بسم الله الرحمن الرحيم

ايها الاخوة المؤمنون

يركز القران الكريم على كلمة واحدة ترجع اليها حقائق الاسلام والايمان كلها، هذه الكلمة الواحدة تشتق منها مجموعة من الانشطة الحقيقية والتصورات التي تكمل هذه الجوانب التي تحتاج اليها الامة الاسلامية دائما، تلكم الكلمة هي كلمة “الصدق”، وهذه الكلمة تشتق منها كلمات تعبر عن جوهر الاسلام، وعن حقيقته وعن مبادئه، فمن هذه الكلمة “التصديق” الذي يصدق القلب بكل ما جاء من عند الله سبحانه وتعالى، وانك تصدق ذلك، وتستقر هذه العقيدة في قلبك ثم بعد ذلك لتنتقل آثارها الى جوارحك ولسانك، والى تصرفاتك وسلوكياتك، والكلمة الثانية هو “الصدق” الذي هو عبارة عن الصدق مع الله، والصدق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بل مع جميع انبياء الله والرسل، والصدق مع كتاب الله، والصدق مع المؤمنين، والصدق مع غير المؤمنين ايضا، اي الصدق مع الناس بل الصدق مع الحيوانات، لأن الكذب معها ايضا حرام حرمه الله سبحانه وتعالى، حتى ان احدا من كبار العلماء حينما الى ذهب الى احد الاشخاص ليأخذ منه حديثا، فلما رآه ان يكذب على معزة ترك حديثه، وقال اذا كان يكذب مع هذا الحيوان الذي لا ينطق فكيف لا يكذب على الانسان.

 اذا الصدق كلمة شاملة تشمل ايضا الصدق في الوعود والصدق في العهود والعقود والصدق في الالتزامات التي يلتزم بها الانسان.

هذه الكلمة الجامعة هي احدى الكلمات التي تشتق من حرف “ص” “د” “ق”  والكلمة الثانية التصديق، والكلمة الثالثة هي المصداقية وهذه هي الكلمة التي سنتحدث عنها في هذه الخطبة، اما الكلمة الرابعة هي الصدقة والصدقات، ولماذا سميت االخيرات والزكوات بالصدقة ؟ لأن ذلك دليل على صدقك، دليل بأنك مستعد للتضحية في سبيل الله ، وإن هذا الادعاء صادق حيث قمت ببذل الخيرات وصرف الزكاة والنسب التي فرضها الله تعالى عليك، ومن هنا اذا لم يَصدُق الانسان في هذا الجانب فليس صادقا حينما تعبد الله، وحينما تقول سمعنا واطعنا، ولكن حينما يأمرك الله سبحانه وتعالى ببذل الخيرات في سبيل اخوانك انت تمتنع، فهنا لم يبقى الصدق وانما دخل الكذب مع الله، ودخل الكذب ايضا مع الناس، وفيما تعاهدت به في انك تقول دائما ” إياك نعبد وإياك نستعين” .

المصداقية اي ان تكون تصرفاتك وسلوكياتك تعبيرا عما تؤمن به، عما امرك الله به سبحانه وتعالى، عما نهاك عنه، ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى في بيان هذه المصداقية بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم يقول (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) سمى الله سبحانه وتعالى القران والسنة والاسلام والايمان وكل هذه الامور جمعها الله سبحانه وتعالى في كلمة واحدة وهي الصدق،  ويشمل الصدق في القول والفعل والسلوك، بحيث لا يكون هناك انفصام ولا انفصال بين ما تؤمن به وبين ما تعمله حتى لا تتحقق الازدواجية بين اقوالك وافعالك.

ثم تتحدث الاية عن المصداقية،  وأن  الرسول صلى الله عليه وسلم  لم يكن مجرد مبلغ وانما كان اول الفاعلين والنافذين والمطبقين، بل كان قدوة في تحقيق هذا الصدق في كل ما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم، وفيما ينزل عليه من الايات، فيطبق على نفسه اولا ثم يأمر به امته ثانيا، لذا نجد الرسول اكثر تعبدا في العبادات، وفي الخشية اكثر الناس خشية، وفي البكاء اكثر الناس بكاء، وفي المال والبذل اكثر الناس بذلا وكان أجود من الريح المرسلة، وفي التضحية والفداء في الوقت الحرب كان في المقدمة، وكما يقول سيدنا علي رضي اللعنه وهو اشجع الفرسان “اذا حمي الوطيس كنا نحتمي برسول الله صلى الله عليه وسلم”، لذلك شهد الله سبحانه وتعالى له كما أنه جاء بالصِدق صدّق به، وهذا ما يعبر عنه في كلمتنا المصداقية.

ثم يصف الله سبحانه وتعالى هؤلاء في الاية بأنهم هم المتقون، اي اولئك الذين تحقق فيهم التقوى الحقيقية، فإذا كانت التقوى هي السبب الاساسي، وهي السبب الذي جعله الله سبحانه وتعالى بفضله ومنّه سببا لدخولنا الجنة، ولإرضاء الله سبحانه وتعالى، فإن هذه التقوى تتحقق بهذه المصداقية، بأن تكون مع الصدق وأن تصدّق هذا الصدق في تصرفاتك في سلوكياتك.

وكذلك كان الصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم شهد الله لهم بهذه المصداقية، ولذلك فتح الله عليهم وبهم الدنيا ونشر بهم الاسلام، يقول الله سبحانه وتعالى  (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ۚ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا)، فعلى رغم خطورة الوضع ومجيئ القبائل العربية كلها، وحاصروا المدينة المنورة، ثم ظهرت الخيانة الكبرى من يهود بني قريظة وبني نضير، وفتحوا الجبهة الداخلية الشرقية لهؤلاء، بحيث كان بإمكانهم الدخول لولا عناية الله سبحانه وتعالى، وكما وصفه الله سبحانه وتعالى هذا الوضع الصعب قال (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا. هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا)، في هذا الابتلاء وهذا الزلزال الشديد ظهر الصادقون حين قالوا  (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ۚ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا)، اما المنافقون قالوا (مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا) اي التدليس وهذا كلام لا تليق أن تقال أمام الله سبحانه وتعالى وامام رسوله.

فهذه هي المصداقية التي شهد الله سبحانه وتعالى بها لهؤلاء الصحابة، ولذلك كان سيدنا ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يقول ” ما تنزل عشر آيات الا وعيناها وحفظناها ثم طبقناها” لم تكن الكلمة نقرأ ولا نستوعب، ولم تكن القضية ان نستوعب دون ان نطبق، ولم تكن القضية انه كثرة الصلاة او كثرة الصيام رغم اهميتهما، انما الاهمية في هذه المصداقية ولذلك آية واحدة نقرأها ونطبقها خير من أن نقرأ ألف آيات ولا نعمل بها، بل حينما نقرأها ولا نطبقها تكون حينئذ شهادة علينا، ويكون القران شاهدا ضدنا يوم القيامة، ونكون حينئذ ندخل في قوله سبحانه ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ . كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ)، سمى الله سبحانه وتعالى انفصال الاقوال عن الافعال مقتا، اي لعنة، أي غضبا، اي بعدا عن الله سبحانه وتعالى، وهذا إن دل على شي فإنما يدل على اهمية هذه المصداقية في حياة المسلمين، ورغم وجود هذه الصحوة المباركة، رغم وجود هذه الثورات العربية، فلن نكون امة قادرة على صنع الحضارة الا اذا عدنا الى هذه المصداقية، الاقوال والافكار والخطط والبرامج مهما كانت جميلة، ومهما كانت رائدة، ومهما كانت رائعة، لا يمكن ان تحقق الخير الا اذا نفذت، وانما تبقى مجرد حبر على الورق، نبدل شخصا بشخص، او نظاما بنظام، ولكن اذا لم تتغير النفوس بحيث تتجه نحو العمل والتنمية والتضحية والمصداقية، وان نترك كثيرا من هذا الكلام مما نقوله، ولا نفعل به حينئذ اذا لم نكن كذلك لا نستطيع ان نفعل شيئا على مستوى هذه الامة التي كلفها الله سبحانه وتعالى بالتعمير وان تكون قدوة للعالمين.

وهنا المختبر والمعيارية، كما يقول الله سبحانه وتعالى، حتى التكاليف والعبادات والاوامر والنواهي والمصائب التي تنزل على هذه الامة كلها في سبيل بيان هذه المصداقية، وتجسيد هذه المصداقية، وفي كشف معيارية هذه المصداقية، لأن الصدق معيار ايضا لصدق الايمان والاقوال والافعال والسلوكيات.

وقد بين الله ذلك من خلال ايات كثيرة، ومن خلال احاديث نبوية شريفة، ولذلك تكررت هذه الكلمة وهذه الحروف الثلاثة حوالي 145 مرة وطغت كل هذه الجوانب وغيرها من جوانب الحياة وكأن الاسلام قد حصرت دائرته في هذه الدائرة ولهذا سمي الاسلام كله بهذه الكلمة الجميلة “الصدق” ولكن مع الاسف الشديد غابت عن كثير من المسلمين.

وقد سُئلت بالأمس في مجلس، كم نسبة المسلمين الذين يصدُقون في تعاملهم ومعملاتهم اليوم؟ فعلا نسبة المصلين كثيرة ونسبة المعتمرين كثيرة والحمدلله، ولكن نسبة من يتعامل معك بالصدق !؟ ولا يعرف ذلك الا اذا دخلت في المعاملات، وفي السوق، أو أن تبني، أو تصنع، فهنالك تسأل اين الصدق؟ اين الايمان؟ ومعظمهم يبحث كيف يأخذ مالك،  فهل هذا هو الايمان! هل هذه هي المصداقية؟ المصداقية هي كما جرب به سيدنا يوسف في اخطر وادق قضية، واكثر القضايا تاثيرا ، امرأة جميلة ذات جاه ومال، وسيدنا يوسف عبد عندها، يأمرها بالفاحشة في مكان مغلق لا يعلم به الا الله، فيقول يوسف معاذ الله، ويدخل السجن سنوات لأجل المصداقية . هذا هو الاسلام، أما الكلام فما أكثره، أما الاعاء فما أكثره، ولذك يقول الله سبحانه وتعالى في سبب التكاليف (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)، أنكتفي بالايمان دون الامتحان، والفتنة هنا ليس جانب سلبي، الافتنان في القران الامتحان بالخير والشر ” ونبلوكم بالخير والشر فتنة”.

الخطبة الثانية

العالم اليوم كله يعاني من عدم المصداقية، وعدم المصداقية في عرف السياسة يسمى بإزدواجية المعايير. نحن المسلمين نتهم أمريكا والدول الغربية بهذه الازدواجية، ونقول لهم بأنهم لهم معياران، معيار يتعاملون به مع الاسرائيل، ومعيار آخر يتعاملون به معنا، وهذا صدق، ولكن نحن كذلك في معظم المستويات لدينا ازدواجية في المعايير، وازدواجية كذلك وانفصال بين ما نؤمن به وبين ما نقوله ونفعله، جعل الله هذه الامة ان تكون صادقة، والشهادة لا تقبل الا من العدل ” وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ)” أي لتكونوا صادقين عادلين، وتكون شهادتكم مقبولة،  اما اذا لم نصل الى هذه المستوى فنكون سواء مع هؤلاء، كذلك في القضايا المطروحة الان، لا نجد هذه المصداقية كما نراه الان في سوريا ، لو حدث ذلك في بلد يسكنه غير المسلمين لقامت القيامة والاممم المتحدة والدنيا كلها ، وهل يتركونهم ثلاثة عشر شهرا ليعبث نظام واحد بهم وبكل الناس ويقتل منهم أكثر من 11 الف شخص! بالاضافة الى التدمير! فأين المصداقية ؟ الى يومنا هذا لم تتحول الاقوال الى الافعال وكلها مهل، والمهل لا يستفيد منها الا النظام، فما احوجنا اليوم الى نظام دولي صادق، فما احوجنا اليوم الى الصدق بين الحاكم والشعب، وهذا من الاسباب الرئيسية لقيام هذه الثورات.

وكذلك الامر في بعض العلماء، فالاولى أن يكونوا قدوة للناس جميعا، فاذا بهم في وقت ما احوجنا الى كلمة واحدة، نرى بعضهم يحاول التفريق من خلال شق صفوف الجماعة والفتاوى الجماعية التي صدرت بمنع المسلمين غير الفلسطينين للذهاب الى القدس الشريف، لأن هذه الرحلة تكون بموافقة الدولة الصهيونية، بينما المفروض ان نقاطعها، وبدل ان نعاديها، أن نقبل منها فما نسب الى بعض من أهل العلم خطأ جسيم، وكان الاولى أن يكونوا قدوة، واذا كان المسؤولون عن المسيحين كبابا شنودة السابق يمنع المسيحيح الذهاب الى القدس، فكيف بمُفت يمثل اكبر دولة عربية اسلامية يذهب الى قدس تحت غطاء الدولة اليهودية، بالاضفة ان هذا يعتبر تعاون مع دولة محتلة، والواجب الاساسي على الامة ان تسعى جاهدة لتحرير القدس وفلسطين كلها، لا أن تطبع، وربما قبل فترة نفس المفتي حينما كانت الدولة تدعي عدم التطبيع في ايام جمال عبدالناصر، كانت الفتاوى منه كلها بتحريم الذهاب الى المناطق المحتلة .

ما أحوجنا اليوم الى هذه المصداقية على مستوى الحكام والامراء والعلماء والشعوب والافراد حتى نكون امة خير امة أخرجت للناس.