تحدثنا في الخطبة السابقة عن أهمية الإصلاح، وأن أمتنا لا يمكن أن تعود لها عزتها ولا كرامتها ولا وحدتها ولا قوتها إلا إذا قامت الأمة بإصلاح نفسها وداخلها وأنظمتها، فإذا تم الإصلاح ملت الخيرات وتوالت البركات.

كما بينا أن الإصلاح كان شعار الأنبياء في أقوامهم ليرتقوا بأمم من أحوال الردى إلى أعلى عليين، فقد جاء على لسان سيدنا شعيب عليه السلام {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}.

وقد تكلمنا عن إصلاح الروح حتى تكون روح الإنسان عالية شامخة كريمة سامية، بعيد كل البعد عن الذل والانحطاط، وغير ذلك مما يُخرجها عن دائرة تكريم الله تعالى لها، فكرامة المرء في عزته.

واليوم نتحدث عن العنصر الداخلي الثاني الذي ر يقل أهمية في الإصلاح عن إصلاح الروح، ألا وهو إصلاح القلب، فإصلاحها في غاية الأهمية، وقد ربط الله تعالى بين إصلاح القلوب وسلامتها وبين الفوز والنجاة في الآخرة، حيث يقول الله تعالى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ*إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}.

ولقد تأملت هاتين الآيتين، وقلت: أي العقيدة والعبادات والشعائر والأخلاق والأعمال؟ فوجدت أن سلامة القلب المصدر الأساس والأول في صحة تلك الأمور وقبولها عند الله تعالى، فلا تصح العقيدة ولا تُقبل إلا بالإخلاص، ولا يكون إخلاص بغير سلامة القلب، وكذلك العبادات والشعائر والأخلاق والأقوال والأفعال، فإنها إذا خلت من الإخلاص كانت صوراً وأشكالاً تؤدى، وما تعدت إلا أن تكون طقوساً تمارس، ولا صحة لها ولا قبول عن الله تعالى.

كما أن كل صفة جميلة حميدة لا يريد بها صاحبها وجه الله تعالى، وأراد بها التملق والتزلف والقربى من فلان وإلى فلان، تحولت إلى صفات مقيتة، وإلى خلق ذميمة لا وزن لها ولا قيمة عند الله تعالى.

إن قوله تعالى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ*إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} تشمل حقاً كل ما يتعلق بالعقيدة والعبادات والشريعة والأحكام والأخلاق والآداب، وككل ذلك متوقف على سلامة القلب، فالقلب السليم مفجر للطاقات، ومحفز لأداء الشعائر، ومصدر للخيرات، وأساس كل شيء ومقصد المقاصد.

ولقد أشار إلى ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله:" أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ"، كما بين أن استقامة الإيمان متوقفة على استقامة القلب، حيث قال:" لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ"؛ لأنه لا قبول لعقيدة ولا عمل دون أن تكون نابعة من قلب مفعم بالإخلاص، سليم من الشوائب.

ويكفي في عناية الإسلام بالقلب وحرصه على سلامته، وتأكيده على أهميته وضرورة نقائه أن الله تعالى ذكر القلب وما يتعلق به من الفؤاد والصدور في 194 آية، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أكثر دعائه أن يربط الله على قلبه، ويثبته على طاعته ودينه، فقد جاء عن شهر بن حوشب رضي الله عنه قال:" قُلْتُ لِأُمِّ سَلَمَةَ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ مَا كَانَ أَكْثَرَ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ عِنْدَكِ قَالَتْ كَانَ أَكْثَرُ دُعَائِهِ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ قَالَتْ فَقُلْتُ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَكْثَرَ دُعَاءَكَ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ قَالَ يَا أُمَّ سَلَمَةَ مَا مِنْ آدَمِيٍّ إِلَّا وَقَلْبُهُ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا شَاءَ أَقَامَ وَمَا شَاءَ أَزَاغَ".

إذا كانت هذه حال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ورفع له ذكره، فما بالنا بالمخطئين المقصرين في جنب الله تعالى؟

إن القلب تعتريه أمراض خطيرة كثيرة، وإن من الأمراض الخطيرة التي تعكر صفو القلب وتذهب بنوره النفاق، سواءً كان على مستوى العقيدة أو الأعمال أو الأشخاص، أو ما يسمى اليوم بالمجاملة أو الدبلوماسية في بعض الأحيان.

إن الإسلام ربى المسلم على أن يكون ذا وجه واحد، وقلب واحد، يستوي عنده السر والعلن، ويكون في الخلوات كما يكون في الحضور والشهود، وجه واحد صادق مخلص ناصح أمين، ولا يرضى به أن يكون ذا وجهين، يلقاك بوجه سمح طلق، حتى إذا غبت عنه تناوشك، وهتك سترك، وفضح أمرك، وكشف سرك، ولقد حذر من ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، حتى جعل ذا الوجهين مهاناً عند الله تعالى لا قيمة له ولا وزن ولا اعتبار، وجعله من شر الناس، قال صلى الله عليه وسلم:" إِنَّ شَرَّ النَّاسِ ذُو الْوَجْهَيْنِ الَّذِي يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ وَهَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ"، وهذا ما يسمى بالنفاق الخلقي، وهو محرم، ومن أخطر أمراض القلب.

ولا يقل الحسد والكراهية خطورة عن النفاق، وهو الذي فرق بين ابني آدم، وحمل أحدهما على قتل أخيه.

والحسد خلق ذميم، لا ينبغي للمسلم أن يتصف به، وهو في حقيقته سوء أدب مع الله تعالى، واعتراض على قدره وتقسيمه للأمور بين العباد، وهو يحلق العمل الصالح ويفنيه ويبدده، وقد حذر من خطورة ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:" دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ هِيَ الْحَالِقَةُ لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ"، وهو نار تشتعل في القلب تسود بياضه، وتأكل رونقه، وتشوه صفاءه، ولا يجوز إلا في صورتين، بينها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:" لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا"، فالحسد الجائز هو في الإنفاق في وجوه الخير وفي البذل والعطاء، وفي تلاوة كتاب الله تعالى، وتدبره والعمل به، وهذا ما يطلق عليه الغبطة.

ولقد تدبرت أحوال أمتنا الإسلامية وبخاصة الأمة العربية فما وجدت غير الحسد داء لها، وما وجدت غيره علة لها، بسبب الحسد فرض الحصار الجائر على قطر وأهلها، ومن أجل الحسد أهدر البعض طائل الأموال في سبيل إلحاق الضرر بالجيران، فعادت تلك النفقات وبالاً عليهم قبل الآخرين، وفي سبيل إرضاء غرور النفس واستجابة لرغباتها وتحقيقاً لأهوائها مدّ البعض يده للتعاون مع العدو المغتصب الذي ينتهك المقدسات، كيداً بالأمة الإسلامية، ومكراً بها، ولكن الله تعالى لهم بالمرصاد، ويمكر الله بهم، وهو خير الماكرين، لن ينجوا من سخط الله تعالى في الدنيا، ولن يحظوا بكرامة الآخرة.

انظروا إلى الاتحاد الأوربي، لا دين يوحد بينهم، ولا لغة تجمعهم، وإنما وحدتهم المصالح، فتكاتفوا، وحمل القوي فيهم الضعيف منهم، ولم يحسدوا بعضهم البعض، ولم يحملوا في يوم من الأيام الشعار القائل" ليسقط فلان حتى أعلو أنا وأستفيد".

الحسد نار تحمي الله تعالى الصادقين منها، ويجعل الحاسدين وقودها، والصبر على الحاسد والدعاء له خير وسيلة للنجاة من ضرره وبوائقه، وقد قال ابن المعتز:

اصبرْ على حَسَدِ الحَسودِ، فإنّ صبركَ قاتله

فالنّارُ تأكُلُ بَعضَها، إنْ لم تجدْ ما تأكله

إن ما يقوم به أبالسة اليوم أعظم خطراً مما يقوم به إبليس الجن، فإن إبليس الآدمي يستغل تفرقنا وتشرذمنا، ويضرب بعضنا بالبعض، لا يرعى فينا حق الإنسانية ولا مبادئ الكرامة والعزة، لا يخاطبنا إلا من خلال مبدأ المال، ينهب خيراتنا، ويستحل ثرواتنا، والبعض منا يدفع له بجود وسخاء.

إن الله تعالى جعل إصلاح القلوب أول مقدمة للإصلاح، وإذا لم تصلح القلوب فلن تصلح الأمة، لا أفراداً ولا جماعات، ولا على مستوى القادة.

كيف نعالج القلوب؟

علينا أن نملأها بذكر الله تعالى {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}، نملؤها بالخوف والوجل والخشية من الله تعالى، فإن ملء القلب بالخوف والخشية يبعد الإنسان عن المعاصي ويقربه من الله تعالى، ويجعل الإخلاص ساكناً في القلب غير مفارق له.

بذلك يصل المرء إلى الفوز برضاء الله تعالى ورحمته وجنته، والأمر يتطلب مراقبة ذاتية دائمة، ومتابعة حثيثة للنفس والقلب وأحوالهما، بحيث يجلس الواحد منا مع نفسه قبل أن يخلد إلى النوم دقائق معدودة، يحاسب فيها نفسه، ويصفي قلبه، ويصلح أحواله، فقد بشر النبي صلى الله عليه وسلم من فعل ذلك بالجنة، جاء في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قوله:" أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ كُنَّا جُلُوسًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ تَنْطِفُ لِحْيَتُهُ مِنْ وُضُوئِهِ قَدْ تَعَلَّقَ نَعْلَيْهِ فِي يَدِهِ الشِّمَالِ فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ ذَلِكَ فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مِثْلَ الْمَرَّةِ الْأُولَى فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ أَيْضًا فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ الْأُولَى فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبِعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ إِنِّي لَاحَيْتُ أَبِي فَأَقْسَمْتُ أَنْ لَا أَدْخُلَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُؤْوِيَنِي إِلَيْكَ حَتَّى تَمْضِيَ فَعَلْتَ قَالَ نَعَمْ قَالَ أَنَسٌ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَاتَ مَعَهُ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلَاثَ فَلَمْ يَرَهُ يَقُومُ مِنْ اللَّيْلِ شَيْئًا غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَّ وَتَقَلَّبَ عَلَى فِرَاشِهِ ذَكَرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَكَبَّرَ حَتَّى يَقُومَ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ يَقُولُ إِلَّا خَيْرًا فَلَمَّا مَضَتْ الثَّلَاثُ لَيَالٍ وَكِدْتُ أَنْ أَحْتَقِرَ عَمَلَهُ قُلْتُ يَا عَبْدَ اللَّهِ إِنِّي لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي غَضَبٌ وَلَا هَجْرٌ ثَمَّ وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَكَ ثَلَاثَ مِرَارٍ يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَطَلَعْتَ أَنْتَ الثَّلَاثَ مِرَارٍ فَأَرَدْتُ أَنْ آوِيَ إِلَيْكَ لِأَنْظُرَ مَا عَمَلُكَ فَأَقْتَدِيَ بِهِ فَلَمْ أَرَكَ تَعْمَلُ كَثِيرَ عَمَلٍ فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ قَالَ فَلَمَّا وَلَّيْتُ دَعَانِي فَقَالَ مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ غَيْرَ أَنِّي لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا وَلَا أَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ وَهِيَ الَّتِي لَا نُطِيقُ".

ليست القضية بكثرة العبادات وأداء الشعائر، وغنما في صفاء القلب، وسلامة النفس، وسمو الروح، وحب المؤمنين، حتى لا يرضى أن يعذب بسببه أحد.

الخطبة الثانية:

هناك من يستغل كلمة" القلب السليم" وبالتالي لا يؤدي عملاً، ولا يلتزم شريعة، ولا يطبق حكماً، بحجة أن قلبه سليم، ولربما أدى بعض الأعمال، وفرط في الكثير منها.

نقوله له: إن سلامة القلب الجزء الأساس لسلامة بقية الأعمال، فلو سلم القلب وأحب الله تعالى لأطاعه صاحبه، ولنفّذ أمره، وطبقه شرعه، وسلك منهجه.

إن قبول العمل متوقف على شرطين أساسيين:

الأول: سلامة القلب، وهي ما يعبر عنها بالإخلاص.

الثاني: موافقة العمل للشريعة، من كتاب الله تعالى وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.

فلا يجوز أن يدعي أحد سلامة القلب، ويهمل في العمل بالأحكام، فكلاهما طوق نجاة، وسبيل فوز الإنسان بكرامة الدنيا والآخرة.

اللهم أصلح قلوبنا

23 / 11 / 2018م