المبادئ العامة للوقف بصورة عامة ولاستثماره بصورة خاصة :


 


هناك مجموعة من المبادئ الأساسية للوقف ولاستثماره ، نذكر أهمها :


 


أولاً : قلة النصوص المبينة لأحكام الوقف :


 


 بما أن الوقف لم ترد فيه نصوص تفصيلية لأحكامه في القرآن الكريم ، فلم نجد نصاً صريحاً خاصاً بالوقف ، وإنما النصوص القرآنية تتحدث عن الصدقات وفضلها ، وأهمية اختيار أفضل الأموال للصدقات ونحو ذلك ، وأكثر العلماء ذكروا للوقف من القرآن الكريم آية ، وهي أيضاً ليست نصاً فيه ، وهي قوله تعالى : (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون)[1] جاء في أحكام القرآن : (في تفسير هذه النفقة : قال ابن عمر : وهي صدقة الفرض والتطوع ، وقيل : هي سبل الخير كلها وهو الصحيح لعموم الآية ، وقال الشوكاني : (والمراد : النفقة في سبيل الخير من صدقة ، أو غيرها من الطاعات ، وقيل : المراد الزكاة المفروضة)[2] . وقد روى الأئمة كلهم أن أبا طلحة قال : يا رسول الله ، إني أسمع الله تعالى يقول : (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) وإن أحبّ أموالي إليّ بيرحاء ، وإنها صدقة لله أرجو برّها وذخرها عند الله ، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بخ ، بخ  ، ذلك مال رابح…وإني أرى أن تجعلها في الأقربين…)[3] .


 


  وقد ذكر البخاري حديث أبي طلحة في كتاب التفسير عند تفسيره للآية السابقة[4] ، كما ترجم باب الوقف ، وذكر حديث أبي طلحة[5] .


 


 وقصدي من هذا العرض انه لا توجد نصوص قرآنية خاصة بالوقف وأحكامه ، وأن الآية السابقة فسرها العلماء بعدة تفسيرات منها الوقف لحديث أبي طلحة .


 


 وأما السنة المشرفة فقد تطرقت إلى الوقف وفضائله ولكن دون الخوض في تفاصيل أحكامه سوى بعض الأحكام من أهمها :


 




  1. أن الوقف ـ وهو صدقة جارية ـ يبقى أجره ويستمر بعد موت صاحبه كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلاّ من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له) رواه مسلم وأصحاب السنن إلاّ ابن ماجه[6] ، وكذلك يدل على هذا الفضل العظيم للوقف حديث أبي طلحة السابق .



  2. تحبيس الأصل والصدقة بالريع ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر (حينما أصاب أرضاً بخيبر ، فأتى النبي يستأمره فيها) : ( إن شئت حبّست أصلها وتصدقت بها ، غير أنه لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث) فتصدق بها عمر في الفقراء ، وفي القربى ، وفي الرقاب ، وفي سبيل الله ، وابن السبيل ، والضعيف ، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ، أو يطعم صديقاً غير متمول فيه)[7].


 


فهذا الحديث يتضمن الأحكام الآتية :


 


1. حبس الأصل وعدم بيعه وهبته وتوريثه ، والتصدق بريعه ، وفي رواية النسائي وابن ماجه بلفظ (احبس أصلها وسبّل ثمرتها)[8] ورواية أحمد بلفظ (احبس أصولها وسبّل ثمرتها)[9].


 


 فهذه الروايات تبين معالم الوقف وحقيقته ، ولذلك عرفه جماعة من الفقهاء بأنه :  ((تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة)) وهذا يتفق أيضاً مع مدلول الحكم السابق من أن الوقف من الصدقات الجارية المستمرة بعد موت الإنسان .


 


 وهذا الحكم أو التعريف[10] يعتبر الأساس في الوقف ، ولكن مع ذلك يثار حوله بعض التساؤل ، وهو : هل المقصود بالحبس التأبيد مطلقاً بحيث لا يقبل التأقيت أبداً ، أم أن معناه يتحقق حتى ولو بحبس الشيء فترة زمنية مثل سنة ؟ وهل معنى الحبس عدم جواز التصرف فيه أبداً ؟ 


 


 للجواب عن التساؤل الأول نقول : إن جمهور الفقهاء على أن الوقف يجب أن يكون مؤبداً ، وأنه لا يجوز تأقيت الوقف بزمن محدد ، بل يجب أن يكون على الدوام وإلاّ لم يكن وقفاً ، في حين ذهب المالكية إلى جواز الوقف المؤقت مثل أن يقف أرضاً ، أو بناءً لمدة عشر سنوات مثلاً ، قال ابن شاس : (ولا يشترط فيه التأبيد ، بل لو قال : على أن من احتاج منهم باع ، وأن العين المحبسة تصير لآخرهم مطلقاً صح واتبع الشرط)[11] .


 


 


 وأما التساؤل الثاني بأن لا يُجاز ويصحح أي تصرف بالبيع ونحوه يؤدي إلى قطع التأبيد والاستمرارية سواء أكان بالبيع ، أو الاستبدال بوقف آخر؟


 


 وهذا أيضاً محل خلاف كبير بين الفقهاء ـ كما سبق ـ وقد استدل المانعون بحديث عمر الذي فيه : (إن شئت حبّست أصلها ، وتصدقت بها)[12] وفي رواية صحيحة بلفظ قال النبي صلى الله عليه وسلم : (تصدّق بأصله ، لا يباع ، ولا يوهب ، ولا يورث ، ولكن ينفق ثمره ، فتصدق به عمر…)[13] وهذا اللفظ المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم دليل على أن الموقوف لا يباع ولا يوهب ، قال الحافظ ابن حجر : (وهي ـ أي الرواية المرفوعة السابقة ـ أتم الروايات وأصرحها في المقصود)[14] ولكن هذا الشرط : (وهو : لا يباع ، ولا يوهب ولا يورث…) موقوف على عمر في أكثر الروايات[15] ، وحتى البخاري ـ كما قال الحافظ ابن حجر ـ علقه في المزارعة بلفظ : (قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر : ( تصدق بأصله لا يباع ولا يوهب …)[16] .


 


وقد أجاب المجيزون عن هذا الحديث بما يأتي :


 


1. فقد انتصر الحافظ الطحاوي لهذا الرأي فقال : قوله في قصة في عمر : (حبس الأصل وسبل الثمرة) لا يستلزم التأبييد ، بل يحتمل أن يكون أراد مدة اختياره لذلك)[17] .


 


 ولكن الحافظ ابن حجر ضعف هذا التأويل ، حيث لا يفهم من قوله (وقفت وحبست) إلاّ التأبييد حتى يصرح بالشرط عند من يذهب إليه ، وكأنه لم يقف على الرواية التي فيها (حبيس ما دامت السموات والأرض)[18] .


 


2. الذي يظهر لي أن هذا الحديث الصحيح بمثابة الأصل والقاعدة العامة والمبدأ العام في الوقف ، أي أن الأصل هو أن يكون الوقف مؤبداً ، وأن لا يغير الوقف ولا ينهى بالبيع ونحوه ، واستثناء من هذا الأصل يجوز الوقف المؤقت ، وبيع الوقف ، أو استبداله .


 


 وذلك لأن حديث عمر الصحيح لم يرد بصيغة العموم ، بل هو كما يقول الأصوليون : حادثة الحال ، فينزل الحديث عليها بجميع مواصفاتها وحيثياتها ، فقد جاء عمر بعد ما أصاب أرضاً بخيبر يريد التصدق بها صدقة عظيمة فأرشدها النبي صلى الله عليه وسلم إلى أفضلها المتمثل في الوقف بأن يحبس أصلها فلا يباع أصلها ، ولا يوهب ، ولا يورث ، ولكن يتصدق بريعها وثمارها وما يخرج منها ، وبذلك تكون من الصدقة الجارية التي يستمر ثوابها له ما دامت باقية ومنتفعاً بها .


 


 فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يستعمل صيغة عامة بأن يقول : (الوقف ، أو كل وقف لا يباع ، وإنما كان الحديث منصباً على هذه الواقفة المعينة ، وبالتالي فهي تشمل الوقائع التي هي مثلها .


 


 وعلى ضوء ذلك فالقول بجواز الوقف المؤقت ، أو استبدال الموقوف لضروريات ، أو مصالح معتبرة لا يتعارض مع النصّ السابق ويدل على ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم أجاز وقف الحيوانات والدواب وهي ليست دائمة ومستمرة ، وإنما لها عمر محدد ينتهي بالبيع إن أمكن ، أو تموت فقد روى البخاري أن عمر وقف فرساً له في سبيل الله[19] كما روى هو وغيره فضل احتباس الفرس في سبيل الله بلفظ : (من احتبس فرساً في سبيل الله إيماناً واحتساباً فإن شبعه وريّه ، وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة)[20] ، كما أجاز الرسول صلى الله عليه وسلم وقف الأسلحة في سبيل الله وهي لا يستفاد من ريعها ، وإنما الاستفادة باستعمالها ، فقد روى البخاري ومسلم وغيرهما بسندهم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (…وأما خالد فإنكم تظلمون خالداً ، قد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله …..)[21] .


 


 ويدل على ذلك ما فعله الصحابي الجليل حسان بن ثابت رضي الله عنه من بيعه لحصته من وقف أبي طلحة ، فقد روى البخاري في صحيحه ، وغيره بسندهم عن أنس قال :    ـ بعد ما ذكر قصة أبي طلحة ـ فتصدق به أبو طلحة على ذوي رحمه ، وكان منهم أبي ، وحسان ، قال أنس : (وباع حسان حصته منه من معاوية ، فقيل له : تبيع صدقة أبي طلحة ؟ فقال : ألا أبيع صاعاً من تمر بصاع من دراهم ؟ قال : وكانت تلك الحديقة في موضع قصر بني حديله الذي بناه معاوية)[22] .


 


 وقد حاول المانعون تأويل هذه الحادثة بأن صدقة أبي طلحة لم تكن على وجه الوقف ، ولكنه تأويل بعيد ، لأن الظاهر أنها كانت وقفاً ، وأن البخاري كرر حديث أبي طلحة في أبواب الوقف أكثر من مرة[23] ، لكن حسان بن ثابت أخذ بما هو المصلحة الراجحة له وهو أن صاعاً من الدراهم كان أفضل بكثير من صاع من تمر الذي كان يأتيه من نصيبه من الحديقة ، فقد روى أنه قد باع حصته بمائة ألف درهم[24] ، ومن جانب آخر أن الحديقة لو لم تكن وقفاً لما أثير حول بيعها التساؤل المذكور ، كما أن البخاري ذكر في باب الوقف حديث أبي طلحة[25] ، وبيع حسن نصيبه منها.


 


 وهناك تأويل معقول آخر ذكره الحافظ ابن حجر فقال : (ويحتمل أن يقال : شرط أبو طلحة عليهم لما وقفها عليهم أن من يحتاج إلى بيع حصته منهم جاز له بيعها ، وقد قال بجواز هذا الشرط بعض العلماء كعلي وغيره والله أعلم)[26] .


 


ثانياً : يبنى على ما سبق (قلة النصوص) أن الوقف يكثر فيه الاعتماد على المصادر  والأدلة المعتبرة الأخرى  كالإجماع والقياس ، والمصالح المرسلة ومقاصد الشريعة العامة والخاصة بالوقف ، والعرف ، وأقوال الصحابة ، إضافة إلى المبادئ العامة ، والقواعد الكلية الحاكمة في الشريعة الإسلامية الغراء .


 


 ومع ذلك فإن الوقف اعتبره الفقهاء صنو الوصية وأن معظم الأحكام الخاصة باليتامى وبوصيهم تطبق على الوقف وناظر الوقف ، كما أن الأحكام المنصوص عليها في السنة بشأن الوقف تطبق على الوصي ، وحينئذٍ نكون أمام عدد طيب من النصوص القرآنية والنبوية نستفيد منها لاستنباط كثير من المبادئ والأحكام للوقف .


 


 ومن هذا المنطلق عقد الإمام البخاري باب : ما وللوصي أن يعمل في مال اليتيم وما يأكل منه بقدر عمالته ، ثم احتج له بحديث عمر في الوقف ، قال المهلب  : (شبه البخاري الوصي بناظر الوقف ، ووجه الشبه أن النظر للموقوف عليهم من الفقراء وغيرهم كالنظر لليتامى….)[27] .


 


 وقد ربط بعض الفقهاء بين الوقف والوصية فقد قال الماوردي : (تجوز الوصية لكل من جاز الوقف عليه من صغير وكبير…)[28] وذكر البخاري أحاديث الوقف ضمن كتاب الوصايا في صحيحه[29].


 


لذلك نذكر أهم المبادئ التي تتضمنها هذه الآيات وهي :


 


1. مبدأ الإصلاح الذي أوجبه القرآن الكريم حيث يقول الله تعالى : (ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم)[30] والمقصود بمبدأ الإصلاح هو الاعتماد على المصالح     (أي جلب المنفعة) والموازنة بين المصالح حسب ما هو الأولى فالأولى ، ثم الموازنة بينها وبين المفاسد (درء المضرة) ، ثم الموازنة بين ما هو مفسدة عظمى وما هو مفسدة صغرى وهكذا .


 


 ورعاية المصلحة في الوقف ليست بدعاً في الأمر ، ولا غريبة في هذه الشريعة التي هي مبنية على المصالح ، يقول العلامة ابن القيم (ت751هـ) : (إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ، ومصالح العباد في المعاش والمعاد ، وهي عدل كلها ، ورحمة كلها ، ومصالح كلها ، وحكمة كلها ، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور ، وعن الرحمة إلى ضدها ، وعن المصلحة إلى المفسدة ، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل….)[31] .


 


 ويقول الشاطبي : (إنا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراءً لا ينازع فيه ..)[32] .


 


 ونحن هنا حينما نقر بالمصالح في الوقف لا نقصد بها المصالح التي تتعارض مع نص شرعي ، او ما يسميه الأصوليون : بالمصالح الملغاة ، وبما أن النصوص المبينة لأحكام الوقف قليلة ـ كما سبق ـ فإن مجال اعتبار المصالح في باب الوقف أوسع .


 


 وهنا يرد سؤال حول الوقف : هل هو من باب العبادات التي لا تبنى على العلل والمصالح أم أنه من باب العادات والمعاملات التي تعتبر معقولة المعاني ومبنية على المصالح والعلل والحكم ؟


 


 للجواب عن ذلك نقول : إن الوقف وإن كان فيه معنى العبادة من حيث هو صدقة ، لكنه يقوم على الهبة وصلة الرحم وتحقيق الحضارة ، وتكوين البنية الأساسية ، والتنمية الاقتصادية ، والصحية والاجتماعية والعلمية والحضارية ونحو ذلك ، وكل ذلك مقاصد معتبرة ومعللة ، يقول الشيخ ابن بيه : (وقد ولج الوقف طيلة التأريخ الإسلامي في شرق العالم الإسلامي وغربه كل هذه الميادين بنسب متفاوتة وفي فترات من مسيرة هذه الأمة متباينة ، أمثلة التأريخ كثيرة ، ولعل من طريقها تلك الدعوى التي يقوم بها أشخاص ليسوا من مواطني قرطبة ينزلون بها فيرون أوقاف المرضى التي توفر ما يسمى (بالضمان الاجتماعي) في لغة العصر ، فيطالب هؤلاء الأشخاص بالإفادة من هذا الوقف (الضمان) فيفتي الفقهاء إن إقامة أربعة أيام في قرطبة تجعل الضيف مواطناً قرطبياً ليفيد من الأوقاف)[33] .


 


 وقد بنيت بأموال الوقف وبفكرة الوقف المدارس والجامعات ، والمستشفيات ، بل إن الحضارة الإسلامية العظيمة نستطيع القول بأنها حضارة الوقف ، لذلك لا يمكن القول بأن الوقف من باب التعبد الذي لا يعقل معناه بل هو قائم على المصالح والعلل والحكم ، لأن الهدف منه تحقيق مصالح دنيوية واضحة ، إضافة إلى تحقيق الأجر والثواب لصاحبه في الآخرة ، حيث لا تعارض بين المصلحتين في الإسلام الذي هو يجمع بين حسنتي الدنيا والآخرة .


 


 وبقدر اعتبار المصلحة في الوقف يكون التوسع ، أو التوسط او التضييق في موضوع الوقوف عند شروط الواقف ، أو مسألة تأبييد الوقف ، أو في تغيير عين الموقوف بالمعاوضة والاستبدال ونحوهما ، او غير ذلك من مسائل الوقف . 


 


2. مبدأ احترام نص الواقف الذي لا يتعارض مع نص الشارع ، حيث نستدل له بقوله تعالى في باب الوصية : (فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه…)[34] .


 


3. عدم الخلط بين أموال الوقف وغيره إذا أدى إلى الإضرار به ، وعدم اقتراضه ، حيث يقول تعالى : (واتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أمولهم إلى أموالكم إنه كان حوباً كبيراً)[35] .


 


 أ ـ فقوله تعالى : (ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب) فسره جماعة من المفسرين بأنه كان بعض الناس يبدل الشاة السمينة من مال اليتيم بالهزيلة من ماله ، والدرهم الطيب بالزائف ، وهذا ما قاله سعيد بن المسيب ، والزهري ، والسدي ، والضحاك[36] وزاد ابن العربي : (…ويقولون : اسم باسم ، ورأس برأس)[37] وقال الفراء والزجاج في معنى الآية : (لا تستبدلوا الحرام ـ وهو مال اليتامى ـ بالحلال ، وهو مالكم الذي أبيح لكم من المكاسب ورزق الله المبثوث في الأرض فتأكلوه مكانه)[38] ثم ذكر الرازي أن المقصود هو الأمر بحفظها ، والتورع منها ، كما أن معناه : عدم أكل أموال اليتيم سلفاً مع التزام بدله بعد ذلك[39] وكل هذه المعاني مطلوبة في أموال الوقف .


 


ب ـ وقوله تعالى : (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم) قال ابن عطية : (وروى عن مجاهد أنه قال : الآية ناهية عن الخلط في الانفاق ، فإن العرب كانت تخلط نفقتها بنفقة أيتامها فنهوا عن ذلك ، ثم نسخ منه النهي بقوله تعالى : (وإن تخالطوهم فإخوانكم في الدين)[40] في حين أن ابن فورك لم يعتبر هذه الآية منسوخة)[41] .


 


 وقال ابن العربي : (نهوا أن يعتقدوا أن أموال اليتامى كأموالهم ، ويتسلطون عليها بالأكل والانتفاع) ثم قال : (روى أن هذه الآية لما نزلت اعتزل كل ولي يتميه وأزال مكله حتى آلت الحال أن يصنع لليتيم معاشه فيأكله …..فعاد ذلك بالضرر عليهم فأرخص الله في المخالطة قصداً للإصلاح ونزلت هذه الآية (ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم)[42] ولم يرض أبوبكر الرازي بما سبق فقال : (وأظن انه غلط من الراوي ، لأن المراد بهذه الآية إيتاؤهم أموالهم بعد البلوغ ، وإنما غلط بآية أخرى)[43] وهي : (ولا تقربوا مال اليتيم إلاّ بالتي هي أحسن)[44] وقال الماوردي : (ان تخلطوها بأموالهم لتصير في ذمتهم فيأكلوا ربحها)[45] ، وقد لخص الإمام الرازي هذه المعاني وغيرها بأن معنى الآية : (لا تضموا أموالهم إلى أموالكم في الانفاق حتى لا تفرقوا بين أموالكم وأموالهم في جل الانتفاع بها) ثم قال : (واعلم أنه تعالى وإن ذكر الأكل فالمراد به التصرف …فسائر التصرفات المهلكة لها محرمة…)[46] وهذه المعاني المذكورة هنا مطلوبة في أموال الوقف بالنسبة للناظر وإدارة الوقف .


 


4. التورع بالنسبة للناظر ، وعدم تجاوز الحل المباح ، حيث يقول تعالى : (…ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً أن يكبروا ومن كان غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف..)[47] ويستنبط منه عدة أحكام تطبق على الوقف منها :


 


أ ـ أن ولي اليتيم إذا كان غنياً فقد أمره الله تعالى بالاستعفاف ، وإذا كان فقيراً فله أن يأكل بالمعروف ، وهكذا حكم ناظر الوقف الخيري إن لم يحدد له الواقف ، ولذلك ربط البخاري بين الأمرين فقال : باب : وما للوصي أن يعمل في مال اليتيم وما يأكل منه بقدر عمالته ، ثم أورد حديث عمر وفيه قول عمر : ( ولا جناح على من وليه أن يأكل منه بالمعروف أو يوكل صديقه غير متمول به) ، كما أورد حديث هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها (ومن كان غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف) قالت : أنزلت في والي اليتيم أن يصيب من ماله إذا كان محتاجاً بقدر ماله بالمعروف)[48] .


 


  قال الحافظ ابن حجر تعليقاً على الباب الذي يشمل محتواه رأي البخاري : (وهذه من مسائل الخلاف : فقيل : يجوز للوصي أن يأخذ من مال اليتيم قدر عمالته وهو قول عائشة…..وعكرمة والحسن وغيرهم .


 


 اعلى الصفحة


وقيل لا يأكل منه إلاّ عند الحاجة .


 


 ثم اختلفوا : فقال عبيدة بن عمرو ، وسعيد بن جبير ومجاهد : إذا أكل ، ثم أيسر قضى ، وقيل لا يجب القضاء ، وقيل : إن كان ذهباً أو فضة لم يجز أن يأخذ منه شيئاً إلاّ على سبيل القرض ، وإن كان غير ذلك جاز بقدر الحاجة ، وهذا أصح الأقوال عن ابن عباس ، وبه قال الشعبي ، وأبو العالية وغيرهما ، أخرج جميع ذلك ابن جرير في تفسيره ، وقال هو بوجوب القضاء مطلقاً ، وانتصر له ، ومذهب الشافعي يأخذ أقل الأمرين من أجرته ونفقته ، ولا يجب الرد على الصحيح[49].


 


 قال المهلب : (شبه البخاري الوصي بناظر الوقف ، ووجه الشبه أن النظر للموقوف عليهم من الفقراء وغيرهم كالنظر لليتامى ، وتعقبه ابن المنير بان الواقف هو المالك لمنافع ما وقفه ، فإن شرط لمن يلي نظره شيئاً ساغ له ذلك ، والوصي ليس كذلك ، لأن ولده يملكون المال بعده بقسمة الله فلم يكن في ذلك كالواقف) غير أن مراد البخاري ليس هذا ، وإنما مراده تشبيه الوصي بناظر الوقف ، ولذلك عقب ابن حجر على تعقيب ابن المنير فقال : (ومقتضاه أن الموصي إذا جعل للوصي أن يأكل من مال الموصي عليهم لا يصح ذلك ، وليس كذلك بل هو سائغ إذا عينه ، وإنما اختلف السلف فيما إذا أوصى ولم يعين للوصي شيئاً هل له أن يأخذ بقدر عمله أم لا ؟ وقال الكرماني : وجه المطابقة هو من جهة أن القصد أن الوصي يأخذ من مال اليتيم أجره بدليل قول عمر : (لا جناح على من وليه أن يأكل بالمعروف)[50] .


 


ب ـ عدم مجاوزة الحد المباح حيث فسر المفسرون قوله تعالى : (ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً أن يكبروا)[51] فقالوا : إسرافاً يعني مجاوزة من أموالكم التي تنبغي لكم إلى ما لا يحل لكم من أموالهم ، والإسراف مجاوزة الحد المباح إلى المحظور و (بداراً) يعني مبادرة أن يكبروا ، واستباقاً لمعرفتهم لمصالحهم ، واستئثاراً عليهم بأموالهم[52] وذكر الرازي أن الناس كانوا يقولون : ننفق كما نشتهي ، قبل أن يكبر اليتامى فينزعوها من أيديهم[53] .


 


 كما ذكروا أن هذه الآية تدل على وجوب صيانة هذه الأموال وعدم التصرف فيها بالبيع ، او الهبة ، أو نحوهما[54].


 


وهذه المعاني كلها مطلوبة أيضاً في مال ا لوقف ، وفي المال العام . 


 


5. ضرورة الاستثمار في أموال الوقف الذي يجوز أن يستثمر ، حيث يقول تعالى : (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لك