الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين محمد ، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين …..

وبعد

    فقد كلفتني الهيئة العالمية للزكاة بكتابة بحث حول زكاة الثروة المعدنية والبحرية لمناقشته في ندوتها الرابعة عشرة الخاصة بقضايا الزكاة المعاصرة ، ولكن بعد الدراسة وجدت أن زكاة الثروة المعدنية لا يمكن معرفتها معرفة دقيقة مفصلة ومؤصلة إلاّ مع معرفة زكاة الركاز والكنز ، وذلك لوجود تداخل بين هذه المصطلحات الثلاثة ، وتشابك بينها ، واختلاف لغوي وفقهي حولها ، وضرورة ضبط المصطلحات عند الفقهاء ، حيث إن عدم ضبطها يؤدي إلى ثني الزكاة في بعض الحالات ، أو عدم وجوب الزكاة فيها .

  ولذلك آثرت دراسة هذه المصطلحات الثلاثة (المعدن ، والكنز ، والركاز) دراسة لغوية وفي الكتاب والسنة ولدى الفقهاء ، للوصول إلى ما هو الراجح في ذلك .

  ثم خضنا في موضوع ملكية هذه الأشياء الثلاثة الركاز ، والمعادن ، والكنوز ، وذلك لأن الزكاة تابعة للملكية الخاصة التامة ، فإذا لم نعرف نوعية ملكيتها لم نتمكن من معرفة الزكاة فيها معرفة دقيقة ، ولا سيما أن الفقهاء مختلفون في بعضها اختلافاً كبيراً كما سنشاهده فيما بعد ـ بإذن الله ـ .

  ثم بعد ذلك بينا مدى وجوب الزكاة ومقدارها ، مع الدقة في إسناد الآراء الفقهية في الزكاة لأصحابها بالموازاة ، والموازنة ، مع آرائهم في مسـألة الملكية.

  ثم تحدثنا عن زكاة الثروة البحرية ، وفرقنا في الحكم بين الأسماك ونحوها من الحيوانات البحرية التي تصطاد ، وبين المعادن الموجودة مثل الجواهر الموجودة فيه ، كما تطرقنا إلى مقدار الحق الواجب فيها ، والفروق الجوهرية بين الخمس والزكاة ، كما بينا مدى اشتراط النصاب ، والحول ، والمصرف لكل من الكنز والمعدن ، ونحو ذلك  .

 وأملي أن أكون قد وفقت في عرض الموضوع عرضاً صحيحاً دقيقاً ، وفي تحقيق نتائجه المنشودة ، وأن يكون عملي هذا مقبولاً لدى الحكيم الخبير .                                                                              

التعريف بالعنوان :

تمهيد :

  المقصود بالثروة المعدنية هي المواد الخام والفلزات الموجودة داخل الأرض ، لكن نجد في مقابلها مصطلحات أخرى مثل الكنز والركاز لذلك ينبغي أن نعرّف بكل ما يتضمنه العنوان ، مع بيان آراء الفقهاء في دلالاتها :

أولاً ـ الزكاة : لغة هي البركة ، والنماء ، والطهارة ، والصلاح والمدح ، وصفوة الشيء ، من زكا الشيء إذا نما ، وزاد[1] .

وفي الاصطلاح : هي الحصة المقدرة من المال التي فرضها الله تعالى للمستحقين ، كما تطلق على إخراج هذه الحصة نفسه[2] .

ثانياً ـ المعدن : لغة هو مكان كل شيء ، ومعدن كل شيء أصله ومركزه ، وموضع استخراج الجوهر من ذهب ، ونحوه ، والفلز (في لغة العلم) وفي الكيمياء المركبات غير العضوية التي توجد في الأرض ، وقد تطلق على مواد عضوية كالزيت المعدني ، والفحم ونحوهما ، وجمعه (معادن)[3] .

  فالمعادن هي الأماكن التي تستخرج منها جواهر الأرض ، كالذهب والفضة ، والنحاس ، والحديد ، والنفط ، والغاز ، والملح ، والجص ، ونحوها ، ثم اشتهر إطلاق المعادن على هذه الأشياء المستقرة نفسها ، وكلا المعنيين للمعدن وارد في الفقه الإسلامي ، حيث أطلقه الفقهاء على جواهر الأرض ، وعلى مكانها أيضاً [4] وقد جاء في فتح القدير : (فأصل المعدن المكان بقيد الاستقرار فيه ، ثم اشتهر في نفس الأجزاء المستقرة التي ركبها  الله تعالى في الأرض يوم خلق الأرض حتى صار الانتقال من اللفظ إليه ابتداء بلا قرينة ، والكنز للمثبت فيها من الأموال بفعل الإنسان ، والركاز يعمهما لأنه من الركز مرادا به المركوز أعم من كون راكزه الخالق أو المخلوق فكان حقيقة فيهما مشتركا معنويا وليس خالصا بالدفين ، ولو دار الأمر فيه بين كونه مجازا فيه أو متواطئا إذ لا شك في صحة إطلاقه على المعدن كان التواطؤ متعينا ، وإذا عرف هذا فاعلم أن المستخرج من المعدن ثلاثة أنواع : جامد يذوب وينطبع كالنقدين والحديد وما ذكره المصنف معه ، وجامد لا ينطبع كالجص والنورة والكحل والزرنيخ وسائر الأحجار كالياقوت والملح ، وما ليس بجامد كالماء والقير والنفط . ولا يجب الخمس إلا في النوع الأول)[5].

ثالثاً ـ الكنز : فهو في اللغة ادخار المال وجمعه دون إنفاق ، والمال المدفون تحت الأرض ، أو المال المدخر من كنز المال كنزاً أي دفنه تحت الأرض ، وجمعه وادخره فهو كانز وفي القرآن الكريم (…هَـٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ )[6] ، وله معان أخرى[7] .

وفي الاصطلاح الفقهي : هو المال الذي دفنه بنو آدم في الأرض[8] وكذلك يطلق على المال الذي لم يدفع فيه حق الله تعالى ، وبهذا ورد في القرآن الكريم حيث يقول الله تعالى 🙁 وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ  يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ)[9] .

 قال ابن كثير : ( وأما الكنز فقال مالك عن عبدالله بن دينار عن ابن عمر : هو المال الذي لا تؤدى زكاته ، وروى مالك والثوري وغيرهما عن عبيدالله عن نافع عن ابن عمر قال : ( ما أدى زكاته فليس بكنز….) ولفظ مالك عن عبدالله بن دينار أنه قال : سمعت عبدالله بن عمر ، وهو يسأل عن الكنز ما هو ؟ فقال : ( هو المال الذي لا تؤدى منه الزكاة)[10] وهذا المعنى أيضاً روي مرفوعاً عن أم سلمة قالت : (كنت ألبس أوضاحاً من ذهب ، فقلت : يا رسول الله أكنز هو ؟ فقال : (ما بلغ أن تؤدى زكاته فزكى فليس بكنز)[11].

 جاء في عون المعبود : ( وعلى هذا التفسير جمهور العلماء ، وفقهاء الأمصار ، وأخرج البيهقي عن ابن عمر مرفوعاً : ( كل ما أديت زكاته فهو كنز وإن كان ظاهراً على وجه الأرض) قال البيهقي : ليس بمحفوظ والمشهور وقفه ، قال ابن عبدالبر ، ويشهد له حديث أبي هريرة مرفوعاً : (إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك) أخرجه الترمذي وقال : حسن غريب ، وصححه الحاكم ، وقال ابن عبد البر ، وفي سند حديث أم سلمة مقال ، وقال الزين العراقي (سنده جيد) وروى ابن أبي شيبة عن ابن عباس : (ما أدى زكاته فليس بكنز) وللحاكم عن جابر مرفوعاً : (إذا أديت زكاة مالك فقد أذهبت عنك شره) ورواه عبدالرزاق مرفوعاً[12] .

  وعلى ضوء ما قاله المفسرون : إن الكنز في القرآن الكريم قد جاء بمعنيين :

أولهما : المال المدخر الذي لم تدفع عنه زكاة ، وهو المراد بقوله تعالى (…وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ  يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ)[13] حيث إن جمهور المفسرين على هذا المعنى مستندين في ذلك على بعض الأحاديث والآثار المرفوعة والموقوفة .

  فقد ذكر ابن كثير أن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ( لما نزلت هذه الآية ….كبر ذلك على المسلمين ، وقالوا : ما يستطيع أحد منا يدع لولده مالاً يبقى بعده ، فقال عمر : فأنا أفرج عنكم ، فانطلق عمر واتبعه ثوبان فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا نبي الله قد كبر على أصحابك هذه الآية ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله لم يفرض الزكاة إلاّ ليطيب بها ما تبقى من أموالكم ، وإنما فرض المواريث من أموال تبقى بعدكم) فكبر عمر[14] وروى مسلم في صحيحه من حديث سهل بن أبي صالح عن أبيه ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلاّ جعل له يوم القيامة صفائح من نار فيكوى بها جنبه ، وجبينه ، وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة……)[15] .  

  وذهب أبو ذر رضي الله عنه إلى أن الكنز لا ينتفي إلاّ بالانفاق بكل ما فضل عن الحاجة وأنه كان من مذهبه تحريم ادخار ما زاد على نفقة العيال ، حيث روى البخاري رأيه هذا في صحيحه[16] ، وأنه كان يحتج بالآية السابقة ، في حين أن معاونه كان يرى أن هذه الآية نزلت في أهل الكتاب حيث إن بداية الآية (يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلأَْحْبَارِ وَٱلرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلنَّاسِ بِـﭑلْبَـٰطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ…..)[17] .

  غير أن جمهور المفسرين من الصحابة ومن جاءوا بعدهم فسروا ذلك بما ذكرنا وهو ان الكنز هو المال المدخر الذي لم تؤد عنه الزكاة وهو الراجح الذي تجمع به النصوص ، ويدل عليه القرآن الكريم وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث روى الشيخان بسندهما أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلاّ إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فيكوى بها) ، كما يدل على ذلك سيرته العطرة صلى الله عليه وسلم ، وسيرة الخلافة الراشدة[18] . 

ثانيهما : الذهب والفضة مطلقاً ، وهذا ما ورد في سورة الكهف فقال تعالى : (وَأَمَّا ٱلْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَـٰمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِى ٱلْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَـٰلِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ……..)[19] حيث روى الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في تفسيره (ذهب وفضة)[20] وهذا ما فسره جمهور المفسرين بنحو ذلك ، قال عكرمة وقتادة ، وغير واحد : ( وكان تحته مال مدفون لهما ، قال ابن كثير وهو ظاهر السـياق وهو اختيار ابن جرير)[21] .

  فقد روى البزار بسنده عن أبي ذر رفعه قال : ( إن الكنز الذي ذكره الله في كتابه : لوح من الذهب مصمت مكتوب فيه : عجبت لمن أيقن بالقدر لم نَصَبَ وعجبت لمن ذكر النار لم ضحك ، وعجبت لمن ذكر الموت لم غفل ، لا إله إلاّ الله محمد رسـول الله……) وقال الحسن البصري : ( لوح من ذهب مكتوب فيه بسم الله الرحمن الرحيم……. الخ ) ثم روى الطبري وابن كثير وغيرهما كثيراً من أقوال السلف بهذا المعنى….)[22] .

  وهذا أيضاً هو ما ورد في قوله تعالى في سورة الإسراء حكاية عن الكفرة الذي قالوا لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم : (…أَوْ يُلْقَىٰ إِلَيْهِ كَنْزٌ….)[23] أي كنز من الذهب والفضة .  فالكنز في حقيقته وعلى إطلاقه هو المال (وبالأخص الذهب والفضة والنقود) المدخر فإن أدى منه الزكاة لم يعد كنزاً مذموماً وإلاّ فهو كنز مذموم يستحق عليه الوعيد الشديد ، يقول الثعالبي : ( وليس من شرط الكنز : الدفن ، والتوعد في الكنز ، إنما وقع على منع الحقوق منه ، وعلى هذا كثير من العلماء)[24] بل إن الإمام البخاري عقد باباً ترجم له : باب : (ما أدى زكاته فليس بكنز) ثم أورد للاستدلال على ذلك عدة أحاديث[25].

  ولكن الكنز يطلق مقيداً بالوصف أو بالإضافة على غير المال مثل العلم ، أو القناعة ، أو سورة الفاتحة ، أو خواتيم البقرة ، أو الرجال ، أو بعض الأدعية والنصائح ، وعلى : لا حول ولا قوة إلاّ بالله أنها كنز من كنوز الجنة[26] .

  وقدأطلق الكنز على كل ذلك في لغة العرب ، وفي الآثار[27] وكذلك فسر قوله تعالى : (وَأَخْرَجَتِ ٱلأَرْضُ أَثْقَالَهَا)[28] بكنوزها[29] . 

   فهذه الإطلاقات للكنز لا تتعارض مع حقيقته اللغوية والشرعية المتمثلة في المال المدخر من الذهب والفضة ، حيث ورد في الحديث الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : (إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها ، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها ، وأعطيت الكنزين : الأحمر والأبيض…..)[30] .

  كما روى مسلم في صحيحه أنه صلى الله عليه وسلم قال : (يوشك الفرات أن يحسر عن كنز من ذهب فمن حضره فلا يأخذ منه شيئاً)[31] . 

  وقد لخص الإمام الطبري معنى الكنز حيث قال : (واختلف أهل العلم في معنى الكنز فقال بعضهم هو كل مال وجبت فيه الزكاة فلم تؤد زكاته ، قالوا : وعني بقوله : (وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ) : ولا يؤدون زكاتها) ثم روى بسنده عن ابن عمر فوله : ( كل ما أديت زكاته فليس بكنز وإن كان مدفوناً ، وكل مال لم تؤد زكاته فهو الكنز الذي ذكره الله في القرآن الكريم يكوى به صاحبه وإن لم يكن مدفوناً …وقال آخرون : كل مال زاد على أربعة آلاف درهم فهو كنز ، أديت منه الزكاة أو لم تؤد…) وهو مروى عن علي)[32] . 

رابعاً ـ الركاز : لغة من ركز شيئاً في شيء ركزاً : أقره ، وأثبته ، وغرزه ، وركز الله المعادن في الأرض : أوجدها في باطنها ، وهذا شيء مركوز في العقود أي مثبت فيها ، والركاز ما ركزه الله في الأرض من المعادن[33]. 

وفي الاصطلاح اختلف في تعريفه الفقهاء ، حيث ذهب الحنفية إلى أن الركاز هو مال مركوز تحت أرض سواء كان معدناً أو كنزاً ، قال البابرتي : (والمال المستخرج من الأرض له أسام ثلاثة : الكنز ، والمعدن ، والركاز ، والكنز : اسم لما دفنه بنو آدم ، والمعدن اسم لما خلقه الله تعالى في الأرض يوم خلق الأرض ، والركاز اسم لهما جميعاً ، والكنز مأخوذ من كنز المال كنزاً جمعه ، والمعدن من عدن بالمكان : أقام به ، والركاز من ركز الرمح أي غرزه ، وعلى هذا جاز إطلاقه عليهما جميعاً ، لأن كل واحد منهما مركوز في الأرض أي مثبت وإن اختلف الراكز ، وعلى كل واحد منهام بانفراده[34] .

  فعلى ضوء ذلك فالركاز هو اللفظ العام الشامل للمعدن ، والكنز الجاهلي ، كما أن كلا من المعدن ، والكنز له معناه الخاص به .

  وذهب الجمهور إلى أن الركاز هو ما وجد مدفوناً من عهد الجاهلية ، قال ابن قدامة :  (…الركاز : هو دفين الجاهلية قل أو كثر)[35] وقال النووي : ( وهو ـ أي الركاز ـ دفين الجاهلية …)[36] .  

  وعلى ضوء تفسير الجمهور للركاز أن الركاز هو : دفين الجاهلية ، وبذلك يتفق مع الكنز الجاهلي ، ويختلف عن المعدن اختلافاً كلياً ، وأن علاقته به علاقة تباين .

أثر هذا الخلاف في التفسير :

  هذا الخلاف بين الحنفية والجمهور ليس خلافاً لفظياً لا يترتب عليه آثار فقهية ، وإنما هو خلاف حقيقي معنوي تترتب عليه آثار فقهية ، وبالأخص في مجال الحكم الذي تضمنه الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما بسندهم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (العجماء جُبار ، والبئر جُبار ، والمعدن جُبار، وفي الركاز الخمس)[37] وفي بعض الروايات (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركاز بالخمس)[38] .

  حتى عقد البخاري باباً خاصاً سماه (باب في الركاز الخمس ، وقال مالك وابن ادريس : الركاز دفن الجاهلية ، في قليله وكثيره الخمس ، وليس المعدن بركاز ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في المعدن جُبار وفي الركاز الخمس ، وأخذ عمر بن عبدالعزيز من المعادن من كل مائتين خمسة ، وقال الحسن:ما كان من ركاز في أرض الحرب ففيه الخمس ، وما كان من أرض السلم ففيه الزكاة ، وإن وجدت اللقطة في أرض العدوّ فعرِّفها ، وإن كانت من العدوّ ففيها الخمس.وقال بعض الناس المعدن ركاز مثل دفن الجاهلية ، لأنه يقال:أركز المعدن إذا خرج منه شيء ، قيل له:قد يقال لمن وُهِبَ له شيء أو ربح ربحاً كثيراً أو كثر ثمره أركزْت ، ثم ناقض وقال:لا بأس أن يكتمه فلا يؤدّى الخمس)[39] .  

   فمن قال بأن الركاز يشمل المعدن أجرى الحكم عليه وقال :  بأن في المعدن ـ من حيث المبدأ والقاعدة العامة ـ الخمس (وسيأتي لذلك تفصيل) ومن قال : إن الركاز هو دفين الجاهلية فقط ، وأن المعدن لا يدخل في الركاز قال : إن الخمس خاص بدفين الجاهلية ، وأما المعدن فله حكم آخر إما الزكاة المعهودة في الذهب والفضة وهي ربع العشر (2.5%) أو نحو ذلك كما سيأتي .

  وقد استدل الجمهور بالحديث السابق قال الحافظ ابن حجر : ( والحجة للجمهور تفرقة النبي صلى الله عليه وسلم بين المعدن والركاز بواو العطف ، فصح أنه غيره ، قال : وما ألزم به البخاري القائل المذكور بقوله : قد يقال لمن وهب له الشيء….الخ حجة بالغة ، لأنه لا يلزم من الاشتراك في الأسماء الاشتراك في المعنى …وقد أجمعوا على أن المال الموهوب لا يجب فيه الخمس وإن كان يقال له : أركز ، فكذلك المعدن)[40] .

  واستدلوا كذلك بالمعنى الدقيق لكل من الركاز والمعدن ، حيث قال الزين بن المنير : كأن الركاز مأخوذ من أركزته في الأرض إذا غرزته فيها ، وأما المعدن فإنه يثبت في الأرض بغير وضع واضع ، هذه حقيقتهما فإذاً افترقا في أصلهما فكذلك في حكمهما)[41] .

  ومن جانب ثالث أن تطبيق حكم الركاز أي الخمس على المعدن يختلف مع القواعد العامة في مقادير الزكاة حيث يقول الحافظ ابن حجر : ( والفرق بين المعدن والركاز في الوجوب وعدمه أن المعدن يحتاج إلى عمل ومؤنة ومعالجة لاستخراجه بخلاف الركاز ، وقد جرت عادة الشرع : أن ما غلظت مؤنته خفف عنه في قدر الزكاة ، وما خفت زيد فيه ، وقيل إنما جعل في الركاز الخمس ؛ لأنه مال الكافر فنزل من وجده منزلة الغنائم ، فكان له أربعة أخماسه)[42] .  

اعلى الصفحه

LinkedInPin