يقصد بمقاصد المكلفين[1] : نياتهم وغاياتهم ، وأغراضهم ، وأهدافهم التي يفعلون لأجلها ، حيث قد تكون تحقيق العبودية الخالصة لله تعالى ، والخضوع والانقياد لأوامره ، ونواهيه ، والسمع والطاعة لما يطلب منهم ، وتحقيق سعادة الآخرة والدنيا ، وقد تكون تحقيق أهداف دنيوية فقط ، كما أوجزها الحديث النبوي الشريف : ( إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها ، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى  ما هاجر إليه  )[2] .

 

هل المقاصد دليل أو منهج ومسلك ومرآة ومعيار ؟

   الذي يظهر بوضوح أن ” المقاصد ” ليست دليلاً مستقلاً من أدلة الشرع ، ولا مصدراً من مصادره المعتمدة ، وإنما هو مسلك يصاحب جميع الأدلة ، ويحتاج إليه الفقيه في إعمال أي دليل ، ولا يستغني عنه مجتهد في اجتهاده واستنباطه ، وتنزيل الحكم على الواقع ، ولا مفت في فتواه إذا أراد أن يكون اجتهاده صحيحاً ، وترجيحه دقيقاً ، وفتواه صحيحة ، وتنزيلها مطابقاً بين الواجب والواقع .

 

بين المقاصد والاستحسان :

  وتبين لي من خلال دراسة المقاصد والاستحسان ، أن قاعدة : مقاصد الشريعة منهج أصيل لفهم أدلة الشرع ، فهو مثل الاستحسان عند الحنفية[3] من حيث انهم جعلوه المعيار لتحقيق المصالح ولذلك وسعوا دائرته ليكون مع جميع الأدلة ، فمثلاً جعلوا الاستحسان مع الكتاب والسنة عندما تكون مجموعة من الآيات أو الأحاديث تدل على أصل عام ، ثم تأتي آية كريمة أو سنة ثابتة فتستثني شيئاً أو حالة ، وتثبت لها حكماً سهلاً يحتاج إليه عامة الناس ، حيث يسمى هذا الحكم الأخير المستثنى : استحساناً بالكتاب ، أو بالسنة ، وهكذا الأمر بالنسبة للإجماع ، والقياس ، وأقوال الصحابة ونحوها ، والمالكية أيضاً اعتمدوه من خلال الاستصلاح ، فقد ذكر الشاطبي كلاماً رائعاً في هذا المجال حيث قال : ( ومما ينبني على هذا الأصل ، قاعدة : الاستحسان ، وهو ـ في مذهب مالك ـ الأخذ بمصلحة جزئية في مقابلة دليل كلي ، ومقتضاه الرجوع إلى تقديم الاستدلال المرسل على القياس ، فإن من استحسن لم يرجع إلى مجرد ذوقه وتشهيه ، وإنما رجع إلى ما علم من قصد الشارع في الجملة في أمثال تلك الأشياء المفروضة ، كالمسائل التي تقتضي القياس ( أي القاعدة العامة ) فيها أمراً إلاّ أن ذلك الأمر يؤدي إلى فوت مصلحة من جهة أخرى ، أو جلب مصلحة كذلك ، وكثير ما يتفق هذا في الأصل الضروري مع الحاجي ، والحاجي مع التكميلي ، فيكون إجراء القياس مطلقاً في الضروري يؤدي إلى حرج ومشقة في بعض موارده ، فيستثنى موضع الحرج  ، وكذلك في الحاجي مع التكميلي أو الضروري مع التكميلي وهو ظاهر .

  وله في الشرع أمثلة كثيرة كالقرض مثلا فإنه ربا في الأصل لأنه الدرهم بالدرهم إلى أجل ولكنه أبيح لما فيه من الرفقة والتوسعة على المحتاجين بحيث لو بقي على أصل المنع لكان في ذلك ضيق على المكلفين ومثله بيع العرية بخرصها تمرا فإنه بيع الرطب باليابس لكنه أبيح لما فيه من الرفق ورفع الحرج بالنسبة إلى المعري والمعرى ولو امتنع مطلقا لكان وسيلة لمنع الاعراء كما أن ربا النسيئة لو امتنع في القرض لامتنع أصل الرفق من هذا الوجه ومثله الجمع بين المغرب والعشاء للمطر وجمع المسافر وقصر الصلاة والفطر في السفر الطويل وصلاة الخوف وسائر الترخصات التي على هذا السبيل فإن حقيقتها ترجع إلى اعتبار المآل في تحصيل المصالح أو درء المفاسد على الخصوص حيث كان الدليل العام يقتضى منع ذلك لأنا لو بقينا مع أصل الدليل العام لأدى إلى رفع ما اقتضاه ذلك الدليل من المصلحة فكان من الواجب رعى ذلك المآل إلى أقصاه ومثله الإطلاع على العورات في التداوي ، والقراض والمساقاة وإن كان الدليل العام يقتضي المنع . وأشياء من هذا القبيل كثيرة .

هذا نمط من الأدلة الدالة على صحة القول بهذه القاعدة وعليها بنى مالك وأصحابه.

وقد قال ابن العربي في تفسير الاستحسان بأنه إيثار ترك مقتضى الدليل على طريق الاستثاء والترخص لمعارضة ما يعارض به في بعض مقتضياته ثم جعله أقساما فمنه ترك الدليل للعرف كرد الأيمان إلى العرف وتركه إلى المصلحة كتضمين الأجير المشترك أو تركه للإجماع كإيجاب الغرم على من قطع ذنب بغلة القاضي وتركه في اليسير لتفاهته لرفع المشقة وإيثار التوسعة على الخلق كإجازة التفاضل اليسير في المراطلة الكثيرة وإجازة بيع وصرف في اليسير وقال في أحكام القرآن الاستحسان عندنا وعند الحنفية هو العمل بأقوى الدليلين فالعموم إذا استمر والقياس إذا اطرد فإن مالكا وأبا حنيفة يريان تخصيص العموم بأي دليل كان من ظاهر أو معنى ويستحسن مالك أن يخص بالمصلحة ويستحسن أبو حنيفة أن يخص بقول الواحد من الصحابة الوارد بخلاف القياس ويريان معا تخصيص القياس ونقض العلة ولا يرى الشافعي لعلة الشرع إذا ثبتت تخصيصا وهذا الذي قال هو نظر في مآلات الأحكام من غير اقتصار على مقتضى الدليل العام والقياس العام .

   وفي المذهب المالكي من هذا المعنى كثيرا جدا وفي العتبيه من سماع أصبغ في الشريكين يطآن الأمة في طهر واحد فتأتي بولد فينكر أحدهما الولد دون الآخر أنه يكشف منكر الولد عن وطئه الذي أقر به فإن كان في صفته ما يمكن فيه الإنزال لم يلتفت إلى إنكاره وكان كما لو اشتركا فيه وإن كان يدعى العزل من الوطء الذي أقر به فقال أصبغ إني أستحسن هنا أن ألحقه بالآخر والقياس أن يكونا سواء فلعله غلب ولا يدري وقد قال عمرو بن العاص في نحو هذا إن الوكاء قد يتفلت قال والاستحسان في العلم قد يكون أغلب من القياس قال وقد سمعت ابن القاسم يقول ويروي عن مالك أنه قال تسعة أعشار العلم الاستحسان .

   فهذا كله يوضح لك أن الاستحسان غير خارج عن مقتضى الأدلة إلا أنه نظر إلى لوازم الأدلة ومآلاتها إذ لو استمر على القياس هنا كان الشريكان بمنزلة ما لو كانا يعزلان أو ينزلان لأن العزل لا حكم له إذ أقر الوطء ولا فرق بين العزل وعدمه في إلحاق الولد لكن الاستحسان ما قال لأن الغالب أن الولد يكون مع الإنزال ولا يكون مع العزل إلا نادرا فأجرى الحكم على الغالب وهو مقتضى ما تقدم فلو لم يعتبر المآل في جريان الدليل لم يفرق بين العزل والإنزال وقد بالغ أصبغ في الاستحسان حتى قال إن المغرق في القياس يكاد يفارق السنة وإن الاستحسان عماد العلم والأدلة المذكورة تعضد ما قال .

   ومن هذا الأصل أيضا تستمد قاعدة أخرى وهى أن الأمور الضرورية أو غيرها من الحاجية أو التكميلية إذا اكتنفتها من خارج أمور لا ترضى شرعا فإن الإقدام على جلب المصالح صحيح على شرط التحفظ بحسب الاستطاعة من غير حرج كالنكاح الذي يلزمه طلب قوت العيال مع ضيق طرق الحلال واتساع أوجه الحرام والشبهات وكثيرا ما يلجئ إلى الدخول في الاكتساب لهم بما لا يجوز ولكنه غير مانع لما يئول إليه التحرز من المفسدة المربية على توقع مفسدة التعرض ولو اعتبر مثل هذا في النكاح في مثل زماننا لأدى إلى إبطال أصله وذلك غير صحيح وكذلك طلب العلم إذا كان في طريقه مناكر يسمعها ويراها وشهود الجنائز وإقامة وظائف شرعية إذا لم يقدر على إقامتها إلا بمشاهدة ما لا يرتضي فلا يخرج هذا العارض تلك الأمور عن أصولها لأنها أصول الدين وقواعد المصالح وهو المفهوم من مقاصد الشارع فيجب فهمها حق الفهم فإنها مثار اختلاف وتنازع وما ينقل عن السلف الصالح مما يخالف ذلك قضايا أعيان لا حجة في مجردها حتى يعقل معناها فتصير إلى موافقة ما تقرر إن شاء الله .

   والحاصل أنه مبني على اعتبار مآلات الأعمال فاعتبارها لازم في كل حكم على الإطلاق والله أعلم )[4] .

 

لكن المقاصد أعم وأشمل :

   وقد نقلت هذا النص بطوله ؛ لأنه يدل بوضوح على موقع الاستحسان من الأدلة  ، لنعلم من خلاله أن قاعدة المقاصد أيضاً مسلك فقهي ، ومنهج دقيق يصاحب جميع الأدلة، فهو      ( غير خارج عن الأدلة ، إلاّ أنه نظر إلى لوازم الأدلة ومآلاتها ) فالمقاصد كما قال : أصبغ في الاستحسان ( عماد العلم ، والأدلة المذكورة … ، وأن اعتبارها لازم في كل حكم على الاطلاق ) كما قال الشاطبي آنفاً.

   بحيث إذا أدّت القواعد العامة ، أو بعض الأدلة الجزئية إلى عدم تحقيق مقاصد الشريعة العامة ، أو الخاصة بالقضية فإن على الفقيه البحث عن استثناء والعدول من القاعدة العامة ، أو الدليل الجزئي إلى المقاصد العامة إما عن طريق التوافق ، أو الترجيح .

  فكما أن الاستحسان يحمي الفقيه المغرق في القياس من مفارقة الأدلة الأخرى والمصالح الضرورية والحاجية للأمة فكذلك قاعدة المقاصد ، أو فقه المقاصد .

  إن أبا حنيفة رحمه الله قد اختار منهجاً رائعاً ، ورائداً نابعاً من فقهه العظيم وفطنته وخبرته يقوم على حماية القواعد العامة والمبادئ الكلية من عيوب التعميم والتنظير وذلك من خلال استثناء الحالات التي لا تحقق المصالح العامة ، أو لا تتفق  مع رفع الحرج والعسر ، وتحقيق اليسر المؤكَدَين أيضاً في هذه الشريعة أيضاً ، أو أنها مستثناة بدليل آخر من هذه القواعد العامة ، حيث سماها أبو حنيفة : بالاستحسان ، وكذلك يقوم هذا المنهج على تفادي بعض عيوب القياس الأصولي عندما يفضي اطراد علته إلى حرج وضيق ، أو إلى عدم تحقق المصالح والمقاصد ، وحينئذ يتدخل الاستحسان فيعطي للمجتهد مجالاً واسعاً لاختيار الأحسن ، فيأخذ بالقياس الخفي الذي يحقق المصالح أو مقاصد الشريعة ، فمثلاً أن من أوقف وقفاً لازماً أرضَه التي لها حقوق ارتفاق دون النص عليها ، ثم مات مثلاً ، فإن أمام المجتهد قياسين : قياساً جلياً وهو قياس الوقف على البيع حيث ان كلاً منهما من العقود الناقلة للملكية عند جمهور الفقهاء ، فعلى ضوء ذلك فإن حقوق الارتفاق لا تلحق بالوقف ، وأما القياس الخفي فهو قياسه على الإجارة ، وحينئذ يشمل حقوق الارتفاق ، لأن الأرض الزراعية لا يستفاد منها إلاّ من خلال حقوق ارتفاقها ، فاستعمل المجتهد الاستحسان ، فوجد أن القياس الأخير أحسن من حيث تحقيقه لمقاصد الشريعة ، ومقاصد المكلف ، فالشريعة تشجع على وقف الأحسن ، والمكلف يريد الثواب الأكبر من خلال النفع الأشمل فيرجح القياس الخفي على القياس الجلي ، وهكذا[5] فالمطلوب بالنسبة للمجتهد أن لا يتسرع بل ينظر إلى الأحسن .

 وقد ضرب أبو الخطاب الحنبلي ببيع العينة : إذا اشترى زيد نسيئة ما باعه لعمرو بأقل مما باع قبل نقد الثمن الأول ، حيث إن القياس يقتضي جوازه ، لأن أركان البيع وشروطه كلها صحيحة في الظاهر ، لكن الاستحسان يقتضي عدم جوازه وعدم صحته ، ثم قال : وحاصله يرجع إلى تخصيص الدليل بدليل أقوى منه في نظر المجتهد[6] ولكن التحقيق أن الاستحسان أعم من ذلك كما سبق .

  والتحقيق أن الاستحسان أيضاً وسيلة من وسائل تحقيق مقاصد الشريعة في المجالين ، فمجال تطبيق القواعد العامة والأصل العام ، ومجال تطبيق القياس الأصولي ، حيث إنه لبالمرصاد فلا يتركهما يطغيان على المقاصد ، والمصالح ، ولذلك طور المالكية هذا المنهج فجعلوه شاملاً للاستصلاح ـ كما سبق ـ .

 غير أن الاستحسان الذي ذكره أبو حنيفة منذ أواخر القرن الأول الهجري وبداية القرن الثاني أخص من المقاصد التي ذكرها إمام الحرمين ، فالغزالي ، فالعز ، فابن تيمية وابن القيم ، ثم فصلها وأصلها الشاطبي .

  ومن هذا الباب فإن النص الصحيح الوارد في النهي عن بيع الغرر[7] يخصص بالحاجة العامة كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : (وإذا كانت مفسدة بيع الغَرَر هي كونه مظنة العداوة والبغضاء وأكل الأموال بالباطل، فمعلوم أن هذه المفسدة إذا عارضتها المصلحة الراجحة قدمت عليها، كما أن السباق بالخيل والسهام والإبل‏.‏ لما كان فيه مصلحة شرعية جاز بالعوض، وإن لم يجز غيره بعوض‏.‏ وكما أن اللهو الذي يلهو به الرجل إذا لم يكن فيه منفعة، فهو باطل، وإن كان فيه منفعة ـ وهو ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ ‏(‏كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل، إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته امرأته، فإنهن من الحق‏)‏ ـ[8] صار هذا اللهو حقًا‏.‏

ومعلوم أن الضرر على الناس بتحريم هذه المعاملات أشد عليهم مما قد يتخوف فيها من تباغض، وأكل مال بالباطل؛ لأن الغرر فيها  يسير كما تقدم، والحاجة اليها ماسة، والحاجة الشديدة يندفع بها يسير الغرر‏.‏ والشريعة جميعها مبنية على أن المفسدة المقتضية للتحريم إذا عارضتها حاجة راجحة أبيح المحرم، فكيف إذا كانت المفسدة منتفية‏؟‏‏!‏ ولهذا لما كانت الحاجة داعية إلى بقاء الثمر بعد البيع على الشجر إلى كمال الصلاح، أباح الشرع ذلك، وقاله جمهور العلماء‏.‏ كما سنقرر قاعدته إن شاء الله تعالى‏ )[9] .‏

ومن هذا الباب استثنى الرسول صلى الله عليه وسلم من بيع الربويات : بيع العرايا لحاجة الناس ، وهي ليست حاجة ملحة ، بل حاجة في أدنى مراتبها ، وهي الحاجة إلى التمر ، أو لدفع ضرر الدخول في البستان ، كما ورد في ذلك الأحاديث الصحيحة[10].

 ومن هذا الباب قاعدة الأصالة والتبعية ، حينما يوجد حرج شديد في تطبيق نصوص شرعية على التابع ، فإنها لا تطبق عليها ، لقاعدة المقاصد مثل تطبيق قاعدة التقابض في المجلس مع التماثل عند اتحاد الجنسين أو دونه عند اختلافهما ، المأخوذة من الأحاديث الصحيحة الدالة على ذلك[11] حيث لا تطبق عند بيع الإنسان جاريته التي معها حلي من الذهب لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( من باع عبداً وله مال فماله للذي باعه إلاّ أن يشترطه المبتاع )[12] حيث يدل بوضوح على أنه لا ينظر في مال العبد الذي معه حتى ولو كان ذهباً أو فضة إلى تطبيق قاعد بيع الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، أو بيع أحدهما بالآخر ، قال ابن القاسم عن مالك : (يجوز أن يشتري العبد وماله بدراهم إلى أجل وإن كان ماله دراهم ، أو دنانير ، أو غير ذلك من العروض )[13] .

  وهذا الحديث أعطانا مؤشراً جيداً لرعاية المقاصد عند التوابع بحيث إذا وجد حرج شديد لا نطبق عليه مقتضى القواعد العامة ، وهذا مستندنا في قولنا : بجواز المساهمة في الشركات التي يكون نشاطها العام حلالاً ، وأهدافها مشروعة ، ولكن الإدارة تتعامل مع البنوك الربوية ، حيث قلنا : بجواز الاكتتاب ، والتداول في أسهمها بضوابط معينة للحاجة العامة ، ورفع الحرج ومراعاة مصالح الملتزمين بأحكام الشريعة وعدم حرمانهم من هذه الشركات المهمة[14] .

  ومن هذا الباب أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها ، وفي لفظ مسلم :  ( لا تبايعوا الثمر حتى يبدو صلاحها ، وتذهب عنه الآفة )[15] ومع ذلك أجاز النبي صلى الله عليه وسلم بيعها تبعاً كما في حديث ابن عمر : ( من باع نخله بعد أن تؤبر فتمرتها للبائع إلاّ أن يشترطها المبتاع )[16] .

  وقد علق ابن تيمية على الحديث السابق بقوله : ( فتبين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم مصلحة جواز البيع الذي يحتاج إليه على مفسدة الغرر اليسير ، كما تقتضيه أصول الحكمة التي بعث بها صلى الله عليه وسلم ، وعلمها أمته ، ومن طرد القياس الذي انعقد في نفسه ، غير ناظر إلى ما يعارض علته من المانع الراجح ، أفسد كثيراً من أمر الدين ، وضاق عليه عقله ودينه )[17] .

  فأبو حنيفة رحمه الله اتبع منهجاً رائداً ورائعاً عندما رأى أن الأحكام التي تسير حسب الأصول العامة والقواعد العامة في الشريعة سماها : القياس ، والأصل ، وعندما رأى دليلاً يدل على الخروج من هذا الأصل العام ( القياس ) لمصلحة الناس ، وحاجتهم ، أو رفع الحرج عنهم سمى ذلك : الاستحسان ، يقول ابن بدران الدمشقي : ( واعلم أن قول الفقهاء : هذا الحكم مستثنى من قاعدة القياس ، أو خارج عن القياس ، أو ثبت على خلاف القياس ، ليس المراد به : أنه تجرد عن مراعاة المصلحة حتى خالف القياس ، وإنما المراد به : أنه عدل به عن نظائره لمصلحة أكمل ، وأخص من مصالح نظائره على جهة الاستحسان الشرعي …)[18].

   ومن هنا فالمقاصد ، أو قاعدة المقاصد هي مسلك فقهي لفهم النصوص والأدلة ، ومعيار لصحة الاجتهاد والفتوى ، ومنهج فقهي قويم لضبط المسائل والجزئيات مع الكليات ، حتى تكون الشريعة كلها ” أصولها  وفروعها ، وكلياتها وجزئياتها ، وسائلها وغاياتها ” على نسق واحد في انسجام تام ، وتناغم كامل ، وهذا هو الميزان الذي أنزله الله تعالى مع كتابه ليقوم الناس بالقسط والعدل ، وهي من جانب آخر : مرآة الفقيه لينظر من خلالها إلى الجزئيات ومدى مطابقتها للكليات ومقاصد الشريعة الكلية .

 يقول الشاطبي : ( الشريعة كلها ترجع إلى قول واحد في فروعها وإن كثر الخلاف ، كما أنها في أصولها كذلك ، ولا يصلح فيها غير ذلك ، والدليل عليه أمور :

أحدها : أدلة القرآن من ذلك قوله تعالى : ( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً)[19] ….. ، وفي القرآن : ( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)[20] وهذه الآية صريحة في رفع التنازع والاختلاف … ولا يرتفع الخلاف إلاّ بالرجوع إلى شيء واحد إذ لو كان فيه ما يقتضي الاختلاف لم في الرجوع إليه رفع تنازع ، وهذا باطل )[21] .

 

جامع الأدلة على ذلك :

   هناك أدلة كثيرة على اعتبار المقاصد ، ولكن جامعها هو أن مقاصد الشريعة في تحقيق المصالح الضرورية والحاجية ، والتحسينية أمر قطعي ، وكلي عام تظافرت عليه الأدلة المعتبرة من الكتاب والسنة ، والمعقول ، بل  عليه الاستقراء التام ، كما يقول الإمام الشاطبي : ( فقد اتفقت الأمة ـ بل سائر الملل ـ على أن الشريعة وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس ، وهي : الدين ، والنفس ، والنسل ، والمال ، والعقل ، وعلمها عند الأمة كالضروري …. ، وبهذا امتازت الأصول من الفروع ، إذ كانت الفروع مستندة إلى آحاد الأدلة ، وإلى مآخذ معينة ، فبقيت على أصلها من الاستناد إلى الظن ، بخلاف الأصول فإنها مأخوذة من استقراء مقتضيات الأدلة بإطلاق ، لا من آحادها على الخصوص )[22] .

 

تطبيقات هذا المنهج على جميع الأدلة بإيجاز :

  1. المقاصد مع القرآن الكريم والسنة النبوية ، حيث هي منهج لفهم المقاصد الشرعية من الآيات والأحاديث ، فيجب أن لا يخرج تفسير القرآن الكريم ، وشرح الأحاديث عن إطار مقاصد الشريعة حتى يكون منسجماً معها[23] ، حيث يقول الشاطبي : ( فإن القرآن والسنة لما كانا عربيين لم ينظر فيهما إلاّ عربي ـ أي من يفهم العربية ـ كما أن من لم يعرف مقاصدهما لم يحل له أن يتكلم فيهما )[24] .

     بل أرجع الشاطبي أسباب الفرق الضالة إلى عدم معرفتهم ، أو عدم عنايتهم بمقاصد الشريعة ، فقال : ( ولعل الفرق الضالة المذكورة في الحديث ، أصل ابتداعها : اتباع أهوائها دون توخي مقاصد الشرع )[25] .

     وكذلك فإن للمقاصد دوراً كبيراً في درء التعارض الذي يظهر بين النصوص ، ثم سرعان ما يزول عند التعمق في المقاصد ، بل إنه لدى التحقيق لا يوجد تعارض حقيقي بين آية قرآنية ، ومقصد شرعي معتبر ، كما أنه لا يوجد التعارض بين المقاصد وبين حديث صحيح سالم عما يقيده ، فإذا وجد فإنه لا بدّ إما أن يكون المقصد غير صحيح ، أو الحديث غير صحيح[26] .

  2. علاقة المقاصد بالأدلة الأخرى ، حيث لها علاقة بالإجماع من حيث إنها شرط في الاجتهاد المشروط في المجمعين[27] ، وأما علاقته بالقياس فعلاقة مؤصلة ثابتة من خلال علته التي تكون مناسبة للحكم[28] ، وأما علاقته بالمصالح المرسلة فواضحة ، حيث إنها لا بدّ أن تكون ملائمة لمقاصد الشرع[29] ، وأما سد الذرائع وفتحها ، ورعاية المآلات فهي حماية للمقاصد وسياج لها .

 فهذه الشريعة دلت بأدلة قاطعة على أنها نزلت رحمة للعالمين (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)[30] فكيف تكون زحمة لهم ؟ وأنها خير لهم فقال تعالى : (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْراً )[31] فكيف تكون شراً لهم وأنها كلها مصالح ومنافع وزينة وجمال وبركات ورحمات ، فقال تعالى : ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)[32] وقال تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[33] ، بل إن الله تعالى حصر التحريم في الخبائث ، والتحليل في الطيبات فقال تعالى في وصف هذه الرسالة الخاتمة وخصائصها : ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[34] .  

  فالآيات البينات ، والأحاديث الصريحات في هذا الباب أكثر من أن تعد أو تحصى في هذا البحث .

 فإذا كان الأمر كذلك فأي دليل يدل بظاهره على ما يخالف مقاصد الشرع العامة ، والمبادئ القطعية ، والقواعد الكلية المتفق عليها فيجب إعادة النظر والاجتهاد في المقدمات والممهدات والحيثيات للوصول إلى تحقيق مقاصد الشريعة الغراء .

  وقد لخص ابن القيم رحمه الله ذلك بقوله : ( فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد ، وهي عدل كلها ، ورحمة كلها ، وحكمة كلها ، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور ، وعن الرحمة إلى ضدها ، وعن المصلحة إلى المفسدة ، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل فالشريعة عدل الله بين عباده ورحمته بين خلقه وظله في أرضه وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله ص أتم دلالة وأصدقها وهي نوره الذي به أبصر المبصرون وهداه الذي به اهتدى المهتدون وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل وطريقه المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل فهي قرة العيون وحياة القلوب ولذة الأرواح فهي بها الحياة والغذاء والدواء والنور والشفاء والعصمة وكل خير في الوجود فإنما هو مستفاد منها وحاصل بها وكل نقص في الوجود فسببه من إضاعتها ولولا رسوم قد بقيت لخربت الدنيا وطوي العالم وهي العصمة للناس وقوام العالم وبها يمسك الله السماوات والأرض أن تزولا فإذا أراد الله سبحانه وتعالى خراب الدنيا وطي العالم رفع إليه ما بقى من رسومها فالشريعة التي بعث الله بها رسوله هي عمود العالم وقطب الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة ) [35] .

  وبناء على ذلك فلما سئلت قبل ما يقارب من ربع قرن عن كيفية رد قرض بمائة ألف ليرة لبنانية تم عندما كانت قيمتها حوالي خمسين ألف دولار ثم أصبحت قيمتها يوم إرادة الرد تساوي مائة دولار تقريباً ، كتبت بحثاً وتوصلت إلى أن مقاصد الشريعة تقضي بحفظ مال المقرض المحسن وتحقيق العدل معه ، ودرء ظلمه ، وذلك لأن الله تعالى قرر مبدء ( لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ)[36] مع المرابين ، فكيف لا يقرره مع المقرضين المحسنين ، وقلت : يجب الرد بمثل قيمة القرض يوم الاقتراض ، ويكون المعيار إما السلع الأساسية ، أو الذهب ، أو سلة العملات الصعبة ، أو يجب الصلح ـ كما قرره الحنفية في بعض الأمور وسموه بالصلح الواجب ـ[37] .

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

  1. يراجع لمزيد من البحث والتفصيل : د. عمر الأشقر : مقاصد المكلفين ، ط. دار الفلاح / الكويت 1401هـ ص 19 وما بعدها

  2. الحديث متفق عليه رواه الجماعة بطرق كثيرة تربو على سبعين طريقاً ، يراجع : صحيح البخاري ـ مع فتح الباري ـ (1/12) ومسلم (3/1515) وسنن أبي داود ـ مع عون المعبود ـ ( 6/284) والنسائي (1/51) وابن ماجه (2/1413) ويراجع : تلخيص الحبير (1/54)

  3. يراجع للاستحسان : الأصل للشيباني ط. كراتشي ، تحقيق أبو الوفا الأفغاني (4/511) حيث ينقل عن أبي حنيفة في أولياء المجروح عَفَوا عن الجناية قبل موته ، ثم مات ، قوله : ( فإن عفوهم باطل في القياس ، ولكني أستحسن فأجيزه ، وكذلك لو عفا المجروح نفسه عن الجراحة أجزت عفوه وأخذت بالاستحسان فيهما جميعاً  ، وأدع القياس ) فالقاعدة العامة هي : أن العفو إنما يصح إذا كان الحق قد ثبت ، وهنا لم يثبت ، لأن الموضوع يتعلق بالقتل أصلاً وليس بالمال ، وبعبارة أخرى فإن ميزان القتل يختلف عن ميزان المال .

    يراجع للمزيد من التفصيل : كشف الأسرار للبزدوي (4/7) والموافقات (4/562) ود. مصطفى الزيلمي : أصول الفقه في نسيجه الجديد ط. بغداد (1/186) والزرقا : الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد ط. دمشق (1/77)

  4. الموافقات في أصول الشريعة لأبي اسحاق الشاطبي ، شرحه وكشف مراميه وخرج أحاديثه فضيلة الشيخ عبدالله دراز ط. دار المعرفة ، بيروت – لبنان 1415هـ / 1994م ( 4/ 562 – 566)

  5. يراجع لمزيد من التفصيل حول الاستحسان : المسودة ص (451 – 454) وشرح تنقيح الفصول ص 451 والتوضيح (3/4) وتيسير التحرير (4/78 ) والحدود للباجي ص 65

  6.  شرح الكوكب المنير (4/432) والمسودة ص 453 ، 454

  7. وهو ما رواه مسلم في صحييحه (3/1153) البيوع ، باب : بطلان بيع الحصاة ، والبيع الذي فيه غرر ، وأصحاب السنن ، وأحمد (1/116 ، 302 ، 2/154 ، 155 ، 250) بسندهم عن أبي هريرة قال : ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة ، وعن بيع الغرر ) .

  8. يراجع : مسند أحمد (4/146) ط. المكتب الإسلامي – بيروت

  9. مجموع فتاوى شيخ الاسلام أحمد  ابن تيمية ، طيب الله ثراه ( 29/48-49) ط. إدارة المساحة العسكرية بالقاهرة 1404هـ 

  10. فقد ثبت أن ( النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الرطب بالتمر ) ، رواه مالك والشافعي وأصحاب السنن ، انظر : مسند الإمام الشافعي ص 51 ، وأحمد (3/312) وتلخيص الحبير (3/9) ثم استثنى منه بيع العرايا : ( وهو بيع الرطب فوق الشجر بالتمر في حدود خمسة أوسق ) رواه البخاري ، فتح الباري (4/390)

  11. يراجع : فتح الباري (4/379 – 383 ) ومسلم (3/1208 ، 1212)

  12. رواه البخاري في صحيحه ، كتاب المساقاة ـ مع فتح الباري ـ (5/49) ومسلم في صحيحه ، البيوع (3/1173)

  13. الاستذكار لابن عبدالبر (19/34)

  14. يراجع لتفاصيل هذه المسألة : حكم الاستثمار في الأسهم ، مع تطبيق عملي على سوق الدوحة للأوراق المالية ، دراسة فقهية اقتصادية تطبيقية ، أ.د. علي محيى الدين القره داغي ، ومصادره المعتمدة ، ط. مطابع الدوحة الحديثة

  15. يراجع : فتح الباري (4/397) ومسلم (3/1165 – 1168) وعون المعبود (9/221) وتحفة الأحوذي (4/420)

  16. يراجع : فتح الباري (5/49 وما بعدها ) ومسلم (3/1172 وما بعدها )

  17. مجموع الفتاوى لشيخ الاسلام ابن تيمية (29/51)

  18. ابن بدران الدمشقي :  المدخل ، تحقيق د.عبدالله بن عبالمحسن التركي ، ط. الرسالة ، بيروت 1401هـ ص (313 – 314) وان كان لابن تيمية ، وتلميذه ابن القيم تحفظ على تسميته بالاستثناء أو خلاف الأصل ، حتى عقد الأخير فصلاً خاصاً في اعلام الموقعين ، ط. دار الجيل ببيروت     (2/3 – 65) سماه : ليس في الشريعة شيء على خلاف القياس .

  19. سورة النساء / الآية 82

  20. سورة النساء / الآية 59