التمر ، قال فنقب بيت المال ، فأخذ الذي نقبه ، فكتب إلى عمر بذلك ، فكتب عمر : ( أن لا تقطع الرجل ، وانقل المسجد ، واجعل بيت المال قبلته ، فإنه لن يـزال في المسجد مصلي ، فنقله عبدالله فخطّ له هذه الخطة ) قال صالح : قال أبي : يقال إن بيت المال نقب من مسجد الكوفة فحول عبدالله بن مسعود المسجد ، فوضع التمَّارين اليوم في موضع المسجد العتيق ، وصار سوق التمَّارين في موضعه(36) .


 


قال صالح وسألت أبي عن رجل بنى مسجداً ، ثم أراد تحويله إلى موضع آخر ، قال إن كان الذي بنى مسجداً يريد أن يحوله خوفاً من اللصوص ، أو يكون في موضع قذر فلا بأس أن يحوله ، وسئل أبو عبدالله : هل يحول المسجد ؟ قال إذا كان ضيقاً لا يسع أهله فلا بأس أن يجعل إلى موضع أوسع منه .


 


 وقال عبدالله سألت أبي عن مسجد خرب : ترى أن تباع أرضه ، وينفق على مسجد آخر أحدثوه ؟ ، قال : ( إذا لم يكن له جيران ولم يكن أحد يعمره فلا أرى به بأساً أن يباع وينفق على الآخر.


 


 وقال القاضي أبو يعلى : وقال في رواية أبي داود في مسجد أراد أهله أن يرفعوه من الأرض ، ويجعل تحته سقاية وحوانيت ، وامتنع بعضهم عن ذلك ؟ قال : ينظر إلى قول أكثرهم ، ولا بأس به ، قال أبو يعلى : فظاهر هذا أنه أجاز أن يحمل هذا على أن الحاجة دعت إلى ذلك لمصلحة تعود إلى المسجد(37) . 


 


 ثم ذكر أن بعض أصحاب المذهب حاول التكلف في حمل رواية أحمد هذه حالة الابتداء قبل بناء المسجد ، فقال : ( وهذا تكلف ظاهر لمخالفة نصّه ، فإنه نصّ صريح في المسجد المبني ، وليس في ابتداء بناء المسجد ، لأن الأخير لا نـزاع فيه )(38) .


 


 ثم ردّ ابن تيمية على من قال بعدم جواز النقل والإبدال إلاّ عند تعذر الانتفاع بأنه ليس لهم على ذلك حجة شرعية ، ولا مذهبية ، بل دلت الأدلة الشرعية وأقوال صاحب المذهب على خلاف ذلك ، وقد قال أحمد : ( إذا كان المسجد يضيق بأهله فلا بأس أن يحول إلى موضع أوسع منه ، وضيقه بأهله لم يعطل نفعه ، بل نفعه باق كما كان ، ولكن الناس زادوا ، وقد أمكن أن يبنى لهم مسجد آخر ، وليس من شرط المسجد أن يسع جميع الناس ، ومع هذا جوز تحويله إلى موضع آخر ، لأن اجتماع الناس في مسجد واحد أفضل من تفريقهم في مسجدين ، لأن الجمع كلما كان أكثر كان أفضل ، لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده ، وصلاته مع رجلين أزكى من صلاته مع الرجل ، وما كان أكثر فهو أحبّ إلى الله تعالى )(39) .


 


 وقد أمر عمر ـ رضي الله عنه ـ بنقل مسجد الكوفة إلى مكان آخر ، وصار الأول سوق التمارين للمصلحة الراجحة ، لا لأجل تعطل منفعة تلك المساجد ، فإنه لم يتعطل نفعها ، بل مازال باقياً ، وقد فعل عمر ذلك بمشهد الصحابة ولم يرد إلينا أنه اعترض عليه أحد ، بل نفذه الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ فكان ذلك إجماعاً ، لأن الصـــحابة ـ رضي الله عنهم ـ ما كانوا يسكتون لو كان ذلك غير جائز ، والتأريخ شاهد على اعتراضاتهم على كلّ ما كان منكراً حتى ولو في نظر بعضهم ، فقد اعترضت المرأة على عمر حينما أراد تحديد المهر ، واعترضوا على عثمان لأنه كان يتم الصلاة في الحج .


 


 واحتج ابن تيمية أيضاً بما روى أبو حفص في المناسك عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنه قيل لها : يا أم المؤمنين ! إن كسوة الكعبة قد يداول عليها ؟ فقالت : تباع ، ويجعل ثمنها في سبيل الخير ، فأمرت عائشة ببيع كسوة الكعبة مع أنها وقف ، وصرف ثمنها في سبيل الخير ، لأن ذلك أصلح للمسلمين(40) . 


 


 وقد انتهى شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن بيع الوقف والتعويض بثمنه يجوز إذا كان ذلك أصلح وأنفع دون الحاجة إلى تقيد الجواز بالضرورة ، أو تعطل الانتفاع بالكلية ، فالمسوغ للبيع والتعويض هو نقص المنفعة وذلك يتحقق بكون العوض أصلح وأنفع ، أو للحاجة التي يقصد بها هنا تكميل الانتفاع ، فإن المنفعة الناقصة يحصل معها عوز يدعوها إلى كمالها فهذه هي الحاجة من مثل هذا مثلما أجيز لبس الحرير المحرم على الرجال لأجل الحكة(41)  ( الحساسية ) .


 


 وقد استدل كذلك بما فعله عمر وعثمان من تغيير بناء مسجد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ووجه الاستدلال بذلك أن اللبن والجذوع التي كانت وقفاً أبدلها الخلفاء الراشدون بغيرها ، وهذا من أعظم ما يشتهر من القضايا ولم ينكره منكر ، ولا فرق بين إبدال البناء ببناء ، وإبدال العرصة بعرصة ، إذا اقتضت المصلحة ذلك ، لهذا أبدل عمر مسجد الكوفة بمسجد آخر ، أبدل نفس العرصة ، وصارت العرصة الأولى سوقاً للتمّارين بعد أن كانت مسجداً ، وهذا أبلغ ما يكون في إبدال الوقف للمصلحة(42) .


 


 ويدل على ذلك أيضاً ما ثبت أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ جوَّز إبدال المنذور بخير منه فقد روى أحمد وأبو داود والدارمي ، وابن الجارود ، وأبو يعلى ، والبيهقي بسند صحيح عن جابر بن عبدالله ـ رضي الله عنه ـ : ( أن رجلاً قام يوم الفتح ، فقال : يا رسول الله إني نذرت لله إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس ركعتين ، قال : صلّ ههنا ، ثم أعاد عليه ، فقال : صلّ ههنا ، ثم أعاد عليه ، فقال : شأنك إذن )(43) .


 


 وهناك أحاديث وآثار أخرى تدل على ذلك منها ما رواه مسلم في صحيحه بسنده عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : ( أن امرأة شكت شكوى ، فقالت : لو شفاني الله فلأخرجنَّ فلأصلينَّ في بيت المقدس ، فبرأت ، ثم تجهزت تريد الخروج فجاءت ميمونة تسلم عليها ، وأخبرتها بذلك ، فقالت : اجلسي ، فكلي ما صنعت ، وصلِّي في مسجد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإني سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : ( صلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلاّ مسجد الكعبة )(44)  .   


LinkedInPin