تـمـهـيـد:


إنّ أَقْوَمَ الطرق للوصول إلى معرفة الأحكام الشرعية يكمن في العودة إلى المنبع الصافي المتمثل في الكتاب والسنة، ثم الإِفادة بما ذكره الفقهاء على مر العصور والاستعانة به، وبما ذكره المفسرون وشرَّاح الحديث النبوي الشريف.


ولكنه مع ذلك فقد مرت حقبة طويلة ــ بعد ازدهار الفقه، وتثبيت المذاهب الفقهية في البلدان ــ أولى أكثر الفقهاء المتأخرين كل جهودهم نحو نصوص الفقهاء المتقدمين وآرائهم؛ حيث كان الجدال والنقاش حولها، بل كان الاستنباط من خلالها، فظهرت آراء كثيرة في كثير من الجزئيات والفرعيات فيما لو عرضت أساسًا على الكتاب والسنة لما ظهرت، بل ظهرت بعض نظريات فقهية صنع منها البعض مبادىء كلية، مثل منع بيع المعدوم كقاعدة، وجعل السلم استثناء، مجانبين لمعيارية الأصل والفرع.


كانت هذه هي السمة الظاهرة للعصور المتأخرة، ولكنه مع ذلك ظهر علماء أعلام في كل عصر ــ مثل العز بن عبد السلام، وابن تيمية، وابن


القيم ــ ناضلوا في سبيل ربط الفقهاء بالمصادر الصافية للأحكام، ثم الاستفادة مما قاله الأئمة الأعلام، ومن مقاصد الشريعة الغراء.


ومن هذا المنطلق اخترت حديثًا نبويًّا شريفًا ثار حول معناه كثير من الجدل والنقاش، ووضع منه البعض قواعد وآراء تعتبر بعيدة عن معناه وفحواه في نظرنا، ليكون مجالاً لبحثي، ولأقوم بدراسته دراسة حديثية لرواياته وألفاظه، ودرجة قوته، ودراسة أصولية لدلالته الأصولية، ودراسة فقهية لفقهه وما يمكن أن يستنبط منه من الأحكام، وما هو بعيد عن معناه ومناطه، مع ذكر تطبيقاته، وعلاقته ببعض العقود المعاصرة سلبًا أو إيجابًا.


والله نسأل أن يكتب لنا التوفيق، والإِخلاص، والعصمة في القول والعمل، وأن يقبلنا في عباده المتقين. آمــين.


متن الحديث، وسنده وطرقه


ورد النهي عن بيع ما ليس عند الإِنسان بعدة ألفاظ مختلفة وهي:


1 ــ اللفظ الأول عن حكيم بن حزام بلفظ: «لا تبع ما ليس عندك».


روى بهذا اللفظ عن حكيم بن حزام:


أبو داود في سننه: كتاب البيوع باب الرجل يبيع ما ليس عنده، الحديث رقم 3486 (عون المعبود 9/401)، ورقم الحديث في بعض الطبعات لسنن أبـي داود 3503.


ورواه الترمذي في سننه: كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عنده، الحديث 1250 (تحفة الأحوذي 4/430 ــ 433).


والنسائي في سننه: كتاب البيوع، باب ما ليس عند البائع، الحديث رقم 4612، طبعة دار البشائر الإِسلامية ــ بيروت.


وابن ماجه في سننه: كتاب التجارات، باب النهي عن بيع ما ليس عندك وعن ربح ما لم يضمن، الحديث 2187 (2/737).


وأحمد في مسنده عن حكيم بعدة طرق (3/402).


والبيهقي بعدة طرق في السنن الكبرى (5/267، 317، 339).


والطبراني في المعجم الكبير بعدة طرق، والحديث رقم 3097، 3098، 3099، 2102، 3103، 3143.


وعبد الرزاق في مصنفه، الحديث 14212.


وابن جارود، الحديث 602.


والطيالسي 2257.


كما رواه ابن حزم عن طريق النسائي (5/594).


هؤلاء كلهم رووا الحديث باللفظ السابق دون اختلاف، وإنما وقع الاختلاف في سؤال الحكيم، حيث نجد بعض الاختلافات اللفظية أو الزيادة والنقص في نقل سؤاله وصيغته، ولكن أشهرها بلفظ:


قال حكيم بن حزام: يا رسول الله، يأتيني الرجل فيريد من البيع ليس عندي، فأبتاعه له من السوق؟ فقال: «لا تبع ما ليس عندك».


2 ــ اللفظ الثاني عن حكيم بن حزام أيضًا بلفظ: «نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن أبيع ما ليس عندي».


 


رواه بهذا اللفظ:


الترمذي في جامعه بسندين، الحديث 1251، 1253 (تحفة الأحوذي 4/430 ــ 434).


وأحمد في مسنده (3/402).


والطبراني بأكثر من سند، رقم الأحاديث 3100، 3101، 3104، 3105، 3132، 3137، 3138، 3139، 3140، 3141، 3144، 3145، 3146.


والبيهقي في السنن الكبرى (5/339).


والشافعي (ترتيب مسند الشافعي، ط دار الكتب العلمية ــ بيروت رقم الحديث 478).


3 ــ اللفظ الثالث ورد عن طريق عمرو بن شعيب عن عبد الله بن عمرو أن النبـي صلى الله عليه وسلّم قال: «لا يحل سلف وبيع… ولا بيع ما ليس عندك».


 


رواه بهذا اللفظ:


أبو داود في سننه، الحديث 3487 (عون المعبود 9/402 ــ 403).


والترمذي في جامعه، الحديث 1252 (تحفة الأحوذي 4/431).


والنسائي في سننه، الحديث 4612 (7/288)، وبسند آخر (7/289).


وابن ماجه في سننه، الحديث 2188 (2/737).


والحاكم في مستدركه، بسندين (2/17).


وابن حبان في صحيحه، (موارد الظمآن الحديث 1108 ص 271).


وأحمد في مسنده بعدة طرق (2/174، 179، 205).


والدارمي في سننه (2/168).


والبيهقي في السنن الكبرى بثلاثة أسانيد (5/343، 339، 267).


ورواه ابن خزيمة ــ كما قال الشيخ الألباني في الإِرواء ــ الحديث 1305.


وعبد الرزاق في مصنفه، (8/39).


وابن حزم من طريق أبـي داود، المحلى (9/595).


والدارقطني، الحديث 320.


وابن الجارود، الحديث 601.


والطبراني في الكبير والأوسط، (مجمع الزوائد 4/85).


وأبو حنيفة (مسند أبـي حنيفة، ط الاداب، بالقاهرة ص 124).


4 ــ اللفظ الرابع من رواية حكيم بن حزام نفسه، ولكنه خاص بالطعام، ونصه: قال حكيم بن حزام: قال لي رسول الله: ألم يأتني، أو لم يبلغني ــ أو كما شاء من ذلك ــ أنك تبيع الطعام؟ قال: بلى يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «فلا تبع طعامًا حتى تشتريه وتستوفيه».


 


رواه:


الإِمام أحمد في مسنده (3/403).


والطبراني في المعجم الكبير، الحديث 3097.


والشافـعـي (ترتيب مسند الشافـعـي (2/143) الحديث 476، 477).


والدارقطني بأكثر من سند (2/9).


والبيهقي بأكثر من سند (5/312، 313).


وابن حبان في صحيحه (الإِحسان 7/228 ــ 229).


والنسائي في سننه الكبرى (نصب الراية، ط دار إحياء التراث العربـي 4/232).


 


ملحوظة:


توجد اختلافات في الألفاظ في روايات هذا الحديث، لكنها لا تؤثر في متن الحديث المقصود هنا.


 


 


 


ما قاله نقاد الحديث :


كنـت أود أن أقـوم بدراسة نقـدية لجميـع رواة الحـديث مـن جميـع الجوانب المطلوبة في علوم الحديث، لكني آثرت أن أقتصر على ما قاله نقاد الحديث في هذا الحديث بمتونه التي ذكرناها.


 


* فالمتن الأول:


ــ حكم على صحته البعض، وعلى حسنه الاخرون.


فقد قال الترمذي: «حديث حكيم بن حزام حسن، وقد روي من غير وجه. وروى أيوب السختياني وأبو بشر عن يوسف بن ماهك عن حكيم بن حزام عن النبـي.


وروى هذا الحديث عوف وهشام بن حُسّان عن ابن سيرين عن حكيم بن حزام عن النبـي، وهذا حديث مرسل؛ إنما رواه ابن سيرين عن أيوب السختياني عن يوسف بن ماهك هكذا»[1].


 


والحديث بهذا المتن:


ــ قد حكم ابن حزم بصحته[2].


ــ وقال الإِمام النووي: «حديث حكيم صحيح رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وغيرهم بأسانيد صحيحة»[3].


ــ وردَّ الحافظ ابن حجر على من جرح أحد رواته بجهالته بأنه جرح مردود، لأنه معروف روى عنه ثلاثة، واحتج به النسائي[4].


ــ وحكم بصحته أيضًا الشيخ الألباني[5].


LinkedInPin