التأصيل الشرعي للمظاهرات السلمية، أو الثورات الشعبية، ما يجوز منها وما لا يجوز، مع مناقشة الأدلة

بقلم
أ.د. علي محيى الدين القره داغي
الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
نائب رئيس المجلس الأوروبي للافتاء والبحوث

بسم الله الرحمن الرحيم


تمهيد

 فقد ظهرت في عصرنا الحاضر وسائل جديدة في كل مجالات الحياة ، ونحن فعلاً أمام ثورات علمية وتقنية في عالم الاتصالات والمواصلات تجاوزت كل الثورات السابقة في عالم الصناعة ، ونحوها .
 ويبدو أن ثورة التقنيات المتطورة في عالم الاتصالات ( الانترنيت ، وفيس بوك ، وتويتر ، والموبايل ) ساعدت كثيراً في تفجير ثورات في عالم السياسة ، وساهمت في التجميع والتنظيم ، والتحريك والتوجيه كما رأينا في ثورة تونس المبدعة ، وبشكل أكبر في ثورة مصر العظيمة التي كانت مدرسة فعلاً في الحفاظ على الأموال العامة ، والخاصة ، والأخلاق والقيم السامية في التعامل مع الآخرين ، والسلوكيات ، حيث لم تشهد ساحة التحرير ـ المليئة بمئات الآلاف طوال عدة أسابيع ، بل بالملايين في بعض الأيام ـ  مشكلة أخلاقية من التحرش الجنسي ، أو مشكلة مالية من السرقات ، والنهب ، ونحوهما ، كما تبين أن بعض ما حدث في بداية الثورة كان من صنع فلول بعض الأجهزة الأمنية والشرطة للاساءة إلى الثورة .
والخلاصة أن الثورة كانت ثورة سلمية نظيفة طاهرة أعطت صورة حضارية طيبة للشعب المصري إلى العالم أجمع .

وهنا يرد سؤال ملح هل هذه الثورات مشروعة ، أو ممنوعة ومحظورة ؟

للإجابة عن ذلك نقوم أولاً بالتعريف بالمظاهرات والاعتصامات والاحتاجات ، ثم نذكر آراء المعاصرين وأدلتهم مع المناقشة والترجيح .

(1) المظاهرات :
لغة جمع مظاهرة من ظاهر فلاناً بمعنى : عاونه ، ويُقال : تظاهروا أي تعاونوا ، ولها معان أخرى  .
 أما التظاهر بمعنى : تجمع مجموعة للإعلان عن رضاهم أو سخطهم عن أمر يهمهم ، فهو معنى حديث أقره مجمع اللغة العربية  ، ولا يخرج عن أصل معناه الدال على الظهور والمكاشفة ، وعلى التعاون بين البعض .
 وقد ورد في القرآن الكريم لفظ “ظهر” ومشتقاته (59) مرة بمعان متعددة ، منها قوله تعالى : (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)  وقوله تعالى : (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً)   وقوله تعالى : ( ..وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ)  ، فالتظاهر في هذه الآيات هو التعاون ، وأن هذا التظاهر يستعمل للتعاون على الشر ، كما يستعمل في التظاهر على الخير  ، بل إننا نفهم من سياق الآيات التي وردت فيها كلمة ( ظاهروا ) أو ( تظاهرا ) الاظهار بالتعاون الملح لتحقيق هدف معين.

(2) الاعتصامات :
 لغة : جمع اعتصام مِن عصم بمعنى : لجأ ، و تمسك ، وحفظ ، ووفى ، ومنع ، واعتصم به أي : امتنع به ، ولجأ   ، وقد جاء في المعجم المعجم الوسيط : ومنه اعتصام الطلبة ونحوهم بمعهدهم : لا يعملون ولا يخرجون حتى يُجابوا إلى ما طلبوا   .
 وقد تكرر لفظ ( عصم ) ومشتقاته في القرآن الكريم (13) بمعنى الامساك ، والاستمساك ، والتمسك بالشيء ، والحماية والوقاية   .
 ويقصد بالاعتصامات في عصرنا الحاضر : قيام مجموعة من الناس بالامتناع عن أداء الوظيفة ، أو الأعمال ؛ لإظهار رفضهم عملاً معيناً ، أو مطالبتهم بشيء معين ، حتى تتحقق مطالبهم .

(3) الاحتجاجات :

 لغة : جمع احتجاج فيقال : احتجّ عليه : أقام عليه الحجة ، والحُجّة هي الدليل والبرهان ، والحج هو القصد ، وأحد أركان الإسلام الخمسة ، وله معان أخرى  .
 ويطلق الاحتجاج في العصور المتأخرة على الاستنكار ، والمعارضة  .
 وقد تكرر لفظ ( الحج ) و ( حاجّ ) ومشتقاته في القرآن الكريم (33) مرة بلفظ (حجّ)       و (الحج) و (حاجّ) ومنها قوله تعالى : (هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أي جادلتم   ، ومن هنا فالمعنى المعاصر له أصل في اللغة العربية ، واستعمالات القرآن الكريم ـ كما رأينا ـ .

 والخلاصة أن ما ذكر هو وسائل جماعية ، أو جماهيرية للتعبير عن الرضا ، أو السخط عن تصرفات الدولة ( رئاسة ووزراء ومسؤولين ) أو الشركات والمؤسسات الخاصة .

آراء المعاصرين في المظاهرات ونحوها :

 فقد ذكرنا بإيجاز التعريف بالمظاهرات ونحوها فوجدناها وسائل جماهيرية جديدة للتعبير عن الرضا ، أو السخط عن تصرفات الدولة ، أو الحزب ، أو الشركة ، أو نحوها ..
ومن هنا فالسؤال الذي يطرح نفسه هو : هل هذه المظاهرات السلمية مشروعة في الإسلام ؟

آراء المعاصرين :
اختلف المعاصرون في هذه المسألة ـ من حيث المبدأ والجملة ـ على رأيين:

الرأي الأول : المنع والحظر .
 ذهب جماعة من المعاصرين معظمهم من هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية ، منهم : الشيخ ابن باز ، والشيخ ابن عثيمين رحمهما الله ، والدكتور صالح بن فوزان الفوزان ، والشيخ صالح بن علي بن غصون ، والشيخ عبدالعزيز آل الشيخ مفتي المملكة العربية السعودية ، وذهب كذلك الشيخ الألباني رحمه الله إلى حرمة المظاهرات ضد الحكومات في عالمنا الإسلامي  .

ملحوظة :
 ومن الإنصاف أن أبين بأن فتوى العلامة الشيخ ابن باز ، وفتوى العلامة الشيخ ابن عثيمين رحمهما الله ، كانتا في أعقاب مظاهرات حجاج إيرانيين أثناء مناسك الحج في العام 1412هـ ، وبالتالي فإن تنزيلهما على المظاهرات التي حدثت في تونس ، أو في مصر يكون غير دقيق في نظري ، لأن لازم المذهب ليس بمذهب ، وأن الظروف والملابسات والوسائل والغايات والمقاصد التي أحاطت بفتواهما السابقة غير متطابقة تماماً مع الظروف والملابسات والأحوال والمقاصد والوسائل التي أحاطت بالمظاهرات الأخيرة .

 كذلك نُبين من باب الانصاف : أن فتوى هيئة كبار العلماء خصصت الحرمة بالمملكة العربية السعودية حيث ذكرت أن أولياء أمورها ملتزمون بأحكام الشريعة والحفاظ على الهوية الإسلامية ، حيث قالت : (وبما أن المملكة العربية السعودية قائمة على الكتاب والسنة ، والبيعة ، ولزوم الجماعة والطاعة فإن الإصلاح والنصيحة فيها لا تكون بالمظاهرات والوسائل التي تثير الفتن وتفرق الجماعة …… والهيئة إذ تؤكد على حرمة المظاهرات في هذه البلاد فإن الأسلوب الشرعي الذي يحقق المصلحة ولا يكون معه مفسدة هو المناصحة….. )  .
 وقال الدكتور ناصر العمر : المظاهرات في السعودية محرمة بسبب المفاسد ، مضيفاً : (نرى عدم صلاحية تطبيق المظاهرات في كل البلدان ، وذلك لاختلاف كل بلد عن غيره ) .

أدلة المانعين :

استدل معظم هؤلاء الفُضَلاء بمجموعة من الأدلة يمكن تلخيصها فيما يأتي :

الدليل الأول : أن هذه المظاهرات بدعة مستحدثة لم تكن معروفة في عصر الرسول صلى الله عليه  وسلم ولا في عصر الخلفاء الراشدين والصحابة الكرام .
 وبما أن المظاهرات تدخل في وسائل الدعوة فيجب أن تكون مما ورد فيه دليل معتبر ، وذلك لأن وسائل الدعوة توقيفية فلا يجوز إحداث وسائل جديدة فيها بغير دليل ، وهذا ( هو مسلك يميل إليه الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ في كثير من المسائل ، ومنها مسألة المظاهرات ، ويوافقه كثير من تلامذته )  .

ويمكن أن يناقش هذا الدليل بما يأتي :
أولاً ـ لا نسلم أن وسائل الدعوة تعبدية توقيفية ، لأن كون الشي توقيفياً محصور في الشعائر التعبدية مثل الصلاة ، ومقادير الزكاة ، ومناسك الحج ، والصيام ، وأما المعاملات والعادات فالأصل فيها الاباحة ، وأنها معللة بعلل وحكم واضحات ، ولذلك فإن وسائل الدعوة هي وسائل للتعبير عن التبليغ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهي غير توقيفية ، بل مرتبطة بمقاصدها ، وهي التبليغ ، كما هو الحال في كثير من الوسائل والأدوات المستعملة اليوم في الدعوة والتبليغ .

ثانياً ـ ولو سلم ذلك لما سلّمنا بعدم وجود دليل وأصل على عمومية وسائل الدعوة لكل وسيلة قديمة وجديدة مشروعة ، حيث توجد أدلة معتبرة من الكتاب والسنة على وجوب البيان والتبليغ مطلقاً فقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)  وقال تعالى : (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ)   ، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : ( بلغوا عني ولو آية)  .

الدليل الثاني : هو أن هذه المظاهرات أخذت من الكفار ولم تكن معروفة في العصور الإسلامية الأولى ، وبالتالي فإنها تَشَبُّه بالكفار ، وهو منهيّ عنه محرم  .

 ويمكن أن يُجاب عن هذا الدليل بأن التشبه بالكفار إنما يكون محرماً إذا كان التشبه خاصاً بالجانب الديني ، أو مقصوداً به الكفر  ، ولذلك جاءت فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء برئاسة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز رحمه الله ، مبينة ما يدخل في المحرمات في هذا المجال : ( ثانياً : ما كان من ذلك مقصوداً به التنسك والتقرب ، أو التعظيم كسباً للأجر ، أو كان فيه تشبه بأهل الجاهلية ، أو نحوهم من طوائف الكفار فهو بدعة محدثة…. ) ، ثم صرحت الفتوى بوضوع بأن : ( ما كان المقصود تعظيم الأعمال مثلاً لمصحلة الأمة ، وضبط أمورها كأسبوع المرور ، وتنظيم مواعيد الدراسة ، والاجتماع بالموظفين للعميل ونحو ذلك مما لا يفضي إلى التقرب به ، والعبادة ، والتعظيم بالأصالة فهو من البدع العادية التي لا يشملها قوله صلى الله عليه وسلم : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ )  .
 
 ولأجل ذلك لم نسمع من أحد علماء المملكة العربية السعودية أنه يقول بحرمة اليوم الوطني للمملكة ، أو لغيرها ، أو أسبوع المرور ، ونحو ذلك .
 وبناءً على ذلك فإن المظاهرات هي تعبير عن الاستنكار عن شيء محرم ، أو عن الرضا عن شيء نافع فلا يراد بها التعبد ، ولا التقرب ، ولا التعظيم ، وإنما يراد بها توصيل رسالة جماعية ، أو شعبية إلى الحكومة ، أو الجهة المعنية ، فلا يمكن وصفها بأنها بدعة محرمة ، أو أنها تَشَبُّه بالكفار ، بل هي وسيلة للتعبير عما يريده الإنسان ، وبالتالي تكون معتبرة بنتائجها وغاياتها ومقاصدها .

الدليل الثالث : أن المظاهرات فتنة من الفتن التي تؤدي إلى الفرقة بين المسلمين ، وتمزيق كلمتهم ، ومن المعلوم أن إثارة الفتنة محرمة بالاجماع ، وبالأدلة المعتبرة من الكتاب والسنة ، منها قوله تعالى :       ( وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ )   .

ويمكن أن يناقش هذا الدليل من عدة وجوه :

الوجه الأول : أن لفظ ” الفتنة ” قد تكرر في القرآن الكريم ، ولها معان كثيرة ، يقول الأصفهاني  : (أصل الفتن إدخال الذهب النار ، لتظهر جودته من رداءته ) ثم ذكر بأنه استعمل في القرآن الكريم بمعنى العذاب ، وسبب دخول النار ، والاختبار ، الامتحان بالخير والشر ، ثم قال : ( والفتنة من الأفعال التي تكون من الله ، ومن العبد ، كالبليّة والمصيبة ، والقتل ، والعذاب … ، ومتى كان من الله يكون على وجه الحكمة ، ومتى كان من الإنسان … يكون بضدّ ذلك ، ولهذا يذم الله تعالى الإنسان بأنواع الفتنة في كل مكان ـ أي إذا كانت منه ـ ، نحو قوله تعالى : ( وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ )   ، وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ)  .

الوجه الثاني : أن المراد بالفتنة هي الفتنة في الدين وأن الآية الكريمة التي استشهد بها المانعون هو في ما كان المشركون يقومون به من وسائل الايذاء والتعذيب للمؤمنين المستضعفين لارجاعهم عن دينهم أي فتنتهم في الدين ، أو ما كان يقوم به المنافقون من الوسائل المؤدية إلى الفتنة في الدين .
 فقد ذكر الطبري في تفسير قوله تعالى : ( وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ )    أي : ( والشرك بالله أشد من القتل ، وقد بينت فيما مضى أن أصل الفتنة الابتلاء والاختبار ، فتأويل الكلام : وابتلاء المؤمن في دينه حتى يرجع عنه فيصير مشركاً بالله من بعد إسلامه أشدّ عليه وأضرّ) ثم نقل روايات كثيرة تؤيد هذا المعنى  .
 وقد فسّر قوله تعالى : (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ)  أي : حتى لا يكون شرك بالله  ، فالفتنة هي ما يؤدي إلى الشرك بالله تعالى خوفاً ، بأن يطغى المشركون على المؤمنين فيفتنونهم عن دينهم كما فعلوا مع عمار بن ياسر ، وكما فعلوا مع المستضعفين بمكة المكرمة .
 وفسر علماء التفسير من السلف الفتنة في قوله تعالى : (يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)   بالشرك بالله تعالى  ، وقالوا في قوله تعالى : (فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)  أي لا تسلط الظالمين علينا فيزدادوا فتنة فيظلمونا ويفتنونا في ديننا  .
 وجاء في تفسير القرطبي في تفسير قوله تعالى : (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ)   : ( قال ابن عباس ، وقتادة ، والربيع ، والسّدي ، وغيرهم : الفتنة هنا : الشرك ، وما تبعه من أذى المؤمنين )  بل إن القرطبي ذكر أقوالاً في مجال الفتنة يظهر منها بوضوح : أن الفتنة تقع عندما يسكت المسلمون عن ظلم الظالم المفسد الذي ( سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ)  حيث قال : ( وهذا لأن النفاق يؤدي إلى تفريق الكلمة ، ووقع القتال ، وفيه هلاك الخلق … وهذا عبارة عن إيقاع الفتنة والتضريب بين الناس )  .
 وبناءً على ذلك فليست المظاهرات السلمية بضوابطها من الفتنة المحرمة ، ولا داخلة في الآية التي استشهد بها هؤلاء المانعون ، والله أعلم .

الدليل الرابع : أن المظاهرات لا تخلو من المفاسد والمحظورات الآتية :
1- السب والشتم واستعمال الكلمات البذيئة ، والهمز واللمز ، وهذه ليست من صفات المؤمنين المتقين .
2- حمل شعارات مخالفة للإسلام .
3- إتلاف بعض المال العام ، أو الخاص .
4- الاختلاط بين الرجال والنساء .
5- خروج النساء من البيت الذي خالف القرار في البيت ، وارتفاع صوت النساء .
6- تضييع الصلوات مطلقاً ، أو في جماعة .
7- اندساس بعض المخربين الذي يتعمدون التخريب  .
8- القتل والسجن ، والتعذيب الذي يترتب على هذه المظاهرات من قبل قوات الأمن والشرطة ، وبالتالي فإنها مؤدية إلى الفساد .
9- أنها غير مضمونة العواقب ، حيث قد تنجح ، وقد تفشل تاركة وراءها عدداً من القتلى والجرحى ، بالإضافة إلى التنكيل والآثار السلبية على الشعب من قبل النظام وأجهزته الأمنية.

ويمكن أن يُجاب عن هذا الدليل بما يأتي :

(أ) إن نقاشنا إنما هو حول المظاهرات السلمية التي تخلو من المحظورات الشرعية ، فالمسألة هي : هل المظاهرات السلمية مشروعة ؟ وبالتالي فقد سقطت هذه الذرائع وبالتالي لم يعد هذا الدليل وراداً في محله.

(ب) ومن جانب آخر فإن هذه المخالفات لو وجدت فهي فردية يتحمل مرتكبوها وحدهم إثمها دون الجماهير الكبيرة التي لا يقصدون وراء المظاهرة ارتكاب المحظورات الشرعية ، وإلاّ فلو أرادوا ذلك فقد خرجت عن موضوعنا المناقش فيه .
 
(ج) ان بعض ما سمي بالمحظورات ليس بلازم ، فمثلاً أن تضييع الصلوات مطلقاً أو مع الجماعة ليس بلازم ، بل رأينا حرص المتظاهرين بمصر على أدائها بالجماعة ، بل رأينا لأول مرة جمعة يحضرها ملايين في مظهر مهيب يعيد للإسلام والمسلمين هيبتهم ، ويذكرهم بوحدة المشاعر والشعائر .
 وأما مواجهة هذه المظاهرات من قبل النظام الحاكم بإطلاق الرصاص والغازات المسيلة ، أو السامة فهذه المسؤولية تقع على النظام نفسه ، فهذه النتيجة لا يجوز لها أن تمنع المسلمين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والساعين للتغيير إلى الأحسن عن كل ما من شأنه التغيير ، فهذا أمر مقرر في الشريعة بأن هؤلاء يواجهون بكل أساليب الردع والقمع ، ولذلك يذكر القرآن الكريم الصبر مع الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر والتواصي بالحق فقال تعالى : ( وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ )   وقال تعالى : ( وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)   .
 بل إن من يواجه الحاكم الظالم فيأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر فيقتله فهو سيد الشهداء كما ورد بذلك الحديث الذي رواه أبو داود ، والحاكم وغيرهما ، بسندهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله )  .

الدليل الخامس : إن المظاهرات الشعبية خروج على الحاكم ، وهذا غير جائز إلاّ في حالة ظهور الكفر الصريح من الحاكم ، حيث دلّ على حرمة الخروج الخروج أدلة كثيرة ، منها :

أ ـ الآيات الآمرة بطاعة أولي الأمر ، مثل قوله تعالى : (يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرّسُولَ وَأُوْلِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)  .

ب ـ ومنها الأحاديث المانعة من الخروج إلاّ بحق ، منها ما رواه عبادة بن الصامت قال : ( دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه ، فقال : فيما أخذ  علينا : أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا ، وعسرنا ، ويسرنا ، وأَثَرَةً علينا ، وأن لا نُنازع الأمر أهله إلاّ أن  تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان )  وفي رواية قال الصحابة : ( ألا نقاتهلم ـ أي الأمراء الذين خالفوا ـ قال صلى الله عليه وسلم : ( لا . ما صلوا )   وفي رواية عن حذيفة بن اليمان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :  ( تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع )  .

والجواب عن ذلك فيما يأتي :
1- أن هذه الطاعة ليست مطلقة بالاجماع ، وإنما مقيدة بما ليس بمعصية حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلاّ أن يؤمر بمعصية ، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة )  .

2- إن حديث حذيفة الأخير ليس من أحاديث الأصول لدى الإمام مسلم ، وإنما من المتابعات ، بل ضعفه الإمام الدارقطني وغيره  ولو صيح يحمل على الحالات الفردية ، أو الحالات التي يترتب على عدم السمع والطاعة فتنة أكبر دون تحقيق مصلحة معتبرة .

3- أن المظاهرات الشعبية أو الثورات السلمية الحالية لا تعتبر خروجاً على الحاكم ، وإنّما تدخل ضمن محاولات التغيير والاصلاح والنصيحة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ كما سيأتي ـ إلاّ في حالات خروج الحاكم عن الاسلام وكفره ، فهذا أمر محل إجماع ولكنه ليس محل بحثنا ، غير أنه يثور التساؤل حول مدى دخول التشريعات المتعارضة مع أحكام الشريعة في هذا الباب أم لا ؟ وهذا الموضوع يحتاج إلى بحث آخر غير بحثنا هذا .
 
4- ثم إن الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر من المؤمنين الذين يهمهم أمرهم فعلاً  ويسعون لتحقيق الخير لهم ، فهل هؤلاء الظلمة الذين منعوا الدعاة من تبليغ الإسلام وزجوا بهم في السجون وقتلوا منهم من قتل ، وأصدروا قوانين مخالفة تماماً لشرع الله تعالى ، ومنعوا بعض الأحكام الشرعية يدخلون في ( أولي الأمر منكم )؟.
 فهذا زين العابدين بن علي رئيس تونس لمدة (30) سنة منع الحجاب ، بل منع المحجبات من حق العلاج ونحوه ، وفتح أبواب الفساد والخمور على مصراعيها ، وأصدر قوانين متعارضة منها قانون منع تعدد الزوجات وسحن المتعدد ، مع إجازة الفواحش ما دامت بالرضا ، وطرد الإسلاميين ، وعذبهم وسجنهم ، وسرق من أموال  الشعب عشرات المليارات وقام بالجرائم الكبرى كما تكشفه محاكمته ، فهل يدخل هذا في     ( أولي الأمر منكم ) ؟.
 وذلك حسني مبارك الذي يكفي أن الصهاينة سموه ( كنز اسرائيل الاستراتيجي ) كما كشفت ذلك بعض الوثائق ، وأنه كان يبيع الغاز المصري لاسرائيل بأقل من الثلث من قيمته الحقيقية ، وأبقى قانون الطوارئ يعمل ضد الإسلام والمسلمين حوالي (32) سنة ، وزيف إرادة الشعب ، وسرق أموال الشعب بالمليارات ، وجمع حوله بلطجية المال والفساد ، فنهبوا جميعاً مقدرات الشعب ، فهل يدخل هؤلاء في   ( أولي الأمر منكم ) ؟. 
 وهكذا معظم هؤلاء الظلمة من الحكام المستبدين الذي قاموا بانقلابات عسكرية وجاؤوا باسم تحرير فلسطين والقضاء على الفساد ، وتحقيق الرفاهية للشعب ، ولكن في ظل حكمهم احتلت بقية أجزاء فلسطين إضافة إلى سيناء وجولان ناهيك عن القدس وغزة والضفة ، وازداد الفقر والمجاعة والتخلف ، واستشرى الفساد في كل مرافق الدولة ، فهل ما زالوا تجب طاعتهم وطاعة أبنائهم إلى                يوم القيامة ؟ ! ! ! !
 إن واجب العلماء هو الصدع بالحق ، والنصيحة للأئمة والعامة بالحكمة ، ومواجهة الباطل والظلم والعدوان ، فإن وظيفتهم هي الوراثة عن الأنبياء في البيان والتبليغ ، والصبر على الأذى فقال تعالى : فلا يجوز لهم أبداً أن يقفوا مع الباطل ومع الظلمة يبررون لهم فعلتهم ويؤصلون الذل والصبر على الظلم ، ويستشهدون ببعض الأحاديث الخاصة بظروف معينة تاركين أحاديث التغيير ومنع الظلم بكل الوسائل المتاحة ـ كما سبق ـ.

الرأي الثاني : المجيزون : 
وهم جمهور العلماء المعاصرين من معظم العالم الإسلامي ، ومن أشهرهم فضيلة العلامة الشيخ يوسف القرضاوي حفظه الله ، حيث دافع عن هذا الرأي نظرياً ، وشارك في مناصرة المتظاهرين بتونس ، ومصر ، وليبيا ، واليمن وسوريا مناصرة كبيرة .
 وقد استدل على جوازها بأدلة معتبرة في فتواه المنشورة في موقع الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين بتأريخ 6/4/2011م ، وردّ على مَنْ قال : ( إنها بدعة ) بأن البدعة الممنوعة لا تكون في العادات والمعاملات ، وإنما هي خاصة بالشعائر التعبدية ، وأما العادات والمعاملات فالأصل فيها الاباحة ، حيث أطال في ذلك النفس .
 واستدل كذلك بأن تغيير المنكر والفحشاء والظلم والاستبداد واجب ، وأن الفرد وحده غير قادر على ذلك ، كما أن صوته لا يسمع في الغالب ، بل لا يصل  إلى هؤلاء المستبدين ، ولكن صوت الجماعة من خلال المظاهرات مسموع ، وحينئذ يدخل في القاعدة الفقهية القاضية بأن ما لا يتم الواجب إلاّ به فهو واجب ، بالاضافة إلى الآيات والأحاديث الدالة على وجوب التعاون على البر والتقوى وإزالة المظالم ، وردّ الحقوق .

تحرير محل النزاع مع الترجيح :

 وقبل أن أذكر الرأي الراجح أقوم بتحرير محل النزاع حتى يكون الخلاف محدداً ، والرؤية واضحة ، ولا يقع خلط أو تلبيس ، من خلال ما يأتي :

أولاً ـ أننا نقصد بالمظاهرات المشروعة التي نُرجحها : أن تتوافر فيها الشروط والضوابط الآتية :

1- المظاهرات السلمية التي يتجرد أصحابها عن الأسلحة ، وإن واجهتها الحكومة بالأسلحة ظلماً وعدواناً ، فهذا لا يخرجها عن السلمية  ، أما الخروج المسلح على الحكومة فهذا أمر آخر ليس محل بحثنا هذا .

2- المظاهرات التي تُقام ، أو تنشأ بسبب وجود مظالم على العباد والبلاد ، أو على فئة معينة ، أو بسبب قيام الدولة بسنّ تشريعات وقوانين متعارضة مع أحكام الشريعة ، كإباحة الربا ، والخمور ، والفسق والفجور ، أو بسبب تقصير الدولة في تحقيق المعروف أو في تشجيع الفحشاء والمنكر ، والبغي ، أو بسبب تقصيرها في تحقيق التنمية الشاملة ، ومكافحة الفقر والبطالة ، أو بسبب تسببها في التضخم ورفع الأسعار ، والاحتكار وغير ذلك من المفاسد والمضار التي تتعلق بالأمة ، أو الشعب ، أو الاقليم ، أو أهل صنعة أو نحو ذلك .
 ومن التقصير ، بل من المنكر أيضاً تقاعس الدولة عن القيام بواجبها نحو قضايا أمتها مثل قضية فلسطين ، ونحوها ، ناهيك عن الاضرار بها ، وأما ولاء النصرة للمحتلين وأعداء الأمة والدين من دون المؤمنين ، بحيث تساعد الدولة أعداء الدين المعتدين بأي دعم أو مساعدة ضد المسلمين المظلومين فهو من الكبائر قطعاً ، بل قد تصل في بعض صوره إلى الكفر البواح .
 ومن هنا فإن أي مظاهرة ضد الحكومة أو الشركة ، أو نحوهما إذا لم يكن لها سبب مشروع ، فليست مشروعة لما يترتب عليها من مفاسد دون مبرر مشروع .

3- المظاهرات التي لها مقاصد مشروعة مثل رفع الظلم والعدوان ، ومنع الفواحش والمنكرات ، وتحقيق الخير والتنمية الشاملة ، والانصاف ، ومكافحة الأمية ، والفقر ، والتضخم ، والبطالة ، وبعبارة موجزة لا بدّ أن تكون للمظاهرة مقاصد مشروعة ، وغايات مرجوة ، وأهداف منشودة .
 أما المظاهرة بدون هدف مشروع بل لأجل المظاهرة ، أو لأجل مآرب شخصية أو حزبية فليست من هذه المظاهرة التي نتحدث عن حكمها في هذا البحث .

4- أننا نقصد بالمظاهرات المشروعة : المظاهرات  التي لا يقصد من خلالها ارتكاب المحظورات الشرعية المتفق عليها ، ولا يصاحبها أصالة فعل المحرمات الثابتة .

ثانياً ـ التأصيل الدقيق للمظاهرات السلمية :
 إن المظاهرات السلمية ليست خروجاً على الحاكم ، أو السلطة ، وإنما لها ثلاث حالات ، او مراحل ، وهي :

الحالة الأولى : أن تكون المطالبة بإصلاح النظام فقط سواء كان إصلاحاً شاملاً ، أو لبعض الجوانب ، فهذا أمر مشروع ، بل مطلوب داخل في باب المناصحة لأولياء الأمور ، ومن باب التواصي بالحق ، ولا يدخل في باب الخروج على الحاكم قطعاً .

الحالة الثانية : أن تبدأ المظاهرات الشعبية العارمة مطالبة بالإصلاحات ، ثم لا يستجيب لها الحاكم ، وإنما يواجهها بالعنف والقتل والضرب والتعذيب ، كما رأينا ذلك في تونس ، ومصر ، واليمن ، وسوريا ، وليبيا ، ففي هذه الحالات تتغير المطالبة إلى التغيير وإسقاط نظام الحكم ، وهذا أيضاً أمر مشروع ، لسبيين :

السبب الأول : أن الشعب هم في نظر الإسلام أهل الحل والعقد على سبيل الحقيقة ، فإذا طالب جميعهم ، أو جماهيرهم العظمى بالحل وفسخ العقد ، فهذا حق لهم كما أن لهم الحق في العقد والبيعة .

السبب الثاني : أن مقاصد الشريعة في نصب الحكام هي الحفاظ على مصالح البلاد والعباد ، والحفاظ على الضروريات الست ، والوطن ، فإذا عكس الحاكم ذلك المقصد فبدأ بالفساد والإفساد ، والقتل والتعذيب فقد فَقَدَ شرعيته ، وأصبح بلا غطاء شرعي ولا شعبي .
 ثم إن هذه المطالبة ليست خروجاً على الحكم ، وإنما استعمال الشعب حقه الذي منحه الها تعالى .

الحالة الثالثة : أن تبدأ المظاهرات من بدايتها بالمطالبة بإسقاط النظام .
وهنا ننظر في هذه المسألة :

أ ـ فإن كانت أسباب المظاهرة مشروعة حيث توجد المظالم الحقيقية العامة ، أو الفساد في الأموال العامة ، أو التقصير البيّن في حقوق الأمة ، أو المخالفة لشروط العهد ( الدستور ) الذي نظم العلاقة بين الشعب والحاكم فإن تلك المطالبة تدخل ضمن الحقوق المشروعة للشعب صاحب حق العقد والحل وحينئذ إذا كانت المظاهرة تمثل غالبية الشعب المصرة على التغيير فيجب على الحاكم أن يستجيب لهذه المطالب المشروعة عن طريق الحوار والمفاوضات حتى لا يترتب على ذلك ضرر كبير ، وقد قال القاضي عياض : ( فلو طرأ عليه ـ أي على الإمام ـ كفر ، وتغيير للشرع …. خرج عن حكم الولاية ، وسقطت طاعته ، ووجب على المسلمين  القيام عليه ، وخلعه ، ونصب إمام عادل إن أمكنهم ذلك ، فإن لم يقع ذلك إلاّ لطائفة وجب عليهم القيام وخلع الكافر ، ولا يجب في المبتدع إلاّ إذا ظنوا القدرة عليه )  .

ب ـ أما إذا كانت أسباب المظاهرات غير مشروعة فهي غير جائزة ، ويجب على الحكومة أن توضح هذه المسائل وتكشف زيف الأسباب الموهومة لمظاهرتهم عن طريق الحوار ، وأهل العلم ، كما حدث مثل ذلك في أيام الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، حيث قامت ضده الخوارج لأسباب غير مقبولة شرعاً ، فأرسل إليهم ابن عباس رضي الله عنهما ، فناقشهم وفَنّد آراءهم ، فتراجع منهم خلق كثير ، كما هو معروف .
 كما يجب على الحكومة أن تُحَسّن من أدائها وأن تكون واسعة الصدر ، وتسمح لكل ما يقولون فإن كان فيه حق تنفذه ، وإلاّ فالحوار ، ثم الأمر بفض المظاهرة .

ثالثاً ـ إن معظم التشدد يأتي من دائرة التوسع في دائرة البدعة المحرمة ، مع أن التحقيق يقتضي أن لا نعطي لها حجماً أكبر ، ولا وزناً أثقل من وزنها ، كما لا ينبغي ، بل لا يجوز أن توسع دائرة البدعة المحرمة لتشمل كل شيء جديد ، وحينئذ تتوقف الحياة عن الحركة والتطوير ، وبالتالي فلا يتناسب مع صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان ، ولذلك حصر العلماء الاثبات لمعناها قديماً وحديثاً في ( إحداث شعيرة تعبدية قولية ، أو فعلية ، أو عقدية لم يشرعها الله تعالى ) . 
 يقول الامام الشاطبي : ( فالبدعة إذن عبارة عن طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشريعة ، يقصد بالسلوك عليها : المبالغة في التعبد لله سبحانه ) ثم قال : ( وإنما قيدت بالدين ؛ لأنها لو كانت طريقة مخترعة في الدنيا على الخصوص لم تُسمّ بدعة كإحداث الصنائع … )  .
 وقد أكد معظم المفسرين هذا المعنى السابق ، ولذلك لم يجعلوا الهيئات الخاصة بالعمائم والملابس ، وما يقوم على العادات والأعراف من البدع ، بل جعلوا ما فيه من المصالح معتبراً بالأدلة العامة  .
 وبالإضافة لذلك فإن ما له أصل عام في الدين لا يدخل في البدعة ، وهذا ما فهمه الفاروق حيث روى البخاري وغيره بسنده عن عبدالرحمن بن عبدالقاريّ أنه قال : ( خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون ، يصلي الرجل لنفسه ، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط ، فقال عمر :  إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل ، ثم عزم فجمعهم على أبيّ بن كعب ، ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم ، قال عمر : نِعْمَ البدعة هذه …….)  .
 

أخذت البدعةُ حجماً أكبر ؟
أ ـ ولو نظرنا إلى حجم ما كتب عن البدعة على الرغم من أهميتها قديماً وحديثاً ، وما جرى فيه خلاف لتوصلنا إلى أنه أعطى لها حجم أكبر مما تستحق ، فعلى سبيل المثال فإن الكلام عن البدعة في ( المرجع الأكبر للتراث الإسلامي ) قد تكرر ( 5509 ) مرة ، وتكرر في فتاوى بعض المعاصرين آلاف المرات ، وكان يكفي أن يحسم هذا الخلاف بالفرق بين إحداث البدعة في العقائد ، والشعائر ، وفي العبادات المحضة بالزيادة أو النقصان ، أو بتغيير صورتها الشرعية بدون دليل ، وبين الإبداع في أمور الدنيا الذي هو من المطلوبات بل من الواجبات للنهوض بالأمة .

ب ـ ويبقى بينهما أمر ثالث في غاية من الأهمية يمكن أن يكون محل النزاع هو أن الخروج من البدعة في الدين ( العبادات الشعائرية ) هل يتحقق بوجود أصل عام أم لا بدّ من دليل خاص ؟ ، وهذا محل نظر واختلاف يسع الطرفين ، وأن الراجح هو أن ما يوجد له أصل عام معتبر من الأدلة لا يدخل في البدعة المحرمة ، وإنما يدخل في البدعة الحسنة كما قال الفاروق الخليفة الراشد في جمع الناس جميعاً على إمام واحد ، والصلاة بهم ثلاثاً وعشرين ركعة (نعمت البدعة هذه) .

ج ـ ومن جانب آخر نرى ما رآه المحققون من أن الأمور الخلافية الاجتهادية التي قال بها بعض العلماء الثقات خارجة من دائرة البدعة ، وأنه لا يجوز تسمية ذلك بالخلاف ما دام قال به أحد الأئمة الأعلام ، فإذا كانت قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا ترد فيما اختلف فيه الأئمة الأعلام ، فكيف يوصف اجتهاد واحد منهم بالدعة ؟
وسيأتي لهذا مزيد تفصيل .

د ـ ومما وقع في هذه المسألة إشكال آخر وهو أن الموسعين في دائرة  البدعة جعلوا قضية البدعة بين الحق والباطل ، والهداية والضلال ، والصواب والخطأ المبين ، وفي بعض الأحيان يصل الأمر عند بعضهم إلى الحكم بالكفر والخروج عن الملة لمرتكب البدعة .
 مع أن الصواب هو أن البدع مراحل ، منها البدع العقائدية التي هي أخطر بكثير من البدع العملية التي نتحدث عنها .
 إن البدعة قد ثار حولها خلاف كبير ـ كما سبق ـ ومع ذلك فإن تنزيلها على المسائل أصعب بكثير من التحقيق في معناها ، ولذلك اختلف فيها الصحابة والتابعون ، فمثلاً يطلق بعضهم عليها أنه بدعة ، فقد كان ابن عمر رضي الله عنه يعد صلاة الضحى بدعة ، وخالفه في ذلك جماعة من الصحابة الكرام .

هـ ـ سؤال آخر :
 ويرد في مسألة البدعة سؤال ثان ، وهو : هل الاختلاف الفقهي ، والاجتهاد يبعد صفة البدعة عن المختلف فيه ؟
 إن التحقيق يقتضي أن يكون المجتهد فيه خارجاً عن دائرة البدعة ما دام قد قال به أحد العلماء الأثبات ، بل إن ذلك ليس محلاً للإنكار وللآمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند المحققين ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : ( مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ، ولم يُهْجَرْ ، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه )  ونقل في موضوع آخر : (أن العلماء قالوا : إن مثل هذه المسائل الاجتهادية لا تنكر باليد ، وليس لأحد أن يُلزم الناس باتباعه فيها ، ولكن يتكلم فيها بالحجج العلمية ، فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه ، ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه )  .
 ولذلك يجب ـ في نظري ـ أن نُبْعِدَ عن دائرة البدعة مطلقاً ـ حتى في العبادات ، كلّ ما جرى فيه اجتهاد سائغ من أهله ، وهذا ما أكده بعض العلماء المحققين ، يقول الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله : ( أنا أتحرج من أن يكون مخالف السنة على وجه يسوغ فيه الاجتهاد مبتدعاً …. فكوننا نقول : إن هذا مبتدع ، لأنه خالف اجتهادنا هذا ثقيل على الإنسان ، ولا ينبغي للإنسان أن يطلق كلمة ( بدعة ) في مثل هذا ، لأنه يؤدي إلى تبديع الناس بعضهم بعضاً في المسائل الاجتهادية التي يكون الحق فيها محتملاً في هذا القول ، أو ذاك ، فيحصل به من الفرقة ما لا يعمله إلاّ الله )  .
 وهذا كلام نفيس ووجيه بل هو حق ، لأنه بدون ذلك يكون الحكم على معظم الأئمة حتى الصحابة بالابتداع ، وهذا أمر غير مقبول ، فالصحابة ، والتابعون قد اختلفوا في وصف الجهر بالبسملة في الصلاة ، والفقهاء كذلك اختلفوا في القنوت في الفجر ، وصلاة الضحى ، ورفع الأيدي في الدعاء ، وغيرها ، فبعضهم جعلها بدعة ، وبعضهم الآخر جعلها سنة  .
 والعلماء المعاصرون حتى من مدرسة واحدة اختلفوا في عدّ بعض التصرفات بدعة ، أو ليست بدعة ، أو أنها سنة ، فقد ذهب الشيخ ابن باز  وابن جبرين  رحمهما الله ، إلى جواز إقامة مجالس التعزية لاستقابل المعزّين ، في حين ذهب الشيخ محمد بن عثيمين  ، والشيخ الألباني  رحمهما الله ، والشيخ صالح الفوزان  إلى أنها بدعة .
 ومثال آخر : تكرار العمرة في رمضان ، ذهب إلى مشروعيته ، بل استحبابه جمهور العلماء من الحنفية والشافعية والحنابلة ، ومن المعاصرين : ابن باز ، واللجنة الدائمة للبحوث والافتاء ، في حين ذهب إلى كونه بدعة ، الشيخ ابن عثيمين  ( رحمهم الله جميعاً ) ، وكذلك قبض اليدين بعد الرفع من الركوع عدّه الألباني بدعة  في حين أن ابن باز عدّه من السنة  .

الترجيح :
 تبين لنا أن الذين منعوا المظاهرات السلمية مطلقاً ، أو في بعض البلاد دون بعضها اعتمدوا على أنها بدعة ، أو تَشَبُّه بالكفار ، أو أنها فتنة ، أو أنها تشوبها محظورات شرعية ، وقد قمنا بالرد عليها ، أو تحرير محل النزاع فيها ، حيث بيّنا أن المظاهرات المشروعة في نظرنا هي المظاهرات السلمية الخالية عن المحرمات ضد الظلم والطغيان والفساد التي تأتي بعد نفاذ كل المعالجات والمحاولات من النصح والارشاد ، ولكن دون فائدة ، حيث استنفدت كل المحاولات دون جدوى في الإصلاح والتغيير ، أو أن النظام لا يقبل النصح ، أو أن النصح لا يصل إليه ، وحينئذ يكون الوصول إليه عن طريق صوت الجماعة (المظاهرات) .
 فالمظاهرات هي وسيلة يمكن استعمالها في الخير ، وفي الشر ، فهي معتبرة بمآلاتها ومقاصدها ، وقد أثبتت المظاهرات في تونس ومصر أنها حققت معظم أهدافها ولا سيما في إزالة رأس الظلم والطغيان والفساد السياسي والاجتماعي ، والإداري ، والاقتصادي ، والموالاة مع أعداء الإسلام والمسلمين .
 فقد بذلت محاولات جادة خلال عصر الاستبداد والظلم والطغيان في مصر ، وتونس خلال أكثر من نصف قرن فكان جزاء الناصح السجن والتعذيب ، أو القتل ، والتشريد ، والنفي ، وقد زج بالدعاة في السجون وكم أوذوا ، وكم منهم قتلوا أو أعدموا ؟
 ومع ذلك كان النظام ـ مع ظلمه ـ فاسداً متوغلاً فيه ، أخذ من الأموال العامة ما لا يعد ولا يحصى ، ولم يحقق أي خير يذكر لشعبه ـ لا الرفاهية الدنيوية ولا السماح بالدعوة وإعزاز الشريعة ، ولا الانتصار على الأعداء ، بل كان الدعم والولاء لعدونا الص