عقد الاستصناع
بين الاتباع والاستقلال ، وبين اللزوم والجواز
تمهيد:
أولى الإِسلام عناية كبرى بالصناعة والاستصناع، في وقت كانت العرب ــ وغيرهم من الأمم ــ تنظر إلى الصناعات والحرف نظرةً فيها التقليل من شأنها، فنزلت الايات الدالاّت على أهمّية الصناعة في حياة الأمّة حتّى قرن الله تعالى الحديد مع القرآن الكريم في الإِنزال: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}[1].
وبيَّن القرآن الكريم في مقام الامتنان بالنعم العظمى أن الله علّم أحد أنبيائه العظام ــ وهو داود عليه السلام ــ صنعة اللباس الحديدي، والدرع حيث يقول: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ}[2].
كمـا يجعـل الـرسـول صلى الله عليه وسلّم الصنـاعـة اليـدويـة، بـل كـل مـا تصنعـه
اليـد من أفضـل الأعمال حيـث يقـول: «مـا أكل أحـد طعامًا قط خيرًا من أن يـأكل مـن عمل يـده، وإن نبـي الله داود عليـه السـلام كـان يأكل مـن عمـل يده»[3].
وجاء فقهاؤنا العظام منذ بداية القرن الثاني الهجري ــ مثل أبـي حنيفة وصاحبيه، وكذلك غيرهم ــ بتنظيم عقد الاستصناع وأهميته، وبيان شروطه وضوابطه، وفروعه ومسائله.
كل ذلك يحدث في هذا الوقت المبكِّر، بينما الغرب لم يصل إلى تقنين عقد الاستصناع إلا في وقت متأخر جدًّا، حيث نرى أن (دافيد) يستغرب جدًا عن عدم وجود تنظيم لعقد الاستصناع في التقنين المدني الفرنسي الذي صدر عام 1804م، ويعزي ذلك إلى أن مشرِّعي هذا القانون لم يكونوا يعرفون هذا العقد بصورة كاملة، وذلك بسبب عدم ظهور هذا العقد آنذاك[4].
وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على عظمة هذا الفقه الإِسلامي العظيم، وسبْقه بقرون عدة في كل مجالات التشريع.
ونحن نحاول في هذا البحث المتواضع أن نستعرض عقد الاستصناع مركِّزين على أمرين أساسيين هما، هل هذا العقد عقد مستقل، أم تبع وداخل في عقود أخرى؟ وهل هو عقد لازم أم هو عقد جائز؟
وقد بذلت كل جهدي في رجوعي إلى المصادر المعتمدة في كل مذهب، وبيان آراء الفقهاء، والاستفادة منها.
ولكنه مع ذلك لم يقف جهدي عند هذا الحد، بل حاولت الوصول إلى صـورة متكـاملة لعقـد الاستصنـاع وإن كـان ذلك عـلى حساب مخـالفة الـرأي الذي عليـه الجمهـور، لأننـي وضعـت نصب عينـي مقـاصد الشريعة ومبادءها الكلية، بل قدمت السيـر في ظلالها على السير فـي ظل التفسيـرات الفرعية.
فمثلاً: إذا كنت قد أخذت لزوم عقد الاستصناع من رواية لأبـي يوسف فإنني لم أقف عند قوله ــ مع قول بقية الحنفية ــ ببطلان الاستصناع بموت أحد الطرفين، وإنما قلت ببقائه، وانتقال الحق إلى الورثة. بل لاحظت التنظيمات الموجودة للشركات والمصانع في عصرنا الحاضر، التي اعترفت فيها بوجود شخصية معنوية لها تستمر ما دامت الشركة قائمة دون النظر إلى أصحابها ومدرائها، ولذلك قلت بعدم بطلان الاستصناع بموت أحد العاقدين. كما أن قول الحنفية هذا قياس على الإِجارة التي هي نفسها محل خلاف في بطلانها بموت أحد العاقدين، بل الجمهور على عدم بطلانها.
ومن هنا قست الاستصناع في عدم البطلان بموت أحد العاقدين على الإِجارة على مذهب الجمهور، بل إننا لسنا بحاجة إلى القياس لأن الاستصناع عقد مستقل.
وهكـذا حاولنـا أن نبـذل كل مـا نستطيـع بذلـه للوصـول إلى صـورة متكـاملة محققـة لمصلحـة الطـرفين، ومصلحـة الأمـة في الازدهار والتنمية والاستقرار.
والله أسأل أن يجعل جميع أعمالي خالصة لوجهه الكريم، وأن يعصمنا من الخطأ في القول والعمل.
الاستصناع لغةً واصطلاحًا
الاستصناع في اللغة:
الاستصناع لغة: مصدر «استصنع» بمعنى طلب الصنعة، فيقال: استصنـع الشـيء أي دعـا إلى صنعـه، وأصلـه: صنـع يصنـع صنـعًا، فهـو مصنـوع وصنيـع. والصنـاعة: حـرفـة الصـانـع. والصناعـة: مـا تستصنـع من أمر[5].
*وقد ورد لفظ «صنع» ومشتقاته في القرآن الكريم عشرين مرة:
منها
قوله تعالى: {وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ …}[6]، حيث أطلق على ما يصنعه الإِنسان.
ويطلق على صناعة السحر حيث يقول تعالى: {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُواْ إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى …}[7].
وعلى صناعة السفينة حيث قال: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ}[8].
ومنها
قوله تعالى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي …}[9]: قال الماوردي: «يحتمل وجهين: أحدهما: خلقتك، مأخوذ من الصنعة. الثاني: اخترتك، مأخوذ من الصنيعة»[10].
ومنها
قوله تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ …}[11] أي: فعل الله الذي أتقن كل شيء[12]. ويبدو أن الصنع أخص من مطلق الفعل.
ومنها قوله تعالى في حق داود عليه السلام: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ}[13] ، ومنها قوله تعالى: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ}[14].
* وقد تكرر لفظ «صنع» ومشتقاته في السُّنَّة المشرَّفة كثيرًا:
منها: إطلاق الصنع على الأفعال وصنعة الأشياء مثل قول: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم صنع مثل هذا»[15] أي: فعل كذا، عن الوضوء والمسح على الخفين.
ومنها: إطلاقه على صنع المنبر[16].
ومنها: ما رواه البخاري وغيرهم بسندهم عن ابن عمر رضي الله عنهما: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم: اصطنع خاتمًا من ذهب، وكان يلبسه فيجعل فصه في باطن كفه، فصنع الناس خواتيم، ثم إنه جلس على المنبر فنزعه، فقال: إني كنت ألبس الخاتم.. فرمى به، ثم قال: «والله لا ألبسه أبدًا» فنبذ الناس خواتيمهم»[17].
وترجم ابن ماجه في سننه: باب الصناعات.
وترجم الترمذي في سننه: باب ما جاء في صنائع المعروف.
والمقصود من هذا السرد أن هذه الكلمة مما شاع استعمالها في القرآن الكريم والسنة في معانيها اللغوية التي تشمل الحرفة، وغيرها من أي عمل كان، وفي إيجاد الشيء من العدم ونحو ذلك.
الاستصناع اصطلاحًا:
وقد عرِّف الاستصناع ــ في عرف من قالوا به ــ عدة تعريفات:
منها: تعريف رجحه الكاساني واختارته الموسوعة الفقهية[18] وهو: أن الاستصناع عقد على مبيع في الذمة شرط فيه العمل[19].
غير أن الكاساني ذكر عدة تعريفات فقال: «وأما معناه فقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: هو مواعدة، وليس ببيع. وقال بعضهم: هو بيع لكن للمشتري فيه خيار، وهو الصحيح بدليل أن محمدًا رحمه الله ذكر في جوازه القياس والاستحسان، وذلك لا يكون في العِدات (أي الوعود) وكذا أثبت فيه خيار الرؤية، وأنه يختص بالبياعات…
ثم اختلفت عباراتهم عن هذا النوع من البيع. قال بعضهم: هو عقد على مبيع في الذمة. وقال بعضهم: هو عقد على مبيع في الذمة شرط فيه العمل».
ثـم رجـح الكـاساني التعـريف الأخيـر فقـال: «والصحيـح هـو القول
الأخير، لأن الاستصناع، طلب الصنع، فما لم يشترط فيه العمل لا يكون استصناعًا، فكان مأخذ الاسم دليلاً عليه، ولأن العقد على مبيع في الذمة يسمّى سلمًا، وهذا العقد يسمّى استصناعًا»[20].
ومنها ما ذكره ابن عابدين حيث قال: «وأما شرعًا، فهو: طلب العمل منه في شيء خاص على وجه مخصوص»[21].
وقال البابرتي: «والاستصناع هو: أن يجيء إنسان إلى صانع فيقول: اصنع لي شيئًا صورته كذا، وقدره كذا، بكذا درهمًا. ويسلم إليه جميع الدراهم أو بعضها، أو لا يسلم»[22].
وعرفته مجلة الأحكام العدلية في مادتها (124) بأنه: عقد مع صانع على عمل شيء معين في الذمة.
وجاء في بعض كتب الحنابلة: «استصناع سلعة يعني: يشتري منه سلعة، ويطلب منه أن يصنعها له، مثل أن يشتري منه ثوبًا ليس عنده، وإنما يصنعه له بعد العقد»[23].
أنواع الاستصناع :
بالنظر إلى ما ذكره المالكية، نجد أنهم يذكرون للاستصناع أربعة أنواع، نذكرها هنا لأهميتها، وهي ــ كما ذكره ابن رشيد في مقدماته ــ :
النوع الأول:
أن لا يشترط المسلم المستعمل عمل من استعمله ولا يعين ما يعمل منه.
فهذا النوع سلم على حكم السلم لا يجوز إلا بوصف العمل وضرب الأجل وتقديم رأس المال.
النوع الثاني:
أن يشترط المسلم عمل من استعمله، ويعين ما يعمل منه.
فهذا النوع ليس بسلم، وإنما هو من باب البيع، والإِجارة في الشيء المبيع، فإن كان يعرف وجه خروج ذلك الشيء من العمل، أو تمكن بإعادته للعمل، أو عمل غيره من الشيء المعين منه العمل فيجوز على أن يشرع في العمل، وعلى أن يؤخر الشروع فيه بشرط ما بينه وبين ثلاثة أيام أو نحو ذلك، فإن كان على أن يشرع في العمل جاز ذلك بشرط تعجيل النقد، وتأخيره. وإن كان على أن يتأخر الشروع في العمل إلى الثلاثة أيام ونحوها لم يجز تعجيل النقد بشرط حتى يشرع في العمل[24]. غير أن أشهب أجاز في السلم تعيين المصنوع منه والصانع، خلافًا لابن قاسم[25].
النوع الثالث: أن لا يشترط المسلم عمل من استعمله، ويعين ما يعمل منه.
فهذا النوع أيضًا من باب البيع والإِجارة في المبيع، إلا أنه يجوز ــ على تعجيل العمل وتأخيره إلى نحو ثلاثة أيام ــ بتعجيل النقد وتأخيره.
النوع الرابـع: أن يشتـرط المسلم عمل مـن استعملـه، ولا يعين مـا يعمل منه.
فهذا النوع لا يجوز على حال، لأنه يجتذبه أصلان متناقضان هما: لزوم النقد لكون ما يعمل منه مضمونًا، وامتناعه لاشتراط عمل المستعمل بعينه[26].
وذكر العلامة الدسوقي في بعض هذه المسائل، فقال: «وصورته: وجدت نحاسًا يعمل طشتًا، أو حلّة، أو تورًا، أو غير ذلك، فقلت له: كمِّله لي على صفة كذا بدينار؛ فيجوز إن شرع في تكميله بالفعل، أو بعد أيام قلائل كخمسة عشر يومًا فأقل، وإلا منع، لما فيه من بيع معين يتأخر قبضه. ومحل الجواز أيضًا إذا كان عند النحاس نحاس بحيث إذا لم يأت على الصفة المطلوبة كسره وأعاده وكمله مما عنده من النحاس…
وقد جعل مج (أي الشيخ محمد الأمير) وعبق (أي الزرقاني) وشارحنا هذه المسألة تبعًا لابن الحاجب والتوضيح من باب اجتماع البيع والإِجارة، وهو مغاير لأسلوب المصنف، ويصح أن يكون من باب السلم بناءً على مذهب أشهب المجوز في السلم تعيين المصنوع منه والصانع، هنا عين المصنوع منه، وهذه يمنعها ابن القاسم»[27].
وعلق العلامة الدردير على قول خليل في إطلاق لفظ السلم على النوع الثاني فقال: «إطلاق لفظ السلم على هذا الشراء مجاز، وإنما هو بيع معين يشترط فيه الشروع ولو حكمًا، فهو من أفراد قوله: «وإن اشترى المعمول منه واستأجره جاز إن شرع، ويضمنه مشتريه بالعقد، وإنما يضمنه بائعه ضمان الصناع»[28].
ثم إن المالكية فرقوا بين مصنوع يمكن إعادته إلى مادته الخام ليصنع منها آخر، ومصنوع ليس كذلك، يقول الدردير: «ومعنى كلامه: أن ما وجد صانعًا شرع عمل تور مثلاً فاشتراه منه جزافًا بثمن معلوم على أن يكمله له جاز، فإن اشتراه على الوزن لم يضمنه مشتريه إلا بالقبض، وهذا بخلاف شراء ثوب ليكمل فيصنع… لإِمكان إعادة التور إن جاء على خلاف الصفة المشترطة أو المعتادة بخلاف الثوب إلا أن يكون عنده غزل يعمل منه غيره إذا جاء على غير الصفة»[29].
وهذا النص يدل على أن الأساس هنا في الجواز وعدمه هو مدى صلاحية كون المادة الخام لأن يصنع منها المطلوب، ولأن تعاد مرة أخرى ليصنع منها المطلوب مرة أخرى، أو وجود كمية إضافية ليصنع منها آخر حسب الوصف المطلوب.
ومن هنا فالمصنوعات الحديثة التي تقوم بصنعها المكائن حسب قوالب محددة غير مختلفة فلا إشكال في جوازها.
وكـذلـك فـرق المـالـكـيـة بـيـن الـشـراء مـن دائـم العـمـل ــ أي: محتـرف الصنعـة ــ كالخبـاز وغيـره، حيـث أجـازوا شـراء مـا يصنـع دون تعينـه، أي: يكـون الصانـع معيـنًا، دون المصـنـوع منـه واعتـبـروه بـيـعًا، بينمـا يعتبـر سلـمًا إذا كـان الصـانـع غيـر محتـرف أو عـلى حسب تعبيرهم (غيـر دائـم العمـل) حيـث يكـون ديـنًا فـي الـذمـة كعقـد عـلى قنـطار خبزى يؤخذ من المسلم إليه بعد شهر يحدد قدره وصفته.