ولما دخل الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة بدأ بكتابة صحيفة مع اليهود أعطاهم جميع المواطنة والمناصرة والمساهمة في الدفاع عن المدينة ، وتحديد الحقوق والواجبات ، حيث تنصّ بنودها على : ( انه من تبعانا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم ) وعلى : ( أن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم إلاّ من ظلم نفسه فإنه لا يوقع إلاّ نفسه وأهل بيته ) ثم ذكر بقية قبائل اليهود ، ثم نصت على : ( أن بطانة يهود كأنفسهم ) ، وعلى : ( أن على اليهود نفقتهم ، وعلى المسلمين نفقتهم ، وأن بينهم النصر على من حارب أهل ذمة هذه الصحيفة ، وأن بينهم النصح والنصيحة والبرّ دون الاثم ) ، وعلى : ( أنه لا يأثم امرؤ بحليفه ، وأن النصر للمظلوم ) ، والخلاصة أن هذه الوثيقة التي هي بمثابة دستور للتعايش السلمي في المدينة أعطت الحقوق الكاملة لليهود ، لكنهم لم يقضوها ولم يلتزموا ببنودها ، بل خانوا العهد ، وتعاونوا مع القريش وغيرهم في القضاء على المسلمين مما اضطر الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه أن يتعاملوا معهم على هذا الأساس .
ولم يحدث صراع حربي المسلمين واليهود فيما بعد عصر الرسول صلى الله عليه وسلم بل عاش اليهود في ظل الدولة الإسلامية منذ عصر الخلافة الراشدة ، والخلافة الأموية والعباسية والعثمانية متمتعين بجميع حقوقهم وحريتهم الدينية ، ومنحت لهم مناصب علمية وإدارية رفيعة وكانت لهم مساهمات في العلوم والحضارة الإسلامية إلى أن بدأت الحركة الصهيونية في أواخر القرن التاسع عشر بالتخطيط لدولة يهودية على ارض فلسطين ، ثم القيام بهجرات جماعية إلى فلسطين ، ثم قيام عصاباتها بالقتل والإبادة للفلسطينيين ن ثم تكوين دولة على أرض فلسطين على أساس الاحتلال والنزعة التوسعية من خلال الحروب التي خاضتها مع العرب منذ قيامها إلى اليوم .
وإذا نظرنا إلى هذا الصراع يرى أن هذا الصراع لم يصنعه المسلمون ، ولا بدؤوهم بالعدوان ، وإنما بدأه اليهود وهم صُنّاعه ومنظروه والمدافعون عنه ، والمؤصلون له تأصيلاً دينياً بناء على أن فلسطين أرض الميعاد التي أعطى الله لنسل إبراهيم كما في سفر التكوين ( 15/8 ـ21 ) كما سبق .
ولو ناقشنا دعواهم لوجدناها أوهن من بيت العنكبوت حيث تقف أمام النقد والمناقشة ، وذلك لأن اليهود لم يكن لهم دولة ولا سيطرة على فلسطين منذ حوالي ألفي سنة ، ومن جانب آخر فإن نسل إبراهيم المباشرين من أولاده وأحفاده لم يملكوا ذراعاً من أرض فلسطين فيعقوب ( إسرائيل ) وأولاده عاشوا في مصر ، ثم إن نسل إبراهيم لا ينحصر في اليهود ، فإن لإبراهيم ابناً آخر وهو إسماعيل الذي هو أب العرب فلماذا يكون الوعد خاصاً بهم دون العرب ؟ .
ومن الناحية الدينية فغن الله تعالى أخرج ابن نوح من أهله لأنه عمل غير صالح فقال تعالى : ( يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح ) ، ومن هنا فاليهود حينما ظلوا طريق أبيهم إبراهيم وفعلوا ما فعلوا خرجوا من أهله واستحقوا لعنة الله ( فبما نقضهم ميثاقهم لعنّاهم ) أي أبعدتهم عن رحمتي وخرجوا من كونهم أهلاً لإبراهيم ، وكذلك قال تعالى : ( ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين ) .
فبنو إسرائيل بعدما حرقوا كتاب الله ( التوراة ) وساروا خاضعين لأهوائهم تاركين التعاليم الربانية لم يعودوا أهلاً لإبراهيم عليه السلام حسب النصوص الدينية التي تجعل الالتزام بشرع اله شرطاً لانتساب أحد إلى هؤلاء الأنبياء .
فالصراع الحالي بين اليهود والمسلمين ليس من صنع المسلمين ، ولا العرب ولا الفلسطينيين ، وإنما من صنع اليهود أنفسهم ومستمرون فيه ، يؤمنون به ويجعلون ذلك جزءاً من عقيدتهم وكتابيهم التوراة والتلمود ـ كما سبق ـ
والدفاع عن الحقوق حق مشروع مؤصل في جميع الأديان السماوية والقوانين الدولية ، وهذا الدفاع يسميه الإسلام بالجهاد الذي لا ينحصر معناه في القتال ، بل هو يعني به بذل كل الجهد المستطاع لتحقيق الغايات السامية ، من تحرير الإنسان من كل عبودية لغير الله تعالى ، لذلك فهو يشمل الجهاد بالكلمة والفكر والمال وكل الوسائل المشروعة المتاحة ، وأما القتال فهو مشروع لردّ العدوان ولدرء الفتنة وبشرط أن يكون في سبيل الله ، لا في سبيل الدنيا ، ولا المال ، ولا السيطرة الجاه ، ولا لاستعمار الأرض ونحْوها ، دون اعتداء ولا تجاوز عن الحدود والحقوق ، وإنما لغاية واحدة وهي ( في سبيل الله ) فقال تعالى : ( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشدّ من القتل …. ) .