أيها لإخوة المؤمنون
إن الله سبحانه وتعالى يذكر لنا مشاهد عظيمة تقشعر لنا الأبدان، من مشاهد يوم القيامة، وما يصيب أهل النار من الأهوال الشديدة، وينقل لنا ما يجري بين أهل النار من حوار وجدال، وما ينالهم من العذاب الأليم؛ عذاب نفسي وجسدي، وكيف يتبرأ الأتباع من المتبوعين، ويتلاومون في النار، وكلٌ يلقي بالملامة على الآخر، فالأتباع المغلوبون على أمرهم، المنفذون لأوامر الطغاة والمستبدين، يلومون المتبوعين؛ من طغاة وظلمة ومفسدين ومستبدين، وغير ذلك من الحوارات التي عبر عنها القرآن الكريم بأسلوب بديعي ماتع إذا تأمله الإنسان وتفكر فيه.
ينقل لنا الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم تجارب أهل النار، منذ أن قتل قابيل هابيل، وما كان بعد عصر سيدنا آدم من أهل الضلالة والكفر والفجور، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، حيث يجتمعون كلهم في النار، ويلخص الله تعالى لنا سبب دخولهم النار، وأسباب شقاوتهم في الدنيا والآخرة في كلمتين عظيمتين رائعتين، وفي سببين رئيسين أساسيين، ذكره الله تعالى في قوله تعالى: { وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } لم يسمعوا السماع الحقيقي الواعي للوحي؛ سواء كان هذا الوحي خاصاً بالأمم السابقة، أم الوحي الذي ختم الله تعالى به شرائع الدين، وهو المنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك لم يعقلوا ما يجري في هذا الكون من آيات تدعو إلى الإيمان بالخالق العظيم، فأهل النار لم يستفيدوا من الكتاب المقروء، وهو الوحي مطلقاً، ولم يستفيدوا من الكتاب المفتوح، وهو الكون وما فيه من شواهد تدل على وجود الله تعالى، وتهدي إلى الإيمان به، لو تدبر الإنسان وعقل.
فاعترفوا بذنبهم وأدركوا أنهم لم يأخذوا بأسباب السعادة، فاستحقوا أن يكونوا من أصحاب السعير.
وفي الحقيقة فإن أسباب السعادة وأسباب الشقاوة، وأسباب الرقي والتقدم، وأسباب التخلف والفقر والبطالة والمشكال كلها، في الدنيا والآخرة تعود إلى هذين السببين الأساسيين؛ عدم استعمال السمع بصورته الحقيقية، وعدم استخدام العقل بصورته التي تؤثر وتفيد لاستنتاج العبر والعظات من آيات الكون، كما أراد الله سبحانه وتعالى.
ولنعش مع كلمات هذه الآية ومدلولاتها الرائعة، حتى نستفيد من قوة البيان القرآني، والتي عبرت عن تجارب ملايين البشر عبر السنين، قبل الخوض في تفسير الآية كلها.
1- استعمل الله تعالى كلمة” لو” وهي تعني التحسر على شيء مضى، ويستحيل أن يعود، وغالباً من تستعمل في التمني، وهيهات أن تتحقق للمرء الأماني بعد فوات الأوان، وقد جاء في الإسلام النهي عن اتخاذ كلمة “لو ” ذريعة للتقصير أو التفريط، بل يجب على المسلم أن يستعين بالله تعالى ولا يعجز، ولا ينخدع بالنفس وأمانيها، ويقول ” لو فعلت كذا لكان كذا، لأن لو تفتح عمل الشيطان”، وبالتالي يؤدي إلى اليأس والقنوط.
فأصحاب السعير قالوا” لو ” تحسراً على ما فرطوا في جنب الله تعالى، ونداً على ما ضيعوا من حقوقه سبحانه.
2- وكلمة ” كنا” دلالة على جميع فئات المجتمع، سواء كان فرداً، أو جماعة، وبالتالي الأمة كلها، فلا يقدم الفرد، ولا تقدم الجماعة، ولا الأمة على أي أمر دون دراسته دراسة متأنية، ودون التبصر في حقيقته، ودون النظر إلى النتائج والمآلات.
وفي هذا إرشاد لكل الأمة وجماعاتها وأفرادها إلى أن تتدبر وتتبصر النتائج، وأن تأخذ بفقه المآل، ثم تتقدم نحو ما تصبو إليه وتتمناه.
كما في هذه الكلمة دليل على أهمية اختيار الصاحب والصديق، فالصديق الحق والصادق والصالح يدلك على الله تعالى بمقاله، وينهض بك إلى فعل الخيرات بحاله، وبالتالي تسعد به وبرفقته في الدنيا وتنعم معه في جنات النعيم.
أما الصاحب الذي لا يستقيم لك وده، ولا يفي لك وعده، فستكون صحبتك له وبالاً عليك، وسيقودك إلى الحسرة والندامة، في وقت لا مناص فيه، ولا تنفعك فيه ندامة.
ولو اتخذ بعض حكامنا جلساء صالحين، وبطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، ملا طغى وتجبر، ولما وصل إلى الظلم والاستبداد، كام حكى الله تعالى ذلك عن فرعون { فاستخف قومه فأطاعوه، إنهم كانوا قوماً فاسقين }.
3- ولم يذكر القرآن الكريم المفعول به لفعل ” نسمع ” ليدل على أهمية السمع العام الشامل، فالمؤمن يسمع ما جاء في القرآن الكريم من توجيهات، ثم يسارع إلى تطبيقها، ويسمع ما جاء في القرآن الكريم عن تجارب الأمم السابقة فيبادر إلى فعل ما عليه يمدح، ويبتعد ويجتنب ما به يقدح.
ولو استمع أهل النار إلى الصالحين من أقوامهم، وإلى الحكماء والأنبياء لما كانوا منبوذين معذبين في أصحاب السعير.
4- كلمة” أو” لها دلالة عظيمة، وهي تعني أن كل واحد من هذين السببين كافٍ للنجاة يوم القيامة، فالذي يسمع ما في القرآن الكريم وينفذه يهتدي إلى سواء السبيل، ويملك سعادة الدنيا والآخرة، وكذلك الذي يعقل تعقلاً حقيقياً من خلال العقل السليم يهتدي إلى الإيمان بالله تعالى، ويفوز بسعادة الدنيا وكرامة الآخرة.
فما بال المسلمين، وقد أكرمهم الله تعالى بالسمع المدرك لتجارب الأمم السابقة، لا يأخذون منها العبر ولا يستنتجون العظات؟
وما بالهم، وقد أعطوا العقل فلا يستخدمونه فيما يجب أن يستخدم فيه؟
إن أولى الناس اليوم بالحضارة والتقدم والرقي هم المسلمون، لأنهم يفوقون على من سواهم من أمم الأرض التي تملك الحواس والتجربة والعقل، بما معهم زيادة على الحواس والتجربة والعقل الوحي، والقرآن الكريم، الذي فيه جميع كنوز العلم ومناهل المعرفة، والذي هو الموجه إلى فعل الخيرات وترك المنكرات، ولذلك ستوكن مسؤولية المسلم عند الله تعالى عظيمة.
ومما يدل على أهمية الجماعة، ما يتلوه المسلم في صلاته – رغم أن أثر الصلاة فردي – إياك نعبد وإياك نستعين، يخاطب الله تعالى بصيغة الجمع، لا المفرد.
5- ” في أصحاب السعير” ولم يقل الله تعالى من أصحاب السعير دلالة على الظرفية الشاملة، فالقضية واحدة، والسفينة واحدة، فإذا كنا في سفينة النجاة نجونا جميعاً، وإذا كنا في سفينة الهلاك هلكنا جميعاً، والظرفية تشير إلى هذه الحالة العامة التي عليها الأمة اليوم، فإما أن تتجه نحو الصلاح والخير، فتنجو وتسعد، وإما أن تتجه نحو الفساد والضلال فتغرق في حمأة الفساد، وتبوء بالخسران المبين.
فهذه الآية تضع أمامنا منهجية عظيمة لأمة أرادها الله تعالى أن تكون خير أمة أخرجت للناس، والخيرية ليست بالشعارات والكلام، وإنما بالواقع والعمل، وبالصفاء والنقاء، وبالقوة والشهودية، وبالعلم والحضارة والتقدم، وبالقوة المادية والمعنوية، وإلا فإن الأمة ستكون أمة مستهدفة مستضعفة، فالأمة الخير هي التي تكون فاعلة وليست مفعولاً بها، ولما كان غالبنا لا يعقل ولا يسمع وصلنا إلى ما نحن فيه الآن.
انظروا إلى حجم المؤامرات والانكشافات التي ظهرت اليوم في العداوة للإسلام وأهله، وفي القضاء على المسلمين، صنعوا بيننا المتشددين وقاتلوهم باسم الإرهاب، ثم حاربوا بهم المعتدلين، وعامة المسلمين.
ولقد قرأت تقارير لمراكز دراسات استراتيجية تفيد أن المشروع الصهيوني والأمريكي والروسي يهدف إلى عزل الإسلام عن المسلمين، وحصر الإسلام في دور العبادة، كالفاتكان، مع فارق المساحة التي ستكون للإسلام، وبعدئذ لن تقوم للمسلمين قائمة، ولن تكون لهم حضارة.
عظمة القرآن الكريم تتجلى في التعبير في ” لو كنا نسمع أو نعقل ” وهي تطبق على مستوى الفرد والجماعة والأمة وكذلك طل خطاب من الله تعالى، فلو سمعنا تجارب الآخرين أو عقلناها لما كنا في أصحاب السعير في الدنيا ولن نكون في أصحاب السعير في الآخرة.
الدنيا مزرعة الآخرة، وحقائق الآخرة مشاهدة اليوم في الدنيا، وحقائق الدنيا هي التي توصلنا إلى حقائق الآخرة، والدنيا والآخرة مرتبطتان ببعضهما البعض.
القضية الأساسية في العقل، وليست في العواطف، { ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس، لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل، أولئك هم الغافلون } لهم قلوب لا يفقهون بها، لأنهم أشغلوها بالعواطف التي تعصف بهم يميناً وشمالاً، ولهم أعين ينظرون بها ولا يبصرون بها الحقائق، ولهم آذان لا يسمعون بها الحق؛ لأنهم غفلوا عن الحقيقة التي أرادها الله تعالى لهم، ثم جاء الوصف ” أولئك هم الغافلون” فلا ينبغي للأمة بمجمعها أن تكون من الغافلين، بل يجب عليها أن تكون متيقظة تخطط وتفكر حتى تفوز بعز الدنيا وكرامة الآخرة.
الخطبة الثانية
أراد الله تعالى أن تتراكم لدينا جميع المعلومات، معلومات الدنيا والآخرة، وهذا ما يجعل الأمة ساعية إلى الحسم للواقع الذي تعيشه، فعندنا معلومات ليست لدى الآخرين، وهي موجودة في القرآن الكريم، وما عند الآخرين من الحواس والتدبر والتجارب من المفروض أن تكون عندنا، ولكنها الغفلة والتلاوم، كل يقلي اللوم على الآخر، ويتنصل من المسوؤلية.
أمامنا التدبر والتاريخ والقرآن الكريم والحسم والعزم فلا يجوز لنا أن نغفل عن السمع أو العقل، ويجب علينا جميعاً – أمة وجماعات وأفراداً – أن نعيد النظر في صياغة أنفسنا وبنائها عبر السمع أو التعقل.
اللهم أخرجنا من دائرة الغفلة يا رب العالمين.