المبحث الأول : رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم للناس أجمعين
ورحمة الرسول صلى الله عليه وسلم تشمل المسلمين المؤمنين ، وغير المسلمين ، لذلك نتكلم بإيجاز عن هذين النوعين في مطلبين :
المطلب الأول : رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين :
وهذه الرحمة نوعان : الرحمة العامة ، والرحمة الخاصة بالأفراد .
النوع الأول ـ الرحمة العامة بالمؤمنين :
وهذه الرحمة تشمل ما يأتي وبإيجاز :
أولاً ـ هداية المؤمنين إلى دين الرحمة والوسطية ، والسعادة في الدنيا والآخرة ، وإنقاذهم من ظلمات الجهل والكفر والفسق والفجور ( الهداية إلى هذا الدين العظيم والصراط المستقيم ) .
ثانياً ـ تحرير البشرية من كل عبودية لأي مخلوق هما كان فضله وعظمته ، وفي ذلك قمة التحرر ، حيث نقل الرسول الكريم من عبودية البشر والخضوع لهم إلى عبودية الله تعالى .
فقد بعث الرسول صلى الله عليه وسلم في عصر ساد فيه الشرك العالم كله وصربت الوثنية أطنابها بين الناس ، سواء كانت بين العرب أم غيرهم ، فكان الناس يعبدون ويخضعون لأنواع من المخلوقات من الأصنام والبشر ، حتى بلغ الشرك بعض منتسبي الأديان السماوية ويعتقدون أن سيدنا عيسى هو ثالث ثلاثة ( الله ، مريم ، عيسى ) وإن كانون يقولون في عبارة غير مفهومة وهي ( ثلاثة في واحد ، وواحد في ثلاثة ) ، فأنقذ الله تعالى البشرية من هذا الخضوع والعبودية لغير الله تعالى ، ودعا إلى توحيد الله وحده في ربوبيته وألوهيته ، واستحقاقه للعبودية والطاعة المطلقة له وحده دون سواه ، فرفع شعار ( لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ) وهذه خلاصة رسالة الإسلام حيث عبر عنها ربعي بن عامر عندما خاطب عظماء الفرس فقال : ( إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله ، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ، ومن جور الأديان إلى عدل الأديان )[1] .
وهذه هو الجديد الذي الذي أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم في العصر الذي سادت فيه الوثنية والشرك ، ولهذا التوحيد آثار عظيمة على نفسية الموحد ، وسلوكياته وتصرفاته ، حيث لا يسجد الإنسان ولا يركع ، ولا يخضع إلاّ لله تعالى وحده .
ثالثاً ـ رفض الواسطية بين العبد وربه ، فقد ابتدع معظم أهل الأديان السماوية ـ ناهيك عن غيرها ـ وسائط بين الانسان وربه حتى ولو كان الإيمان بالله تعالى في الظاهر ، أو بوحدانية الله تعالى موجوداً ، وظهر أثر ذلك في تصرفات القسيسيين مع أتباعهم في اعترافهم بذنوبهم أمام هؤلاء القسيسيين ، ثم إعطاؤهم صكوك الغفران ، وفي بعض الأحيان كانت تعطى صكوك الغفران فقال تعالى : ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ )[2] يقول الفرنسي ايتين دينيه الذي سمى نفسه بعد إصلامه ( نصر الدين ) في كتابه ( محمد رسول الله ) وهو يتحدث عن ميزات الرسالة وعالميتها ودورها الممكن في المستقبل إذ يقول : ( وهناك شيء مهم وهو انتفاء الواسطة بين العبد وربه ، وهذا هو الذي وجده أهل العقول العملية في الاسلام ، لخلوه من الأسرار ومعبادة القديسين ، ولا حاجة به إلى الهياكل والمعابد ، لأن الأرض كلها مسجد لله ، وفوق ذلك قد يجد بعض أهل مذهب الاعتقاد بالله دون غيره من التطلع … قد يجدون في الاسلام المذهب النقي للاعتقاد بالله فيجدون فيه أبدع وأسمى أعمال العبادة )[3] .
رابعاً ـ تحرير الانسان من الخوف من المستقبل والقلق واليأس والكآبة ، من خلال الإيمان بالقضاء والقدر مع الأخذ بكل الأسباب المادية .
فهذا الايمان بالقضاء والقدر يجعل الانسان المؤمن في حالة من الأمن والأمان ، وعدم الهم والحزن والأسى على ما فاته ما دام لم يقصر في الأخذ بالأسباب ، لأنه من عند الله تعالى فقال تعالى : ( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ )[4] .
فهذا الايمان يجعل صاحبه في توازن نفسي واستقرار حقيقي ، واطمئنان كبير ، حيث لا تؤثر فيه المصائب ولا تجعله هلعاً ، كما أنا لتعم والمسرات لا تجعله مغروراً بطراً .
خامساً ـ احرتام عقل الانسان وتحريره من الخرافات ، فقد أعطى الاسلام قيمة كبرى للعقل الانسان وتفكيره ، فأمر بالنظر والاعتبار ، وجعل التفكير في خلق السماوات والأرض واقامة الحجة والبرهان العقلي ، فريضة فقال تعالى : ( قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ )[5] ، والنصوص الشرعية في احترام العقل وأهمية الفكر ، والتدبر ، والتعقل والتفقه ، … أكثر من أن تحصى ، إضافة إلى أن العقل هو مناط التكليف ، كما أعلن الإسلام عن حرب حقيقية ضد الخرافات والدجل ، والشعوذة والاستعانة بالجن والعفاريت ، ونحوها ، من حيث أنه حصر العلم بالغيب في ذات الله العلية فقط ، قال تعالى : ( فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ)[6] وحكى الله عن الجنّ قولهم : ( وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً )[7] .
ومن حيث بينا أن الجن لا يملكون شيئاً من السلطان على الانسان ، فالسطان لله تعالى ، فقال تعالى على لسانهم : (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً )[8] .
وفي هذا المجال فقد أغلق الله تعالى كل مصادر المعرفة بالغيب ( الجن والملائكة والعالم الآخر ) إلاّ مصدراً واحداً فقط ، وهو الوحي الصحيح المتمثل في القرآن الكريم ، والأحاديث الثابتة حيث يحرم الخوض في هذا العالم إلاّ من خلال الوحي ، ولذلك منع العقل عن الخوض في هذا الباب فقط ، لأنه لا يستطيع الوصول فيه إلى أي شيء ، لذلك وجهه الاسلام إلى ما هو مجاله وهو الكون المادي الفسيح ، وهذا هو المطلوب منه لأداء رسالة الاتسخلاف والتعمير التي خلق الله تعالى لأجلها مع تحقيق غاية العبودية التي تصلح هذا الانسان ليكون أهلاً لما كلف الله تعالى به من الصلاح والاصلاح .
ولذلك فإن العقول الكبيرة لفلاسفة اليونان والاغريق ( أمثال أرسطو وبقراط ) انشغلت بعالم ما وراء الطبيعة ( الميتافيزيقيا ) مئات النسين ، ولم تحقق نتائج مفيدة تذكر ، في حين أن علماء المسلمين الذين ساروا على هذا المنهج القرآن ، والمنهج التجريبي المنبثق منه ، فلم يشلوا عقولهم بعالم ما وراء الطبيعة ، بل أشغلوا بالعلوم الانسانية والكونية والطبيعية ، استطاعوا خلال فترة وجيزة أن يبدعوا في مختلف العلوم ، ويحققول حضارة خلال أقل من قرنين .
ولم يكتف الاسلام بهذا التوجيه الرباني العظيم ، بل أرشد العقل ، وساعده على معرفة ما في الكون من أسرار واختصر له الطريق في كثير من القضايا العلمية ، فعلى سبيل المثال أوضح له كيفية خلق الكون، وأن مرجعه إلى دخان ( غازات ) فماء ، فقطعة واحدة تفتت منها بقية السموات والأرض فقال تعالى : ( أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ )[9] ناهيك عن خلق الانسان ، ومراحل حياته في بطن أمه بدقة متناهية لم يستطع العلم الحديث أن تيجاوزها على الرغم من تقدمه الهائل في هذا المجال .
سادساً ـ المنهج الوسطي المعتدل في كل شيء ، فمنهج الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم منهج فريد يجمع بين الأخذ بالخيرات والمصالح والمنافع كلها ، والابتعاد عن الشرور والمضار والخبائث كلها ، يجمع بين حاجات الروح ومطاب الجسد ، وبين العقل ، والعاطفة ، يجمع بين العزة المطلوبة ، والتواضع المطلوب ، يجمع بين العمل للدنيا ” حسنة الدنيا ” والعمل للآخرة ” حسنة الآخرة ” وهذا شعار المؤمن في دعائة ( رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ )[10] ، يجمع بين المثالية والواقعية ..
كل ذلك في توازن فريد ، واتساق عجيب دون غلو وافراط ، ولا تفلت أو تفريط ، فقال تعالى : (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ )[11] .
وقد تحقق ذلك من خلال الرعيل الأول الذين وصفهم الله تعالى بقوله : ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ )[12] ، وقد ذم الله تعالى الرهبانية فقال تعالى : ( وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ )[13] ولذلك كان شعار المؤمنين : ( ربانية لا رهبانية ) .
وقد جعل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم المنهج الوسط سنته التي إذا لم تتبع فقد تحقق الانحراف حيث يقول في قضية الثلاثة الذين بالغلوا ، فقال أحدهم إني أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً ، وقال الآخر إني أصوم الدهر فلا أفطر ، وقال الآخر إني أقيم الليل كله ولا أنام ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( فوالله إني لأخشاكم لله وأتقاكم به ، ولكني أصوم ، وأفطر ، وأصلي ، وأرقد ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني ) رواه البخاري ومسلم .
سابعاً ـ رحمته بأمته في الدنيا والآخرة ، وتشمل هذه الرحمة بأسرته وآل بيته الأطهار ، وصحبه الأخيار ، وبأمته ، ولا يسع المجال للخوض في تفاصيل هذا الجانب الواسع ، ولكن نذكر بعض شواهد منها :
-
رحمته بزوجاته ، وبالأخص أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها ، حيث كان وفياً لها يدعو لها ، ويذكرها دائماً بالخير والدعاء ولا يفضل عليها أحداً من النساء ، وكذلك الحال بالنسبة لأم المؤمنين السيدة عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما ، حيث كان يحبها ويراعى عمرها وسنها ، فأجاز لها اللعب بالمجسمات مع بنات الأنصار ، كما أنه صلى الله عليه وسلم ن شدة رحمته بعواطفها أنه كان يستابق معها ، ويصحبها ويبقى معها لتتفرج على ألعاب الحبشة بالشيش والحراب في العيد ، والرسول صلى الله عليه وسلم يشجعهم ، وعائشة معتمدة على ساعد الرسول صلى الله عليه وسلم حتى شبعت من التفرج[14] .
-
رحمته بأولاده وبناته ، وعلى رأسهم السيدة فاطمة الصديقة سيدة نساء العالمين ( رضي الله عنها وأرضاها ) حيث كان يحبها حباً حماً حتى خصها بخبر موته ، وبخبر أنها أول من تلحقه ، ولذلك حينما مات الرسول صلى الله عليه وسلم في مرض موته كانت فزعة ، ولكن أسر إلياه الرسول صلى الله عليه وسلم فأخبرها بأنه يموت فبكت ، ثم أخبرها بأنها أول من تلحق به وتتبعه ، فضحكت[15] ، ولما مات ابنه صلى الله عليه وسلم ابراهم قال : ( إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع …… )[16] ، وكان حبه لأحفاده ورحمته بهم عظيماً فكان حبه لسيدي شباب أهل الجنة الحسن والحسيت كبيراً لا يوصف ، فكان يقبلهما ويشمهما ويسميهما : ريحانتي[17] ، ويقول فيهما : ( إنهما سيدا شباب أهل الجنة ) ويقول : ( اللهم إني أحبهما ، فأحبهما ، وأحب من يحبهما )[18] وروى عن أبي مزرد قال : سمعت أبا هريرة يقول : ( أبصرت عيناي هاتان ، وسمعت أذناي رسول الله ، وهو آخذ بكفي الحسين وقدماه على قدم رسول الله صلى الله عله وسلم )[19] .
-
رحمته بصحابته ، حيث تظهر من خلال عنايته بهم ، وتقديمهم على نفسه في الصدقات والخيرات والغنائم .
-
رحمته بالنساء ، حيث كانت وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم مركزة على الرحمة والاحسان إلى النساء .
-
رحمته بالأطفال ، ويكفي للاشارة إلى أنه كان يحفظ صلاة الفجر التي كان يحب الاطالة فيها إذا سمع بكاء الأطفال ، وكان ينزل من المنبر ، حتى يحمل أحد أحفاده وهو طفل ، وهكذا .. .
([1]) تأريخ البداية والنهاية ( 7/39 )
([2]) سورة التوبة / الآية 31
([3]) كتاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ص 362- 363
([4]) سورة الحديد / الآية 22
([5]) سورة يونس / الآية 101
([6]) سورة سبأ / الآية 14
([7]) سورة الجن / الآية 8
([8]) سورة الجن / الآية 6
([9]) سورة الأنبياء / الآية 30
([10]) سورة البقرة / الآية 201
([11]) سورة القصص / الآية 77
([12]) سورة النور / الآية 36 – 37
([13]) سورة الحديد / الآية27
([14]) صحيح البخاري (5/138) ويراجع : رحمة للعالين للقاضي محمد سليمان ط. الدار السلفية بالهند 1412هـ (1/286)
([15]) يراجع : رحمة للعالين للقاضي محمد سليمان ط. الدار السلفية بالهند 1412هـ
([16]) يراجع : رحمة للعالين للقاضي محمد سليمان ط. الدار السلفية بالهند 1412هـ
([17]) الاستيعاب ( 1/385)
([18]) الاستيعاب (1/385…… )
([19])