استثمار غلة الوقف وريعه (موارد الوقف) :


 


 وكما سبق فإن الموقوف إذا كان أرضاً زراعية فيكون لها غلة ، وإن كانت أشجاراً فلها ثمار ، وإن كانت نقوداً للتجارة فيكون لها أرباح ، وإن كان مباني وعمارات ومصانع فيكون لها أجرة ، وهذه الأمور تجمعها موارد الوقف أو ما يسمى بالإيرادات ، ولذلك نعرّف بهذه الكلمات الشائعة في هذا المجال ، وهي : الربح ، والنماء ، والغلة ، والريع ، والفائدة ، والأجرة .


 


1. الربح : لغة : النماء في التجارة(1) ، وفي الاصطلاح الاقتصادي : لا يخرج معناه عما ذكر ، فهو الزيادة الحاصلة في التجارة نتيجة تقليب المال في عمليات التبادل المختلفة(2) .


 


 والربح في علم الاقتصاد يقسم إلى : ربح إجمالي يراد به كل المكاسب التي يحصل عليها الشخص ، وربح صاف يقصد به ما يتحقق له زائداً على رأس المال بعد حسم جميع المصاريف والمطلوبات(4) .   


 


2. الريع : لغة : مصدر راع بمعنى النماء والزيادة(4) ، والريع : فضل كل شيء ، وجاء في المعجم الوسيط : (وفي الاقتصاد …. هو الجزء الذي يؤديه المستأجر إلى المالك من  غلة الأرض مقابل استغلال قواها الطبيعية التي لا تقبل الهلاك ، وريع الخصب : الناتج من ميزة أرض على أخرى من جهة الخصب ، وريع الموقع : الناشئ من صقع الأرض)(5) .


 


 وعرفه الباحث الاقتصادي الانجليزي ريكاردو  بأنه : فائض فوق النفقات لا علاقة له بتحديد الثمن ، فهو نتيجة للثمن لا سبب له(6) .


 


3. الغَلة (بفتح الغين) : لغة : هي الدخل ، والزيادة في كراء الدار ، أور يع أرض ، وجمعها غَلات بفتح الغين ، وغِلال بالكسر(7) .


 


 وفي الاصطلاح المحاسبي : هي الزيادة في ثمن عروض التجارة قبل بيعها كارتفاع قيمة المخزون للمواد المصنعة ، أو نصف المصنعة ، وهي تختلف عن الأرباح ، في ان الأرباح فرق بين الإيراد الكلي والنفقة الكلية(8) ، أما الفائدة فهي صافي الزيادة على رأس المال وجمهور الفقهاء يطلقون الغلة على مطلق الدخل الذي يحصل من ريع الأرض ، أو أجرتها ، أو أجرة الدار ، أو السيارة أو أية عين استعمالية ينتفع بها مع بقاء عينها(9)


 


 والمالكية يطلقون الغلة على ما يتجدد من السلع التجارية قبل بيع رقابها كثمر النخل المشترى للتجارة ، والصوف واللبن المتجدد للأنعام المشتراة للتجارة قبل بيع رقابها ، وأجرة الدار وسائر عروض التجارة ، وكذلك زيادة المبيع في ذاته إذا اشتراه للتجارة بعشرين ، ثم كبر ونما فباعه بعد ذلك بخمسين ، فهذه الزيادة في جميع ما ذكرنا تسمى غلة ، بخلاف الزيادة فيما اشتراه للقنية فإنها تسمى (فائدة)(10)  


 


 والحنفية يطلقون الغلة على الدراهم التي تروج في السوق في الحوائج الغالية ويقبلها التجار غير أن بيت المال يردها لعيب فيها(11) .


 


4. النماء : لغة : الزيادة ، ويطلق على نماء النبات والأشجار ، والحيوان والإنسان ، وأن النماء في النقود والذهب والفضة ونحوهما مجاز ، وفي الماشية حقيقة لأنها تزيد بتوالدها ، ولذلك يقسم الفقهاء النماء إلى نماء حكمي كما في النقود ،ونماء حقيقي كما في الماشية(12) .   


 


 والفقهاء يطلقون النماء على لبن الماشية وولدها ، في مقابل الكسب الذي هو ما حصل بسبب العين وليس بعضاً منها ككسب العبد ، ويقسم المالكية النماء إلى ثلاثة أقسام : ربح ، وغلة ، وفائدة ، فالنماء أعم منها مطلقاً(13) .


 


5. الفائدة : لغة : هي ما يستفاد من علم ، أو عمل ، أو مال أو غيره(14) وفي الاصطلاح الفقهي يراد بها : الأعم وهو مطلق الزيادة التي تحصل للإنسان من شيء له ، واستعملها المالكية بمعناها الأخص في العروض لتدل على كل نماء أو زيادة في غير عروض التجارة ، مثل ما يستفيده الإنسان عن طريق الميراث او العطية ، وما زاد عن ثمن عروض  القنية (أي للاقتناء وليست للتجارة) وما تولد عن المواشي والأشجار من صوف ولبن أو ثمر ما دامت أصولها مشتراة للاقتناء لا للتجارة(15) .


 


 والفائدة في العرف الاقتصادي يراد بها الزيادة التي تؤخذ على الديون والقروض باتـفاق الطرفين . 


 


6. الأجرة : لغة من أجر ـ بفتح الجيم ـ الشيء : أكراه ، وأجَر فلاناً على كذا : أعطاه أجراً وفي التنزيل العزيز (على أن تأجرني ثماني حجج)(16) أي تكون أجيراً لي ، وأجر   ـ بكسر الجيم ـ فلان أجراً أي نال الثواب ، والإجارة عقد يرد على المنافع  بعوض ، والأجرة عوض العمل والانتفاع(17)  .


 


 فالأجرة هي الدخل الذي يتحقق للإنسان من خلال عمله لآخر بعوض (إجارة الأشخاص) ، أو تمكينه من منفعة شيء بعوض معلوم (إجارة الأعيان) ، فهي بذلك تختلف عن المصطلحات السابقة .


 


 والمالكية أطلقوا على العوض المأخوذ في إجارة الآدمي ، وما ينقل من غير السفن والحيوان أجراً ، وعلى البدل المأخوذ في إجارة غير الآدمي ، والسفن والحيوان ، وما لا ينقل كالدور والأراضي كراء ، وذهب بعضهم إلى إطلاق الأجر على بدل منافع من يعقل ، والكراء على بدل منافع ما لا يعقل(18) .   


 


المراد بالمصطلح في البحث : هو ما يمكن استثماره من موارد الوقف من الأجرة والغلة والريع ، والنماء والربح ، فكل ذلك تطلق عليه : موارد الوقف ولذلك حينما نستعملها في البحث نقصد بها : كل ما يتحقق للوقف من زيادة او نماء أو أجرة أو غير ذلك ، فهل يجوز استثمارها ، وكيف تستثمر ؟ وما هي النسبة المتاحة للاستثمار ، إلى غير ذلك من الأسئلة التي ترد في هذا المضمار؟ وما علاقة كل ذلك بشروط الواقف ؟.


 


 


ولذلك سنقسم الموضوع باعتبار أصله الموقوف أولاً إلى قسمين :


 




  1. قسم لا يتم الوقف إلاّ باستثماره مثل وقف النقود للاستثمار ، وكذلك وقف الأسهم وصكوك الاستثمار المشروعة ونحوهما ، للتجارة ، وكذلك الأسهم الوقفية الجديدة التي تجمع من خلالها النقود لاستثمارها لصالح جهة معنية فهذا النوع يكون الاستثمار من لوازمه ومقتضياته ، فيكون على الناظر ، أو إدارة الوقف استثماره بالطرق والضوابط التي نذكرها في المبحث الخامس .


     فهذا النوع لا شك أن الاستثمار من لوازمه ولكن حديثنا هو حول مدى جواز استثمار الربح الناتج من تقليب المال ، أو استثمار جزء منه ؟


     



  2. قسم آخر من الوقف ليس مثل القسم الأول، وهذا يشمل ما لا دخل له ولا غلة ولا ريع مثل المساجد والمقابر ونحوهما بل لا يجوز استثماره ـ كما سبق ـ .


 كما يشمل ماله دخل وريع أو بعبارة جامعة له موارد ، وهذا يختلف حكم استثمار موارده بحسب وجود شرط الواقف باستثمار جزء منها ، أو بعدم استثمارها مطلقاً ، وبحسب عدم وجود أي شرط حول استثمارها .


 


 


تقسيم ثان بحسب شروط الواقف إلى نوعين :


 


النوع الأول : وجود شرط من الواقف باستثمار جزء من موارد الموقوف لاستثماره وتنميته ، أو بعدم استثماره أي صرف كله على الموقوف عليه .


 


 وفي هذه الحالة وما دام الشرط صحيحاً فإن على الناظر (إدارة الوقف) القيام باستثمار ذلك الجزء المخصص حسب الضوابط الفقهية لاستثمار الوقف ، ولذلك نحتاج هنا إلى بحث ثلاث مسائل وهي : موضوع صحة هذا الشرط ، ومدى وجوب الالتزام بشروط الواقف ، ومدى جواز مخالفة شروط الواقف .


 


 


المسألة الأولى : صحة هذا الشرط :


 


 هذا الشرط وأمثاله تدخل ضمن الشروط التي لم يرد نص من الشارع بجوازها حتى يكون محل الاجماع ، ولا من الشروط التي تتعارض مع نصص شرعي بحرمته حتى يكون منعها محل الاجماع أيضاً(19) ، ولا تتنافى مع مقتضى عقد الوقف وآثاره الأصلية ، حيث إن مقتضى عقد الوقف تأبيد الموقوف وبقاؤه واستمراره ، وهذا لا يتعارض مع استثمار الموقوف ، بل إن استثماره (بما يشمل الإجارة والمساقاة…) يحقق ذلك الهدف المنشود ، حيث يبقى الأصل ويستفاد من الريع والثمرة ، قال الرسول صلى الله عليه وسلم : (حبس الأصل وسبل الثمرة) كما سبق .


 


 وقد اختلف الفقهاء في مثل هذا الشرط المذكور بناءً على أصل عظيم من أصول الفقه الإسلامي ، وهو هل الأصل في الشروط (أي التي لم يرد نص بحرمتها ولا إباحتها) الحظر أو الإباحة ؟ .


 


 للجواب عن ذلك نقول : إن العلامة ابن تيمية وتلميذه ابن القيم قد صرحا بأن الأصل في الشروط والعقود الإباحة غير أن ابن تيمية قد أسند إلى كثير من أصول أبي حنيفة والشافعي وأصحاب مالك وأحمد القول بالحظر(20) وتبعه في ذلك معظم المعاصرين(21) .


 


 ولكنني من خلال متابعتي لنصوص الفقهاء في كتبهم ومراجعهم القديمة الأصيلة توصلت في رسالتي الدكتوراه إلى أن جمهور الفقهاء ـ ما عدا الظاهرية ـ يقولون بأن الأصل في العقود والشروط الإباحة من حيث المبدأ(22)  .


 


 وعلى ضوء ذلك تصبح كل الشروط التي يشترطها الواقف مقبولة وصحيحة ما دامت لا تخالف نصاً شرعياً ولا مقتضى عقد الوقف وآثاره الأصلية .


 


 


المسألة الثانية : مدى وجوب الالتزام بشروط الواقف :


 


 بالنظر فيما قاله الفقهاء في باب الوقف نرى أنهم متفقون على أن شروط الواقف التي لا تتعارض مع النص ومقتضى عقد الوقف