ألقى أ. د. علي القره داغي – الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين – اليوم الأربعاء الماضي الموافق 21 أكتوبر 2015م كلمة رئيسية في المؤتمر الدولي للاقتصاد والتمويل الإسلامي، بعنوان “نحو الاقتصاد العيني وتطوير منتجات التمويل” ، والمنعقد في جامعة “سكاريا” التركية في الفترة من 21 إلى 23 أكتوبر 2015م . وجاءت الكلمة على النحو التالي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ، وبعد
إن العالم اليوم لا يزال يعاني في ظل الاقتصاد الرأسمالي من الأزمة المالية العالمية الكبرى منذ عام 2008م التي تحولت إلى أزمة شاملة ، ولم تتحقق له المعافاة الاقتصادية مع أنه وقع الان في أزمة اقتصادية أخرى وهي أزمة عدم الخلل في النمو الاقتصادي في الصين التي يعد اقتصادها ثاني اقتصاد في العالم .
ولا يخفى عليكم أن الأزمات الاقتصادية في ظل النظام الرأسمالي كثيرة ، بدءاً من نشأتها إلى الآن فقد تحولت الرأسمالية الحرة بسبب ظلم العمال وتظاهراتهم في القرنين 18 و 19 إلى رأسمالية مقيدة ، ثم جاءت الأزمة الأمريكية 1928-1938 لتضيف مزيداً من القيود ، كل ذلك لأسباب لا يسع الوقت لشرحها الآن.
وأما النظام الشيوعي الاقتصادي فقد سقط سقوطاً كاملاً عام 1991 مع سقوط الاتحاد السوفيتي .
لذلك فالأمل من علماء الاقتصاد الإسلامي أن يقدموا الحل الثالث المتمثل في الاقتصاد الإسلامي ونظامه ، ونظرياته ، ومنتجاته ، وهو بحق نظام قادر على حلّ المشكلات الاقتصادية ، لأنه منبثق من الوحي من نور الله ، من الشفاء والرحمة للعالمين ، وليس هذا ادعاءاً من المسلمين ، وإنما حقيقة وواقع ، وشهادة من عدد من المنصفين من غير المسلمين ، حتى الفاتكيان قالت بعد الأزمة المالية : إن الحل هو في الاقتصاد الإسلامي الذي يقوم على القيم الأخلاقية ، وفي الصيرفة الإسلامية التي صمدت أمام الأزمة ، بل إن معظم قادة أوروبا طالبوا بإعادة النظر في النظام الرأسمالي الحالي ، وقالت باحثة ايطالية في كتابها (اقتصاد ابن آوى) 🙁 إن التوازن في الأسواق المالية يمكن التوصل إليه بفضل التمويل الإسلامي ، وأن المصارف الإسلامية يمكن أن تصبح البديل المناسب للبنوك الغربية).
وقد تنبأ الاقتصادي الفرنسي جاك أوستري في كتابه ( الإسلام في مواجهة النمو الاقتصادي) بظهور اقتصاد ثالث غير الرأسمالي والاشتراكي وهو الاقتصاد الإسلامي الذي يبدو أنه سيسود المستقبل ، لأنه أسلوب كامل للحياة يحقق كافة المزايا الاقتصادية .
كل ذلك لأن هذا الاقتصاد قائم على التوازن الدقيق وقد أثبتت الدراسات على أن النجاة إنما في اقتصاد موزون .
ولذلك فإن الهدف الأسمى للاقتصاد الإسلامي من خلال نصوص الشريعة ومقاصدها هو الوصول إلى اقتصاد متزن متوازن موزون .
إن الله تعالى خلق كل ما في هذا الكون فأعطى لكل شيء وزنه ، ووضع كل شيء في مكانه بتوازن دقيق للوصول إلى كوْن موزون بجميع عناصره وطبائعه ، فقال تعالى : (وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ ) .
وهكذا صناعة الحياة في هذه الدنيا لن تستقيم إلاّ بالتوازن الدقيق ، وذلك لأن كل ما في هذا الكون زوج وشفع ، وهذا أثبته العلم الحديث ، وعبّر عنه القرآن الكريم بوضوح قبل أكثر من 14 قرناً فقال تعالى : (سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) .
ومن طبيعة الشيء المزدوج قابليته لأحد عنصريه أي نحو اليمين أو اليسار ، فالإنسان بما أنه مكون من روح ومادة طينية يمكن أن يميل كثيراً نحو أحدهما ، فإذا مال كثيراً إلى الأول تحققت الرهبانية والانعزال ، وإذا مال ميلاً كبيراً إلى الجانب المادي تحققت الفلسفة المادية ، وهكذا جميع تصرفاته ، لذلك فهو في ذاته ، وفي جميع تصرفاته وأفعاله يحتاج حاجة ماسة إلى التوازن ، وهكذا نشاطه الاقتصادي ، ونشاطه السياسي ، والاجتماعي . .
وقد دلت التجارب والتأريخ والوقائع على أن هذا التوازن لن يستطيع البشر أن يحققه وحده بدون هداية ربانية ، ولذلك كانت الرسالة الخاتمة ( رسالة الإسلام ) قائمة على هذا التوازن في جميع أوامرها ونواهيها وإرشاداتها وتوجيهاتها ، ولذلك جعل هذا الميزان الدقيق بهذا التوازن منزلاً من عند الله تعالى مثل القرآن الكريم نفسه فقال تعالى : ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) فبدون الميزان الدقيق لهذا التوازن لن يتحقق العدل قطعاً ، بل يكون العالم مرة يميل نحو اليمين ، ومرة نحن اليسار ، والحق دائماً هو الوسط والصراط المستقيم ، ولذلك نرى الآية بوضوح تربط بين الميزان وتحقيق العدل ( لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) .
وكما نرى هذا الربط بين العدل والميزان في النشاط الإنساني ، حيث ربط القرآن الكريم بين بقاء السماء والأرض متزنتين وبين الميزان فقال تعالى : (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ) .
ونحن هنا نذكر معالم هذا التوازن في الاقتصاد الاسلامي على ضوء ما يأتي :
أولاً – التوازن في جميع الأنشطة الاقتصادية ، وداخل النشاط الاقتصادي الواحد ، وهو كما ذكرنا له ستة أنواع :
1. التوازن في الملكية من خلال ما يأتي :
أ) الملكية ليست ملكية فردية فقط ، كما هو الحال في النظام الرأسمالي الحر ، ولا جماعية (الدولة) كما هو الحال في النظام الشيوعي ، بل هو جماع بين الأمرين بدقة متناهية ـ كما سبق ـ .
ب) وضع شروط للتملك من حيث الأسباب المشروعة ، وفرض قيود على الملكية لمنع الجشع والاحتكار ومنع آثار الفلسفة المادية ، مع الحث الكبير على المال وكسبه وبيان أهميته ودوره في النهوض بالأمة لإزالة آثار الرهبانية والعزلة ..
ج) فرض حقوق كثيرة مثل الزكاة والنفقة …على المال لتحقيق التكافل ، وحتى لا يكون المال محصوراً في دائرة معينة (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ) مع عدم تحديد الملكية والأموال بحد معين ، بل ترك الإسلام الحرية المنضبطة ليسكب المسلم الملايين ، أو المليارات دون أي حرج ما دام ملتزماً بالشروط والقيود والحقوق السابقة .
2. التوازن في الانتاج من حيث توجيه الإسلام الإنتاج نحو الإنتاج النافع ، ومنع الإنتاج الضار بالإنسان ، أو الحيوان أو البيئة .
فقد وضع عليه قيوداً ومع ذلك جعل الإنتاج عبادة وجعل عليه أجراً وثواباً عظيماً ، حيث إذا أنتج شيئاً نافعاً فكل من يستفيد منه من الإنسان أو الحيوان يكون ذلك أجراً وثواباً جارياً للمنتج ، وهكذا .. .
3. الاستهلاك حيث يجب أن يقوم على القوام بنص القرآن الكريم في وصف عباد الرحمن (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) وقال تعالى : (وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا) .
4. التبادل من خلال العقود التي دلت النصوص الشرعيى على أنها يجب أن تكون قائمة على العدل ، وعلى الحقوق المتساوية للعاقدين فقد وزعت الشريعة الحقوق والواجبات بين طرفي العقد ، فإذا وجد أي خلل في هذا التوازن أصبح العقد غير مشروع ، فمثلاً فإن عقد القرض يقوم في الإسلام على ميزان له كفتان متعادلتان وضعت في كل كفة حقوق والتزامات ، أو ايجابيات وسلبيات بتوازن دقيق ، ففي كفة المقرض (الدائن) ايجابية ضمان قرضه بمجرد تسليم المقترض ، وفيها سلبية حيث ليس له الحق في أن يأخذ أي فائدة من هذا القرض ، وأما كفة المقترض ( المدين ) ففيها ايجابية تتمثل في أنه يستفيد من كل ينتجه دون أن يكون للدائن حق فيه ، ولكن فيها سلبية تتمثل في أن المال مضمون عليه مطلقاً ، وفي جميع الأحوال حتى في الظروف القاهرة .
وكذلك عقد المضاربة الشرعية (القراض) له ميزان يتكون من كفتين ، فوضعت في كفة المضارب (المستثمر) ايجابية أن المال ليس مضموناً عليه ( إلاّ في حالات التعدي أو التقصير) وسلبية مشاركة رب المال في ناتج جهده بالنسبة المتفق عليه 50% أو غيرها ، وفي كفة رب المال ايجابية مشاركته للربح الناتج ، وسلبية أن ماله غير مضمون على المضارب إلاّ في الحالتين السابقتين .
وهكذا جميع العقود .
وهناك أمر آخر في غاية من الأهمية ، وهو ضرورة استعمال كل عقد في مقتضاه الشرعي دون تغييره ، وعدم استعماله في غير ما وضع له .
5. التوزيع :
ان الفكر الرأسمالي وضع في مقابل رأس المال ( النقود ) الفائدة (الربا ) ، والإسلام حرم الربا ، لأنه ظلم في ميزان العدل الذي تحدثنا عنه في الفقرة السابقة ، وذلك لأن جميع الايجابيات تجتمع في كفة المرابي ، والسلبيات في كفة المقترض ، حيث إن كفة المرابي تجمع بين ضمان رأس المال وأخذ جزء من المال ( نسبة متحركة أو ثابتة من رأس المال) مطلقاً في جميع الأحوال ، في حين أن كفة المقترض تجمع سلبيات ضمان رأس المال ، وضمان نسبة من رأس المال زيادة وربا .
ولذلك وضعت الشريعة بديلاً عن الربا العقود الشرعية من البيع ، والسلم ، والمشاركة ، والمضاربة ، والمساقاة ، والمزارعة ، ونحوها من العقود المتوازنة العادلة القائمة على توزيع الحقوق والواجبات على الطرفين وعلى أساس (الغنم بالغرم) في المشاركات كلها .
ومن جانب آخر فإن الربا ظلم للمجتمع ، لأنه عبء على المنتج والمستهلك ، في حين أن الربح الناتج من العقود الشرعية (المشاركات) ناتج على سبيل الحقيقة ، إذا لو لم توجد يستحق الربح .
6. إعادة التوزيع :
إن النظام الإسلامي في هذا المجال في غاية من الأهمية من التوازن بين الأغنياء والفقراء ، وكل طبقات المجتمع ، فأجاز لهم الملكية والتملك والإنتاج والتعاقد لتحقيق الربح والمال الصالح ، وبالمقابل أوجب على الأغنياء حقوقاً بسيطة ، لكنها تحقق التكافل والتكامل ، وهي حق الزكاة ، وحق النفقة ، حيث يتبدأ التكافل داخل الأسرة الصغيرة ليشمل المجتمع كله ، إضافة إلى الصدقات والأوقاف والكفارات والديات ، ثم بعد ذلك تتدخل الدولة من خلال أموال الفيئ وغيره لتحقيق التكافل الاجتماعي .
فالإسلام لم يترك الأغنياء دون فرض حقوق عليهم ، ولم يضر بهم أيضاً بنزع الملكية ، أو بقيود ضارة ، وكفل كذلك حقوق الفقراء في توازن بديع .
ثانياً – التوازن بين دور الدولة ، ودور الفرد ، والسوق :
إن الإسلام جعل المسؤولية بين الجماعة والدولة ، ومسؤولية الفرد في تكامل حقيقي ، من خلال المراقبة ، حيث دلت النصوص الشرعيى على خطورة هذه المسؤولية أمام الله تعالى ، ثم أمام الأمة فقال تعالى : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ) وقال صلى الله عليه وسلم : ( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته …) وقد عبر الخلفاء الراشدون عن هذه المسؤولية عن الإنسان ، والحيوان ، والبيئة ، فقد قال الخليفة عمر رضي الله عنه : ( لو عثرت دابة على دجلة لسئل عنها عمر ) .
وقد ذكر الاقتصاديون اليوم أن أحد أسباب هذه الأزمة يعود إلى عدم قيام الدول بواجبها نحو البورصات والمؤسسات المالية ، يقول جوزيف ستغليتز ” الحائز على جائز نوبل في الاقتصاد ، وكبير الاقتصاديين في البنك الدولي” في مقال له بمجلة تايم : ( أرى أنا وغيري من الاقتصاديين : أن التنظيم الحكومي ، والمراقبة عنصران أساسيان في اقتصاد الأسواق القادرة على العمل ، وبدونهما ستكون هناك أزمات اقتصادية متكررة …) ثم أنحى باللائمة في المقام الأول على التحرر من القوانين المنظمة بدقة ، وعن المراقبة الفعالة ، ثم ذكر أهمية التوازن …ثم ختم مقاله بقوله : ( إن هذه الأزمة علمتنا أن الأسواق المتحررة من القوانين محفوفة بالمخاطر ) .
ثالثاً ـ التوازن الدقيق بين الضروريات والحاجيات والمحسنات ( المرفهات ) في جميع أعمال الدولة والمؤسسات ، والأفراد بل داخل الفرد نفسه ـ كما سبق ـ للوصول إلى المجتمع الموزون .
وبالاضافة إلى ذلك فإننا بحاجة إلى :
1- إعادة النظر في هياكل النظام الاقتصادي العالمي مالياً ونقدياً ومصرفياً ، وإصلاحها إصلاحاً جذرياً وفق برنامج شامل للإصلاح .
2- القيام بترتيب السياسات ، والوسائل والاجراءات الناجعة لتحقيق هذا الاصلاح .
3- إصلاح ، وتطوير المنظمات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي ، والبنك الدولي ، ومنظمة التجارة العالمية .
4- إحلال سياسة نقدية تقوم على الإنتاج والنمو والربح بدل الفائدة ، وتصحيح وظائف النقود لتقوم بدورها باعتبارها وسيلة للتداول ، وليست سلعة .
5- سياسة مالية محكمة قادرة على ضبط السوق والمؤسسات المالية ضبطاً متوازناً.
6- وضع سياسات متوازنة لتحقيق التوازن بين دور الدولة في الاقتصاد والسوق ، ودور الفرد والشركات ، وبين حقوق الفرد ، والمجتمع..
7- تحقيق التكافل بين البشر جميعاً من خلال التوزيع العادل ، كما شرحناه .
8- تصحيح العلاقات بين المتعاقدين ، بحيث تقوم في المشاركات على أن الغنم بالغرم ، وفي العقود الناقلة للملكية لا بدّ أن تقوم على التملك والتمليك الحقيقيين ، وفي عقود التبرع أن تقوم على أساس التبرع دون استغلالها للاسترباح والفائدة .
9- ترسيخ القيم الأخلاقية وتفعيلها في الأنشطة الاقتصادية والمعاملات .
أما المشروع المتكامل فهو يتكون من عنصرين :
العنصر الأول : موقف الاسلام من أسباب هذه الأزمة واحداً واحداً . حيث وجدناه يحرم كل هذه الأسباب من الربا ، وبيع ما لا يملكه الإنسان ، والغرر والمقامرة، والمغامرة ، والعقود الصورية والمارجن ، والاختيارات (أوبشنز) والمستقبليات، والسندات ، والتوريق ، ونحوها.
والعنصر الثاني : يتمثل في تقدير مشروع متكامل بآلياته عن الاقتصاد الاسلامي ، وحلوله العملية للركود ، والتضخم ، والبطالة ، ومعالجة الأزمات ولا يسع المجال لذكره بالتفصيل .
كما أن العناية بالتوازن مطلوب في الاقتصاد الكلي والاقتصاد الجزئي فإنه أيضاً مطلوب في جميع مخرجات الاقتصاد الإسلامي من الصيرفة ، والتمويل ، والاستثمار ، والخدمات المالية ، وفي عقودها ومنتجاتها ، وصكوكها ومحافظها ، وكذلك يجب أن تقوم هذه المنتجات على مقاصد الشريعة العامة ، والمقاصد الخاصة بكل عقد أو منتج ، والابتعاد عن الحيل غير المشروعة ، والاهتمام بالتطوير ، وربط المنتج بمقاصده التنموية والاجتماعية .
وأقترح هنا المقترحات الآتية :
1. وضع سياسة نقدية ومالية لإدارة السيولة في المصارف الإسلامية ، بل في جميع المؤسسات المالية الإسلامية ، حيث كان في فترة من الفترات لديها فائض سيولة ، كما أن لدى بعضها فائض سيولة ، ولدى بعضها الآخر عجز او نقص فيها ، فكل ذلك يقتضي وجود بنك مركزي يدير هذه الأمور في من الفائض ، والعجز ، وسياسة راشدة ، وخطة واضحة ، واستراتيجية بعيدة المدى .
2. تنشيط السوق الأولية من خلال البحث عن فرص الاستثمار وتطوير الأفكار ، ودراسة جدواها ، ومن ثم تطوير مشاريع ثم طرحها ، وهذا ما يسعى إليه المجلس العام للمؤسسات المالية والبنوك الإسلامية من خلال إنشاء بنك ضخم يلعب دوره ( من خلال رأسماله الذي يبلغ مائة مليار دولار كأسهم استثمار عام ضمن رأسمال كلي متغير ، يستطيع البنك أن يلعب دوراً مهماً في طرح أدوات قصيرة الأجل متوافقة مع الشريعة ليتم تداولها في سوق ما بين البنوك ، كما أنه سيلعب دور صانع السوق من خلال تخصيص 35% من أموال البنك لعملية التعهد بالشراء ، وهو ما سيضبط حركة التداول ، وبالتالي سيتولى مسألة سد الثغرات في إدارة السيولة ) .
3. تنشيط السوق الثانوية الإسلامية (البورصة) من خلال طرح أدوات مالية مشروعة مثل الأسهم ، والصكوك والوحدات الاستثمراية ، ويبدو عدم وجود مثل هذه الأسواق بصورة كافية ، فإن نسبة السيولة في البنوك الإسلامية أكثر من مثيلاتها في البنوك التقليدية بنحو 9.45% وذلك أن المؤسسات الإسلامية لا تستطيع الاقتراض بفائدة ، ولا الاستثمار بفائدة عن طريق البنوك المركزية التي تتيح الاستثمار الليلي بفائدة ولو لليلة واحدة .
4. السعي الحثيث لايجاد أدوات نقدية ومالية مختلفة الأزمان من قصيرة ، وطويلة ، ومتوسطة الأجل .
5. وضع خطة استراتيجية لتحقيق مقاصد الشريعة في إنشاء هذه البنوك والمؤسسات المالية من التعمير والتنمية الشاملة من خلال العقود والأدوات النقدية والمالية المتنوعة التي تحقق مختلف الأغراض ، وعلى العقود التي تحقق المشاركة بجميع أنواعها .
6. السعي الحثيث للخروج من العقود الصورية والشكلية ، والمعاملات التي لا تحقق التنمية الشاملة لأمتنا الإسلامية بشكل متدرج مدروس .
7. السعي لايجاد مؤشر يعتمد على الربح والمرابحة وليس على الفائدة كما هو الحال اليوم ، حيث يعتمد الجميع على معيار ” لايبور ” .
8. وضع سياسة إعلامية وتوعوية لتشجيع الادخار والاستثمار بطرق إسلامية ، وتثبيت ثقافة التجارة الإسلامية في النفوس .
9. ضرورة اتباع استراتيجية فاعلة ، وشاملة لإدارة السيولة لتشمل إدارة سيولة الأصول ، وإدارة سيولة الالتزامات ، والإدارة المتوازنة للسيولة ، وبسبب افتقار الصناعة المالية الإسلامية إلى البنية التحتية الملائمة للسيولة لسبب غياب الأسواق الثانوية الإسلامية فإن معظم المصارف الإسلامية تتبع إدارة سيولة الأصول ، مع أن المفروض أن يستفيد منها جميعاً بشرط ضبطها بالضوابط الشرعية ، كما من الأفضل اتخاذ استراتيجية خاصة بها تجمع خيرات الاستراتيجيات الثلاث ، وتدرأ مفسادها وأخطارها وأخطاءها .
10. تعاون المؤسسات المالية الإسلامية بجميع أنواعها على إيجاد سوق تجارية تقوم على الضوابط الشرعية لتبادل السلع بين البلاد الاسلامية بديلاً عن سوق السلع الدولية ، تنفيذاً للتوصية الخامسة في قرار رقم (76(7/8) لمجمع الفقه الإسلامي الدولي.
11. وقد بذل البعض بعض الجهود لإيجاد سوق إسلامية بديلة في بعض الدول العربية والإسلامية ، وسماها بها ، ولكنها – مع الأسف الشديد- في حقيقتها تعتمد كذلك على البورصات العالمية مثل بورصة لندن ، وإنما زادوا اسماً وعنواناً ، وواجهة وزيادة في الرسوم ، فلا يتحقق فيها القبض ولا تؤدي إلى أي تنمية ، ولا تبادل حقيقي بين السلع والخدمات ، وإنما في جوهرها (درهم بدرهم بينهما حريرة) وحتى الحريرة لا يمكن قبضها أو لا يراد أبداً قبضها.
12. وقد تحققنا من إحدى الأسواق التي سميت بالسوق الإسلامية فوجدناها كما ذكرت آنفاً ، والله المستعان.
13. توجيه فائض السيولة لخدمة أهداف التنمية في العالم الإسلامي بالتعاون بين البنوك الإسلامية من خلال توزيع الأدوار وتحريك الأموال بين الدول الإسلامية لدعم صناديق الاستثمار المشتركة لتحقيق التنمية الشاملة، وإنشاء المشاريع المشتركة. تنفيذاً للتوصية السادسة في قرار رقم (76(7/8) لمجمع الفقه الإسلامي الدولي.
14. دعوة الحكومات الإسلامية للتعاون البنّاء في تحقيق التوصيتين السابقتين وتسخير إمكانياتها لتنفيذهما على أرض الواقع حيث فيهما خير كثير لأمتنا الإسلامية .
15. إنشاء محفظة استثمارية كبيرة متنوعة، قائمة على التقييم اليومي لوحداتها من خلال الخبراء حتى يمكن شراؤها ، ثم بيعها بصورة سلسلة على أن توجه ههذ المحفظة لتحقيق التنمية الشاملة.
هذ والله أعلم بالصواب ، وإليه المرجع والمآب ،
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
كتبه الفقير إلى ربه
أ.د. علي محيى الدين القره داغي