نظرية عوض المثل


وأثرها على الحقوق


دراسة مقارنة في الفقه الإسلامي


 


 


التعويض بالعوض ، والمثل لغة واصطلاحاً :


ولما كان هذا المصطلح مركباً من كلمتين فلا بد من التعريف بهما منفردين ، ثم به ، فالعوض ــ بكسر العين وفتح الواو ــ لغة البدل ، قال ابن سيده : ” وبينهما فرق ” والجمع أعواض ، والمصدر : العوض ــ بفتح العين والواو ــ فيقال : عاضه عوضاً  وعياضاً ، وعوَّضه ، وأعاضه ، والأكثر استعمالا ً : عوَّضه تعويضاً ، وتعوض منه واعتاض : أخذ العوض ، واستعاضه أي طلب منه العوض ، واعتاضني إذا جاء طالباً للعوض والصلة ، وعاوضت فلاناً بعوض في المبيع والأخذ والإعطاء ، وله معان أخرى [5] .


ولم يرد ” العوض ” ومشتقاته في القرآن الكريم ، ولكنه ورد في السنة المشرفة ، منها ما رواه أبو داود بسنده عن سلامة بنت معقل أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال لقومها : ” اعتقوها فإذا سمعتم برقيق قدم عليّ فائتوني أعوضكم منها ، قالت فأعتقوني ، وقدم على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) رقيق فعوضهم مني غلاماً ” [6] ، أي أعطاهم بدلها غلاماً ، وروى البخاري بسنده عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : إن الله تعالى قال : ” إذا ابتليتُ عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة ” [7] أي أعطيته بدلهما الجنة ، قال الحافظ : ” وهذا أعظم العوض .. ” [8]


وروى أيضاً عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : امرأة من المشركين جاءت إلى المسلمين أيعاوض زوجها منها لقوله تعالى : (( وآتوهم ما أنفقوا )) قال :” لا ، إنما كان ذلك بين النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وبين أهل العهد ” والمعنى : هل يعطي بدلها عن النفقات لزوجها ؟ [9] .


وأما المثل ــ بكسر الميم وسكون الثاء ــ وبفتحهما ــ لغة فهو بمعنى الشبه ، فيقال : هذا مِثْله ، ومَثَلُهُ كما يقال : شِبْهُه وشَبَهُه وزناً ومعنى ، قال ابن بَرِّيّ : ” الفرق بين المماثلة والمساواة : أن تكون بين المختلفين في الجنس ، والمتفقين ، لأن التساوي هو التكافؤ في المقدار لا يزيد ولا ينقص ، وأما المماثلة فلا تكون إلا في المتفقين ، نقول فِقْهُهُ كفقهه ، ولونه كلونه ــ فإذا قيل هو مثله على الإطلاق فمعناه أنه يسد مسده ، وإذا قيل : هو مثله في كذا فهو مساو له في جهة دون جهة [10]ويقول العلامة المقري : ” المثل يستعمل على ثلاثة أوجه بمعنى الشبه ، وبمعنى نفس الشيء وذاته ، وزائدة .. ، والمثال بمعنى الوصف والصورة .. ” [11] .


 


1 ــ المثل في القرآن والسنة :


وقد ورد لفظ المثل ومشتقاته في القرآن الكريم أكثر من ( 150 ) مرة منها قوله تعالى : (( قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم )) أي من حيث الخلقة ، والماهية والجنس والنوع ــ (( ولكن الله يمن على من يشاء من عباده )) [12] ، كان ذلك جواباً للكفرة حينما قالوا : (( … ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون )) [13] ، حيث اعتبروا المساواة في البشرية وما هو من خصائصها كافية في أن يثبت لكل واحد من الشبهين حكمُ الآخر ، فكأنهم قالوا : فإذا تساوينا في هذا الشبه فأنتم مثلنا لا مزية لكم علينا ، وهذا باطل لأنهم لم يلاحظوا أموراً أخرى لا توجد في أحد الشبهين [14] .


وهذا مشعر بأن المِثل الحقيقي إنما يتم إذا روعيت جميع الجوانب والصفات .


ومنها قوله تعالى : (( فأتوا بسورة من مثله )) [15] ، فقال المفسرون : أي مثل نظم القرآن ووصفه ، وفصاحة معانيه التي يعرفونها ، وفي غيوبه وصدقه ونحو ذلك [16] ، وقوله تعالى : (( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم )) [17] ، فقال المفسرون : أي خذوا حقوقكم ، واقتصوا بدون زيادة وتجاوز [18] .


هذا وقد ثار خلاف كبير بين المفسرين والفقهاء في تفسير قوله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم )) [19] ، حيث فسر بعضهم : ” مثل ما .. ” يشبهه في الخلقة الظاهرة ، وحينئذ يكون مثله في المعنى [20] ، وفسره الآخرون بقيمته ، ودعم هذا الموقف الحنفية حيث قالوا : إن المراد بالمثل هنا القيمة ، وذلك لأن الآية عامة في قتل كل صيد مع أننا قد لا نجد مثلا ً لبعض الحيوانات التي تصطاد ، لذلك فحمل المثل على القيمة يؤدي إلى عمومه في جميع الحيوانات ، وهذا ما يؤيده وجوب استعمال اللفظ على عمومه ما أمكن [21] .


ومن جهة ثانية أن تفسير المثل في الآية بالقيمة يؤدي إلى أن ينتظم المعنى وتسير بداية الآية وآخرها في نسق واحد ، وذلك لأن قوله تعالى : ” (( ولا تقتلوا الصيد وأنتم حرم )) عام في كل صيد ، ويكون الحكم الخاص في حالة قتله هو الجزاء بالمثل أي بالقيمة التي تشمل ما له نظير ، وما لا نظير له ، وأما على ضوء تفسير المثل بالنظير فيكون تخصيصاً بغير دليل وهو غير سائغ ، ويدل على ذلك أن جماعة من الصحابة قد روي عنهم أنهم قضوا في الحمامة بشاة ، ولا تشابه بينهما من حيث الخلقة فعلمنا أنهم أوجبوها على وجه القيمة [22] .


 


 


المثل في اصطلاح الفقهاء :


تختلف وجهات نظر الفقهاء إلى ” المثل ” حسب وقوعه في أبواب الفقه المختلفة ، فمثلا ً فالبقرة مثل للجمل ، والنعامة مثل للبدنة في باب الحج بحيث إذا قتل المحرم نعامة يجب عليه بدلها جمل ــ مثلا ً[23] ــ في حين أن الحيوانات جميعها ليست من باب المثليات في باب القرض [24]  والغصب [25]  بل إن الذكر من الغنم ــ مثلا ً ــ ليس مثلا ً للأنثى في باب البيع حيث يعتبرونهما جنسين مختلفين ما دام الغرض من كل واحد منهما مختلفاً [26] ، وفي باب الربا تتحقق المثلية في المكيل والموزون مع اتحاد الجنس عند أكثر الفقهاء [27].


ونصل من خلال هذه الاعتبارات المختلفة إلى أن المعيار في هذه المسألة هو تحقيق العدالة ، ولذلك نرى أن هناك حالات كثيرة تخرج عن المثلي مع أنها  على ضوء القواعد العامة تكون من المثليات ، فهذا يعني أنه إذا حقق الرد بالمثل العدالة فهو المطلوب ، وإذا لم يحققها بل حققتها القيمة فيكون الرد بالقيمة ، فمثلا ً فالماء من المثليات ، لكنه لو غصبه إنسان في مفازة ، أو استقرضه فلا يرده بالمثل عند حالة السعة والاختيار ، بل يرد بالقيمة ، وكذلك الحليُّ المصنوع من الذهب فهو من حيث أصله من المثليات ، لكن الصنعة أخرجته من المثليات [28] .


فقد وضع بعض الفقهاء معياراً للمثل في أبواب القرض ، والغصب ، والإتلاف ، يكمن فيما هو يباع ــ حسب العرف ــ بالكيل ، أو الوزن ، فعلى ضوء هذا لا يدخل ما عدا المكيل والموزون فيه ، والذي نرى ترجيحه هو أن المعيار في المثلي هو كل ما يحقق العدالة [29] ، يقول شيخ الإسلام : ” والأصل في العقود جميعها هو العدل ، فإنه بعثت به الرسل ، وأنزلت الكتب، والشارع نهى عن الربا لما فيه من الظلم ، وعن الميسر لما فيه من الظلم … ” [30] .


 


 


المراد بعوض المثل في الاصطلاح :


إذا كان المراد بالمثل في اللغة هو النظير والشبه ، وبالعوض هو المقابل والبدل ، فيكون معنى : عوض المثل في اللغة : بدل مثل الشيء المطلوب ، وهو بهذا المعنى عام شامل لجميع التعويضات بالمثل سواء كانت بسبب اتفاق أو غيره ، غير أن عوض المثل في عرف الفقهاء مصطلح خاص لم يقصد به جميع التعويضات ، ولا رد المثل في المثليات ، ولا القيمة في القيميات على إطلاقها ، ولا بدل الشيء المتفق عليه في العقود ، ولا الديات والضمانات التي حدد الشارع مقدارها …


وإنما يقصد بعوض المثل عندهم هو : بدل مثل شيء مطلوب بالشرع غير مقدر فيه  أو بالعقد لكنه لم يذكر ، أو ذكر ولكنه فسد المسمى ، أو كان بسبب عقد فاسد ، أو نزع جبري مشروع للملكية .


 


 


فعلى هذا يشمل :


1 ــ ما إذا لم يذكر في عقد النكاح مهر ، أو ذكر ولكنه لم يعتد به الشارع مثل أن يكون المسمى شيئاً محرماً ، أو لا يعتبر مالا ً متقوماً ، وهذا ما يسمى بمهر المثل .


2 ــ وما إذا كان بين العاقدين اتفاق ، ولكنه لم يذكر فيه المسمى ، أو أصبح المسمى معدوماً ، أو فاسداً ، أو أصبح العقد فاسداً أو مفسوخاً ولكنه ترتب عليه أن أحد العاقدين كان قد نفذ من العقد شيئاً ، أو أهلك المعقود عليه ، أو كان العقد قرضاً ووجب فيه رد القيمة ، أو نحو ذلك مما سيأتي تفصيله ، وهذا يدخل فيه : أجر المثل في الإجارة الفاسدة ، أو المضاربة الفاسدة ، أو نحوهما ، وكذلك يدخل فيه : ثمن المثل …


3 ــ وما كان نتيجة نزع جبري مشروع لملكية خاصة من قبل الدولة ، وهذا ما يسمى بتمليك المثل .


4 ــ وما كان نتيجة إتلاف لكنه لم ينص الشارع على تحديد مقدار الضمان فيه وهو ما يسمى بضمان المثل سواء كان في الحج أو غيره من الضمانات المالية الأخرى .


وقبل أن ندخل في تفاصيل هذه المسائل لا بد أن نذكر كيفية الوصول إلى عوض المثل ومعياره .


 


 


معيار عوض المثل :


لو تتبعنا أقوال الفقهاء في المسائل المنثورة الخاصة بعوض المثل نجد أنهم يحاولون بشتى الوسائل تحقيق العدالة ، ولذلك يلاحظون عند التقدير كل الظروف والملابسات التي تحيط بالقضية ، وكل الأمور والاعتبارات التي تؤثر فيها ، بل وكل أطرافها وجوانبها ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : ” عوض المثل …. أمر لا بد منه في العدل الذي به تتم مصلحة الدنيا والآخرة ، فهو ركن من أركان الشريعة … ومداره على القياس والاعتبار للشيء بمثله وهو نفس العدل ، ونفس العرف الداخل في قوله تعالى :(( يأمرهم بالمعروف )) [31]  وقوله : (( وأمر بالعرف )) [32]  وهذا متفق عليه بين المسلمين ، بل بين أهل الأرض ، فإنه اعتبار في أعيان الأحكام ، لا في أنواعها ، وهو من معنى القسط الذي أرسل الله له الرسل ، وأنزل له الكتب ، وهو مقابلة الحسنة بمثلها ، والسيئة بمثلها ، كما قال تعــــالى : (( هل جزاء الإحسان إلا الإحسان )) [33]  وقال : (( وإذا حُييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها )) [34] وقال تعالى : (( وجزاء سيئة سيئة مثلها )) [35] وقال تعالى : (( كتب عليكم القصاص في القتلى )) [36] وقال : (( وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به )) [37] .


فعوض المثل سار في كل التصرفات التي لم ينص على عوضها المعين ، أو نص ولكنه فسد المسمى ، فحينئذ نلجأ إلى التعويض بالمثل ، أو عوض المثل .


فمعيار عوض المثل في الواقع هو تحقيق العدالة ولذلك لا بد من النظر في جميع الملابسات التي تحيط به ، ورعاية الزمان والمكان والعرف السائد ، يقول ابن تيمية : ” عوض المثل هو مثل المسمى في العرف ، وهو الذي يقال له السعر والعادة ، فإن المسمى في العقود نوعان : نوع اعتاده الناس وعرفوه ، فهو العوض المعروف المعتاد ، ونوع نادر لفرط رغبة ، أو مضارة ، أو غيرهما ، ويقال فيه ثمن المثل ، ويقال فيه المثل ، لأنه بقدر مثل العين ، ثم يقوم بثمن مثلها ، فالأصل فيه اختيار الآدميين وإرادتهم ورغبتهم ، ولهذا قال كثير من العلماء : قيمة المثل : ما يساوي الشيء في نفوس ذوي الرغبات ، ولا بد أن يقال في الأمر المعتاد ، فالأصل فيه إرادة الناس ورغبتهم ، وقد علم بالعقول : أن حكم الشيء حكم مثله ، وهذا من العدل والقياس ، والاعتبار ، وضرب المثل الذي فطر الله عباده عليه ، فإذا عرف أن إرادتهم المعروفة للشيء بمقدار علم أن ذلك ثمن مثله ، وهو قيمته وقيمة مثله لكن إن كانت تلك الرغبة والإرادة لغرض محرم كصنعة الأصنام ونحو ذلك كان ذلك العوض محرماً في الشرع [38] .


إذا عرف ذلك فرغبة الناس كثيرة الاختلاف والتنوع بحسب الحالات والأزمنة والأماكن ، كما تختلف بكثرة المطلوب وقلته ، فعند قلته يرغب فيه ما لا يرغب فيه عند الكثرة ، أو بعبارة أخرى يؤثر فيه قانون العرض والطلب ، فإذا كان العرض كثيراً كان السعر أقل مما لو كان قليلا ً ، وهكذا الأمر إذا كثر طالبوه حيث يرتفع ثمنه ، على عكس ما إذا قل طالبوه ، إضافة إلى رعاية قلة الحاجة وكثرتها وقوتها وضعفها ، فلا شك أن الشيء عند كثرة الحاجة إليه وقوته ترتفع قيمته ما لا ترتفع عند قلتها وضعفها ، بل إن عنصر الإنسان المعاوض يدخل أيضاً في الاعتبار في بعض العقود ، فمثلا ً إذا كان المعاوض غنياً ملياً غير مماطل لدَيْنه يرغب في معاوضته بالثمن الذي لا يبذل مثله لمن كان مماطلا ً ، أو يظن عجزه ، أو جحده ، وقد ذكر شيخ الإسلام أن نوع النقد أيضاً يؤثر في التقدير أيضاً ، فقال : ” وبحسب العوض فقد يرخص فيه إذا كان بنقد رائج ما لا يرخص فيه إذا كان بنقد آخر دونه في الرواج ، كالدراهم والدنانير بدمشق في هذه الأوقات ، فإن المعاوضة بالدراهم هو المعتاد ، وذلك أن المطلوب من العقود هو التقابض من الطرفين ، فإذا كان الباذل قادراً على التسليم موفياً بالعهد كان حصول المقصود بالعقد معه ، بخلاف ما إذا لم يكن تام القدرة ، أو تام الوفاء ، ومراتب القدرة والوفاء تختلف ، وهو الخير المذكور في قوله تعالى (( فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً )) قالوا : قوة على الكسب ، ووفاء على العهد ” [39] .


وكذلك الشأن بخصوص حضور المبيع والدفع آجلا ً أم عاجلا ً ، فإن المبيع إذا كان حاضراً يكون سعره أكثر مما لو كان غائباً ، وكذلك المشتري قد يكون قادراً في الحال على الأداء ، لأن معه مالا ً ، وقد لا يكون معه مال لكنه يريد أن يقترض ، أو يبيع السلعة فالثمن مع الأول أخف ، وكذلك المؤجر قد يكون قادراً على تسليم المنفعة المستحقة بالعقد بحيث يستوفيها المستأجر بلا كلفة ، وقد لا يتمكن المستأجر من استيفاء المنفعة إلا بكلفة ما أو يخاف من ظالم أو لص يمنعه وإن كان محل العقد متشابهاً ، بل من العقار ما لا يمكن أن يستوفي منفعته بالكامل إلا ذو قدرة ، فحينئذ يختلف قيمته عما لا يستوفي غيره منه إلا منفعة يسيرة ، ” وعلى هذا يختلف الانتفاع بالمستأجَر ، بل والمشترَى ، والمنكوح ، وغير ذلك فينتفع به ذو القدرة إضعاف ما ينتفع به غيره لقدرته على جلب الأسباب التي بها يكثر الانتفاع ، وعلى دفع الموانع من الانتفاع ، فإذا كان كذلك لم يكن كثرة الانتفاع بما أقامه من الأسباب ، ودفعه من الموانع موجباً لأن يدخل ذلك التقويم إلا إذا فرض مثله ، فقد تكون الأرض تساوي أجرة قليلة لوجود الموانع من المعتدين أو السباع ، أو لاحتياج استيفاء المنفعة إلى قوة ومال ” [40] .


والخلاصة أنه ينبغي في تقدير عوض المثل رعاية كل الاعتبارات التي تؤثر فيه حسب العرف السائد ، سواء كان في نطاق المعاملات المالية أو غيرها ، فمثلا ً عوض المثل  في المعاملات المالية تلاحظ فيه كل الاعتبارات المؤثرة في القيمة في عرف التجار ، وهو في المهور يلاحظ فيه العرف السائد ، ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية بعد ما ذكر عدة اعتبارات مؤثرة : ” ولا بد من اعتبار العصر في مهر المثل ، فإن الزمان إن كان زمان رخص رخص ، وإن زادت المهور ، وإن كان زمن غلاء وخوف نقص ، وقد تعتبر عادة البلد والقبيلة في زيادة المهر ونقصه ، وينبغي اعتبار الصفات المعتبرة في الكفاءة [41] ويقول السيوطي : ” يختلف ــ أي ثمن المثل ــ باختلاف المواضع ، والتحقيق أنه راجع إلى الاختلاف في وقت اعتباره ، ومكانه ….. ” [42] .


 


 


كيفية التقويم في عوض المثل :


انتهينا فيما سبق إلى أن عوض المثل تلاحظ فيه رغبات الناس ، وزمانه ومكانه ، والحالة التي تم فيها التصرف ، بل تراعى فيه جميع الأمور المؤثرة في القيمة غلاء ورخصاً ، ولا بد أن نذكر هنا المسائل المكملة لعملية التقويم وهي ما يأتي :


 


المسألة الأولى : بم يكون التقويم ؟


ذهب الفقهاء إلى أن التقويم في عوض المثل يكون بغالب نقد البلد ــ أي البلد الذي تم فيه التصرف الموجب لعوض المثل ــ قال النووي : ” مهر المثل يجب حــــالا ً من


نقد البلد كقيمة المتلفات ” [43] ، وقال السيوطي : ” فلا تقويم بغير النقد المضروب ” [44] وقال ابن نجيم : ” يجب … من جنس الدراهم والدنانير ” [45] ، وكذلك قال غيرهم لأن القاعدة العامة هي أن التقويم يكون بنقد البلد الغالب ” [46] .


وقد أثار الفقهاء مسألة ما إذا كان في البلد نقدان يتعامل بهما على قدم المساواة فبأي منهما يكون التقويم ؟ فذهب بعضهم إلى رعاية الأقل قيمة ، وبعضهم إلى رعاية الأكثر ما دام أحدهما أغلى من الآخر [47] .


فالذي يظهر رجحانه أن الأمر في ذلك يعود إلى المقومين أو القاضي مع ملاحظة الظروف والملابسات التي تحيط بالقضية .


 


 


المسألة الثانية : مدى اشتراط العدد :


اختلف الفقهاء في مدى اشتراط العدد في المقومين ، فهل يشترط كونهم أكثر من واحد ، أم يكتفى بواحد عدل ؟


ذهب جماعة منهم الشافعية [48]  إلى اشتراط العدد ، في حين ذهب آخرون منهم الحنفية في قول ، والمالكية [49] إلى عدم اشتراطه ، وأنه يكتفى فيه بشخص واحد .


وسبب الخلاف أن الفريق الأول اعتبروا التقويم بمثابة الشهادة ، ولذلك ألحقوه بها في حين نظر الفريق الثاني إلى حقيقة التقويم واعتبروه بالحَكَم ، فكما لا يشترط التعدد في القضاء والحكم فكذلك لا يشترط في التقويم .


والراجح هو اشتراط التعدد بأن لا يكون عدد المقومين أقل من اثنين ، وذلك لأن القرآن الكريم حكم في جزاء قتل الصيد في حالة الإحرام أن يحكم بمثل ما قتل رجلان عدلان فقال تعالى : (( …. ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم …. )) [50]  وقد فهم من هذا النص وجوب وجود الحكمين الخبيرين العدلين في هذه المسألة ، وهو أصل صالح لمسألتنا في التقويم [51] ، وذلك لأن التقويم مما تختلف فيه وجهات النظر فلا بد من وجود عدلين لترجيح رأي على آخر ، كما أن القيم تختلف على حسب الأحوال والأزمان والأماكن فلا بد من وجود اثنين.