تحديد الأجرة :

 المراد بتحديد الأجرة هو أن تحدد الأجرة تحديداً لا تبقى معه الجهالة ، أو الغرر ، وهذا هو أحد الشروط الأساسية لصحة عقد الإجارة ـ كما سبق ـ .

  ونحن هنا نركز على أحكام الأجرة من خلال أهم المسائل التي ذكرها الفقهاء ، وما يمكن أن يربط بها من التطبيقات المعاصرة .

 

الإجارة بمعناها الخاص ، والعام :

 فالإجارة بمعناها الخاص هي العقد الذي عرفنا به في الفصل الأول ، وذكرنا له نوعين هما : إجارة الأعيان ، وإجارة الأشخاص ، وأما الإجارة بمعناها العام فتشمل عقد الوكالة إذا كانت الوكالة بأجر وحينئذ تطبق عليه أحكام الإجارة على الصحيح وكذلك تشمل الجعالة من حيث الجملة .

  غير أن عقد الإجارة يختلف في جوهره وشروطه وضوابطعه عن عقد الوكالة ، وعقد الجعالة فيما يأتي :

أولاً : الفرق بين عقد الإجارة وعقد الجعالة في الوجوه الآتية :

1-         إن عقد الإجارة عقد متفق عليه بين جميع الفقهاء في حين أن الجعالة جائزة بطريق الرخصة عند المالكية ، وأن القياس والأصل عدم جوازها ، وأنها غير جائزة عند الحنفية في غير جعل العبد الآبق ، وذلك لأنها تقوم على الغرر المنهي عنه حيث إن فيها تعليق التملك على الخطر ـ أي التردد بين الوجود والعدم ـ كما أن الجعالة لم يوجد فيها من يقبل العقد ، فانتفى العقد ومعناه  .

2-         وحتى عند القائلين بجواز الجعالة فهي تختلف عن الإجارة فيما يأتي : 

‌أ-          الجعالة عقد غير لازم عند جمهور القائلين بها ، في حين أن الإجارة عقد لازم ـ من حيث المبدأ ـ .

‌ب-         صحة الجعالة على عمل مجهول يعسر ضبطه وتعيينه كرد مال ضائع ، في حين أن الإجارة لا تجوز ولا تصح على ما سبق .

‌ج-         صحة الجعالة مع عامل غير معين ، في حين أن الإجارة لا تصح عليه إلاّ في حالة الاجارة الموصوفة في الذمة التي تتوافر فيها المواصفات الكاملة ، وتتعلق بالذمة ، قال السيوطي : ( تعيين العامل يعتبر في الإجارة دون الجعالة )  .

‌د-          أن العامل لا يستحق الجعل إلاّ بعد تمام العمل .

‌ه-          لا يشترط في الجعالة تلفظ العامل بالقبول .

‌و-          جهالة العوض في الجعالة في بعض الأحوال

‌ز-          يشترط في الجعالة عدم التأقيت ، في حين يشترط التأقيت في عقد الاجارة .

‌ح-         سقوط كل العوض بفسخ العامل قبل تمام العمل المجعول له .

‌ط-         أنه يصح في الجعالة بين تقدير المدة والعمل ، بخلاف الإجارة عند كثير من الفقهاء  .

‌ي-        العلم بمقدار العمل معتبر في الإجارة دون الجعالة  .

 كما أن الجعالة تختلف عن المضاربة والمساقاة والمزارعة في كثير من الأحكام والآثار من أهمها أن عوض العمل في المضاربة والمساقاة ، والمزارعة هو ناشئ عن محل العمل نفسه ، وأن رب المال في المضاربة يدفع النقود إلى المضارب العامل ليستثمرها ، وفي المساقاة يمكن العامل من الأشجار المثمرة ليقوم بسقيها ورعايتها ، وفي المزارعة يمكن المزارع من الأرض ليزرعها ، وهكذا فهذه العقود تقوم على المشاركة بين الطرفين ، وليس الأمر كذلك في الجعالة ، إضافة إلى معظم الفروق التي ذكرناها فيما بين الإجارة والجعالة متوافرة أيضاً هنا .

 

ثانياً : الفرق بين الإجارة والوكالة :

هناك فروق كثيرة بين الإجارة والوكالة ، نذكر أهمها وهي :

1-         أن الوكيل يمثل الموكل ، في حين أن الأجير لا يمثل المستأجر أو المؤجر .

2-         الأصل في عقد الوكالة أنه عقد تبرع ، وأما عقد الإجارة فهو عقد معاوضة .

3-         أن عقد الوكالة عقد غير لازم بالاتفاق ، واما عقد الإجارة فهو عقد لازم .

 

الترجيح :

  لذلك كله نرى أن كل عقد له خصوصيته في الأحكام والآثار والشروط والتطبيقات ، وأن الشريعة أجازته لتحقيق الغرض المنشود منه ، ولذلك وضعت له مقصداً ، أو مقاصد خاصة بكل عقد تسمى : مقتضى العقد ، أو أحكامه الأصلية ، فلا يجوز تجاوزها ، وهذا محل اتفاق بين الفقهاء من حيث المبدأ والأصل  ، ولذلك اتفقوا على أن أي شرط يخالف مقتضى العقد فهو شرط باطل يجعل العقد فاسداً   يقول المرغيناني : ( وكل شرط لا يقتضيه العقد ….. يفسده كشرط أن لا يبيع المشتري … المبيع … )  ومثل ذلك يقوله بقية الفقهاء وإن كان هناك خلاف في تأثير هذا الشرط في إفساد العقد نفسه  .

  فعلى ضوء ذلك فإن الإجارة هي غير الجعالة ، وهي غير الوكالة والمضاربة ، والمساقاة ، والمزارعة ، وأنه لا يجوز التلاعب بهذه العقود حسب أهواء العاقدين ، فهما بالخيار في اختيار أي عقد يحقق مصالحهما وحاجياتهما ، ولكن لا يجوز لهما أن يركبا بعض آثار عقد في عقد آخر إذا كانت متعارضة ، فيجب أن لا يكون قصد المكلف من العقد متعارضاً مع قصد الشارع منه ، فآثار العقد الأصلية شرعية وليست جعلية بالاتفاق .

  ولهذه الأسباب أنفسها إذا وجد عقد يدل بظاهر لفظه ومبناه على عقد ، وبمقاصده ومعانيه على عقد آخر .. فقال جمهورهم : العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني وليست بالألفاظ والمباني ، وقال غيرهم : العقد باطل ، لأنه متناقض ، وذلك مثل أن يقول : وهبت لك هذا الثوب بدينار ، حيث تدل هذه الجملة بمقاصدها ونتائجها على أنها بيع ، وهذا ما قال به الأكثرية ، ولكن ألفاظها متناقضة ، لأن الهبة تقتضي عدم العوض ، وآخرها تدل على العوض فحكم البعض عليها بالفساد والبطلان .

 

  ولأهمية هذا الموضوع صاغته مجلة الأحكام العدلية في مادتها الثالثة وجعلته القاعدة الثانية من قواعدها فنصت على أن : ( العبرة في العقود للمقاصد والمعاني ، لا للألفاظ والمباني ) وفي معين الحكام بلفظ ” التصرفات ” بدل العقود ، وهي أعم ، وهي قاعدة منبثقة من القاعدة الأولى ” الأمور بمقاصدها ” المأخوذة من عدة أحاديث صحيحة مثل    ” إنما الأعمال بالنيات ”  وهي إحدى القواعد الأربع ، أو الخمس التي يرجع إليها الفقه  ، قال الإمام السيوطي : ( واتفق الإمام الشافعي ، وأحمد بن حنبل، وابن مهدي ، وابن المديني، وأبو داود ، والدارقطني وغيرهم على أنه ـ أي هذا الحديث ـ ثلث العلم ، ومنهم من قال : ربعه ، ووجه البيهقي كونه يتعلق به الكسب مع اللسان ، والجوارح ، وأن كلام الإمام أحمد يدل على أنه إحدى القواعد الثلاث التي ترد إليها جميع الأحكام عنده ، حيث قال : أصول الاسلام على ثلاثة أحاديث : حديث ” الأعمال بالنيات ”  وحديث ” من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ”  وحديث ” الحلال بيّن والحرام بيّن ..”  .

  والمراد بالمقاصد والمعاني : ما يشمل المقاصد التي تعينها القرائن اللفظية التي توجد في عقد فتكسبه حكم عقد آخر كما في انعقاد الكفالة بلفظ الحوالة إذا اشترط فيها براءة المديون عن المطالبة ، وبالعكس إذا اشترط فيها عدم براءته .

 وذلك يشمل المقاصد العرفية المراده للناس في اصطلاح تخاطبهم ، فإنها معتبرة في تعيين جهة العقود  . 

  فهذه القاعدة تجري في كثير من العقود ، فلو قال البائع : وهبتك هذه الدار بمبلغ كذا ، وقبل الآخر صح بيعاً ، ابتداءً وانتهاءً ، أما لو قال : وهبتكها بشرط أن تعوض كذا فهذا هبة ابتداء ، وبيع انتهاء ، لذلك فبالنظر إلى كونها هبة يشترط لصحتها شروط الهبة ، فلا تصح من الصغير المميز ولو كان العوض كثيراً ، وكذلك لاتصح من وليه ولو بعوض ما ، ويجب فيها التقابض في العوضين ، ولا تصح في مشاع لا يحتمل القسمة إلى غير ذلك من شرائط الهبة .

   وبالنظر لكونها بيعاً لا يصح الرجوع فيها ، ويجري فيها الرد بالعيب ، وخيار الرؤية ، وتؤخذ بالشفعة  .

 

  ولو قال : وهبتك منفعة داري لمدة سنة بكذا فهي إجارة فتطبق على أصل العقد شروط الهبة السابقة ، وعلى المنفعة والأجرة شروط الإجارة ، وقد تكون إقالة وهكذا  ، ومنها المضاربة ، فإذا شرط فيها أن يكون كل الربح للمضارب فهي قرض عند جماعة من الفقهاء ، ـ وقراض فاسد عند الآخرين ـ فإذا تلف المال في يد المضارب يكون مضموناً عليه ، وإذا شرط أن يكون كل الربح لرب المال فهي إبضاع   عند جماعة ـ وقراض فاسد عند بعض ، وحينئذ يكون المال أمانة  ، وإذا اشترط فيها الزام المضارب مبلغاً معيناً كعشرة دنانير أو 10% من رأس المال فهو مضاربة فاسدة بالاتفاق ، ويكون بمثابة قرض بفائدة ربوية ، وهكذا .

  ومنها الصلح إن وقع بعد إقرار المدعى عليه بالمدعى به : بمال يدفعه للمدعى فهو بيع ، وحينئذ تطبق عليه أحكام البيع من الرد بالعيب ، والأخذ بالشفعة إن كان عقاراً ، وإن وقع بمنفعة فهو إجارة ، وإن كان عن دعوى النكاح يعتبر خلعاً فتجري فيه أحكام الخلع ، لأن الصلح المحض هو ما تصالحا على بدل ، لقطع المنازعة دون إقرار ، وحينئذ فلا يجري فيه الرد بالعيب ، ولا الأخذ بالشفعة  .

 

  ويستثنى من هذه القاعدة أن ذكر البيع بلا ثمن ، أو الإجارة بلا ذكر الأجرة لا ينعقد هبة دون خلاف ، بأن يقول : بعتك هذا الثوب دون شيء آخر فقبله الآخر ، أما لو قال : بعتكه بلا ثمن ، وقال المشتري : قبلت ، فمحل خلاف  .

 

القاعدة العامة في تحديد الأجرة :

إن القاعدة العامة والأصل في الأجرة هي : أن كل ما صح أن يكون ثمناً في البيع صح أن يكون أجرة في الإجارات  سواء كان نقداً (دراهم ، ودنانير) ، او عيناً ، او منفعة ، او خدمة ، ولذلك اشترط الجمهور في الأجرة ما اشترط في الثمن .

 قال الرافعي والنووي :  (يجوز أن تكون الأجرة منفعة سواء اتفق الجنس كما إذا أجر داراً بمنفعة ، او اختلف بأن أجرها بمنفعة شخص ، ولا ربا في المنافع أصلاً حتى لو أجرها بمنفعة شخص ، ولا ربا في المنافع أصلاً حتى لو أجر داراً بمنفعة دارين ، او أجر حلي بذهب جاز ، ولا يشترط القبض في المجلس)  ، منع الحنفية أن تكون الأجرة منافع .