إن مقاصد الشريعة الاسلامية في مجال الاقتصاد تتلخص فيما يأتي :

  1. تحقيق الاستخلاف والتمكين من الأرض ، وذلك بتعميرها وإصلاحها لصالح البشرية جمعاء .

  2. تحقيق التنمية الشاملة للإنسان والمجتمع اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وفكرياً .

  3. حفظ المال وتنميته بالاستثمار وتداوله بالعقود ، وعد تضيعها ، والالتزام فيه  بمنهج الوسط في الاستهلاك المجافى للتبذير والاسراف ، وللبخل والتقتير ، لأن المال قيام المجتمع فقال تعالى : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً)[1] .

  4. تحقيق رسالة المال والملكية في أداء دورهما الاجتماعي والتكافلي داخل المجتمع الاسلامي ، ثم المجتمع الانساني ، فالمال مال الله ، والإنسان مستخلف فيه ، لذلك يجب عليه ان يؤدي ما أوجبه صاحب المال من الانفاق والتكافل الأسري والاجتماعي.

  

قواعد عامة تشريعية في المصالح والمفاسد :

 إذا تتبعنا آيات الأحكام الكريمة ، وأحاديثها الشريفة ، ومنهج السلف الصالح توصلنا إلى ما يأتي :

  1. ان الاسلام لم يحرم إلا الخبائث ، والظلم والاثم ، والمفاسد والشرور ، والمضار ، والضرار ، وأنه قد أباح الطيبات ، والمنافع والخير ، والمعروف  فقال تعالى في وصف سيدنا الرسول صلى الله عليه وسلم : ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )[2] فهذه هي القاعدة الاساسية في الاسلام وقد بينها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فقال : ( لا ضرر ولا ضرار )[3] .

  2. أن الإسلام إذا حرم شيئاً فصل فيه حتى يبقى ما عداه على الاباحة ، وهذه القاعدة العامة وهي أن الأصل في الأشياء ـ غير الشعائر التعبدية ـ الاباحة  ، مؤكدة بمجموعة من القواعد العامة وهي : ( اليقين لا يزول بالشك ) و ( الأصل براءة الذمة ) و ( الأصل العدم ) أي عدم التكليف وغيره ، أي أن اثبات الحكم يحتاج إلى دليل[4] .

      وقد ذكر الإمام السيوطي عدداً كثيراً من الأدلة على أن الأًصل في الأشياء الاباحة حتى يدل الدليل على التحريم ، وخرّج عليه مسائل كثيرة ، واستثنى منه الأبضاع فقال : ( الأصل في الأبضاع التحريم )[5] .

      فهذه القاعدة تجعل ما عدا المنصوص عليها باقياً على أصل الاباحة ولا يستثنى منه إلاّ ما دل دليل على حرمته أو وجوبه ، أو كراهته ، أو ندبه ، وبالتالي فإن تأثير المصالح في المستجدات بالحل تأكيد لهذا الأصل ، وأن تأثير المفاسد بالحرمة معضد بالقواعد العامة في الشريعة القاضية بحرمة المفاسد والمضار والخبائث التي تفوق مفسدتها ومضرتها ، وخبثها على المصالح والمنافع والطيبات.

      وبهذا الضبط تصلح المصالح المرسلة لتصبح دليلاً معتبراً ، والا فيحدث فيها اضطراب ، وافراط وتفريط ، حيث أهملها البعض ، وأعطاها البعض الآخر دوراً كبيراً ، وجعلها دليلاً مطلقاً مستقلاً ، وكلا الرأيين مجاف للحق ، فالمصالح معتبرة بشرط أن لا تتعارض مع نص ثابت .

  3. أن ميزان تأثير المصالح والمفاسد في الحل والحرمة في العادات والمعاملات غير المنصوص عليها هو كالآتي :

    ‌أ-  أن ما هو ضرر محض ومفسدة مطلقة ، وخبيث واضح فهو حرام .

    ‌ب- أن ما هو منفعة محضة ، ومصلحة خالصة ، وطيب فهو حلال .

    ‌ج- أن ما اجتمع فيه الأمران السابقان ينظر إلى الغالب والأكثر والأقوى ، فإن كانت منفعته أكثر ، والمصلحة فيه أظهر ، والطيب فيه أوضح فهو حلال ، وأن ما كانت مضرته أكثر ، ومفسدته أقوى ، وخبثه أوضح فهو حرام .

    وقد أخذت هذه القاعدة من قوله تعالى : ( يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ )[6] فقد أوضح الله تعالى هنا منهج التشريع بأنه تابع للأكثر والأقوى ، فعلينا أن نتبعه في الاجتهاد بقدر الامكان .

    ‌د-  ما استوى فيه الأمران ( المصلحة والمفسدة ) فالأصل فيه الاباحة ، ولكن قد يحرم بسبب ظروف وأحوال تحيط به ، وما يترتب عليه من آثار سيئة على ضوء فقه المآلات ، أو يتخذ وسيلة للمفاسد والمحرمات على ضوء فقه سد الذرائع .

  4. ان مقاصد الشريعة من حيث هي ( فيما عدا المصالح المرسلة ، وفقه المآلات ، وسد الذرائع ) ليست دليلاً مستقلاً وإنما هي نوع من ميزان ضبط الاجتهاد ، ومعيار لصحته ومطابقته لمبادئ الشريعة العامة ، وبيان لجمال الشريعة ومحاسنها ، ولذلك ينبغي مراعاة ما يلي :

    • ان مقاصد الشريعة تعمل في دائرة المصالح المرسلة وفقه المآلات وسد الذرائع ـ عند من يقول بها ـ

    • ان معرفة مقاصد الشريعة في غاية من الأهمية بالنسبة للمجتهد والمفتي والقاضي ، والحاكم ولا سيما في نطاق السياسية الشرعية ، ونطاق الاقتصاد اللذين تركت فيهما ساحات واسعة جداً للاجتهاد المنضبط بمقاصد الشريعة وبقية شروطه فيهما ، وكذلك الحال في القضايا الطبية المعاصرة

         فمعرفة المقاصد هي الميزان ، والمعيار ، والضمان للمنهج الوسطي البعيد عن التشدد والتفلت والافراط والتفريط .

    • ان الاجتهاد الصحيح المستقيم هو الذي تراعى فيه الأدلة النصية الكلية والجزئية مع مقاصد الشريعة دون التضحية بأحدهما على حساب الآخر ، وإنما بتوازن دقيق ، يجمع بينهما ، أو يرجح أحدهما على الآخر على ضوء الأدلة المعتبرة ، ووضع المقاصد في مرتبتها مع الأدلة الثابتة ، ثم  فهم الأدلة الجزئية في ضوء المقاصد المعتبرة الكلية المحققة ، وليست المقاصد والمصالح الموهومة ، أو الخاصة .

  5. ان رعاية المجتهد أو المفتي للمصالح المرسلة تترتب عليه مرونة كبيرة في الفقه ، وتيسير على الناس ، ورفع للحرج ، ورحمة بهم ، وتحقيق للخير الذي جعله الله تعالى هدفاً لانزال شريعته ، ولكن بشرط واحد وهو أن لا يتعارض ذلك مع نص شرعي ثابت أو إجماع ، أو مبدأ مستقر من مبادئ الاسلام ، وهذا ما سار إليه الخلفاء الراشدون من تنظيم أمور الدولة والأمة ، وهذا ما تقتضيه مصالح الأمة المتجددة على مرّ العصور ، ففي عصرنا ظهرت تشريعات لتحديد الأجور للعمال ،  والصناع ، والمساكن ، وتنظيم الصناعة ، والزراعة ، والتجارة ، وفرض عقوبات على جرائم جديدة كتعاطي المخدرات ، والاتجار فيها ، وإنشاء عقود جديدة ، أو توثيقها ، وجعل مراتب القضاء ثلاث درجات ، وجعل القضاة في كل درجة ثلاثة أشخاص ، وفصل السلطات الثلاث ، وكل ما يتعلق بالفرد والمجتمع والدولة ، والعلاقات الداخلية والخارجية وغير ذلك[7] وكل ذلك دليل على صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان ، وذلك لأن النصوص متناهية ، والحوادث والمستجدات لا تتناهى ، فتعالج من خلال الاجتهاد القائم على القياس ، والمصالح المرسلة ونحوهما .

  

 هذا ما أردنا بيانه .. والله المستعان
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

([1])  سورة النساء / الآية5 ويراجع:مقاصد الشريعة لابن عاشور بتحقيق الشيخ محمد الحبيب ابن الخوجة ط. قطر (3/470 وما بعدها)

([2])  سورة الأعراف / الآية 157

([3])  رواه مالك في الموطأ كتاب الأقضية ص 464 وجزم بنسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وأحمد في مسنده (1/313 ، 5/327) وابن ماجه في سننه ، كتاب الأحكام (2/784) والحديث صححه لكثرة طرقه المناوي في فيض القدير ، والألباني في الارواء (3/413) وحسنه النووي ، واحتج به محمد بن الحسن الشيباني ، وهذا الحديث يعتبر قاعدة عامة من أهم قواعد الشريعة الاسلامية ومبدءاً عاماً من أهم مبادئ التشريع في الاسلام

([4])  يراجع : الاشباه والنظار ص 118 – 139

([5]) يراجع : الاشباه والنظائر ص 135

([6])  سورة  البقرة / الآية 219

([7]) المصادر السابقة ، والشيخ محمد مصطفى شلبي ص 297