شارك الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين أ. د. علي القره داغي بكلمة رئيسية اليوم السبت 24 يناير 2015م في المؤتمر العالمي الثاني للأسرة الذي ينعقد على مدار يومين بالعاصمة التركية اسطنبول تحت عنوان (الأسرة شبكة التفاعل بين الأفراد في العالم المتغير – الرحمة والاحترام واللطافة والشراكة) .

يذكر أن المؤتمر يقيمه اتحاد المنظمات الأهلية في العالم الإسلامي ، وافتتحت المؤتمر وزيرة الأسرة التركية عايشة نور إسلام بكلمة لها، ويشارك في المؤتمر محاضرون وخبراء من نحو ثلاثين دولة أجنبية وعربية سيبحثون على مدى اليومين أهم المشكلات والتحديات التي تواجه الأسرة العصرية.

وهذا نص كلمة الدكتور القره داغي :

بسم الله الرحمن الرحيم

أصحاب المعالي والسعادة والسماحة

إخوتي وأخواتي

احييكم بتحية الإسلام فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،

إن البشرية اليوم، وبخاصة المجتمعات الغربية أو الشرقيىة البعيدة عن منهج الوحي الإلهي تعاني أشد المعاناة من الخواء الروحي، ومن التفكك الأسري، ومن الصراعات الداخلية، داخل الإنسان نفسه، بين الفطرة السليمة والضمير الحي، وبين هيمنة الشهوات الحيوانية التي تبحث عن إشباع الرغبات التي لا تتناهي، فترتكب الجرائم في حق نفسه، وحق الأولاد ، والأسرة، فقد حذرت منظمة الصحة العالمية من زيادة معدلات الإجهاض الخطر على صحة النساء، فمثلا بلغت حالات الإجهاض المتعمد في العالم (46) مليون حالة في العام، ففي السويد وحدها 38 الف حالة، وفي روسيا 62,6% .

ومع الأسف الشديد وصلت هذه العدوى إلى بعض بلادنا، حيث بلغت حالات الإجهاض في تونس 14000 حالة سنوياً، وهذا يعني أنه يقتل في كل عام 46 مليون طفل، هذا هو المسجل دولياً، وما خفي أعظم.

وفي مجال التفكك الأسري، نجد أنه قد بلغ منتهاه بسبب الأفكار الهدامة، حين نادت رائدات النساء في الغرب منذ فترة بأن الزواج مؤسسة لمنفعة الرجل، وأنه وسيلة للسيطرة على النساء، وعلينا أن نعمل على تدميرها، لأن في تدميرها تحريراً للمرأة، وقلن ايضاً: “ستظل المرأة مستعبدة حتى يتم القضاء على خرافة الأسرة، وخرافة الأمومة، والغريزة الأبوية” وروجت هذه الأفكار إلى أن تم فعلاً تدمير الأسرة، ومؤسسة الزواج، والأمومة، فمنذ الستينات تراجع معدل الزواج بنسبة 33%، في حين تضاعفت نسبة الطلاق لتصل إلى 50%، ونسبة النساء اللاتي لم يتزوجن بلغت عام 1970 الى 68%، والإحصائيات تشير الى عزوف النساء عن انجاب الأطفال، حيث إن 20% من النساء اللاتي بلغن 45 لم ينجبن اطفالاً، وظهرت ظاهرة الأطفال غير الشرعيين، حيث بلغت في عام 1994 في أمريكا إلى 50%، وبين السود إلى 70% وفي 15 مدينة من المدن الأمريكية وصلت إلى 90%، كما أن هناك 5 ملايين ونصف يعيشون مع النساء دون أي عقد زواج، ناهيك عن ازدياد نسبة الشذوذ والزواج المثلي المناقض للفطرة.

ومع الأسف الشديد تدعم الأمم المتحدة معظم هذه التوجهات من خلال مؤتمراتها الخاصة بالسكان، وبالمرأة بالقاهرة ، وبكين، واتفاقية سيداو عام 1979، ومن خلال لجنتها الخاصة بها، والمواثيق التي تريد فرضها على الدول، حتى كشفت سارة فلود بويران، الممثلة الدائمة السابقة لمجموعة الكاريبي بالأمم المتحدة، عن المؤامرات التي تدبر بأروقة الأمم المتحدة ضد قيم الأسرة واستقرارها بدعوى الحرية والعولمة.

كانت الأمم المتحدة في عام 1948 أقرت الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي تنص مادته 16 على أن الأسرة هي الوحدة الجماعية الطبيعية والاساسية للمجتمع، وأن الرجال والنساء البالغين لهم حق الزواج وتكوين الأسرة. ولكنها مع الأسف الشديد تركزت وثائقها في العقود الأخيرة على الجندرة ، والمنظور الانثوي الراديكالي، وهو المنظور الذي يطرح الشذوذ الجنسي حقاً من حقوق الإنسان، وأن الأسرة المرتبطة بالزواج الشرعي تقف في طريق الحداثة، وأنها لم يعد لها وجود إلا في العالم الإسلامي، وأنها – أي الأسرة الشرعية – يجب تغييرها إلى النموذج المتحضر الإبداعي – اي عدم اشتراط الزواج ، وطالبت الدول بتغيير تشريعاتها.

 إذن نحن المسلمين نقف أمام مخاطر كبيرة تصطدم مع الفطرة والشريعة.

 وقد اكد العقلاء من جميع الأمم أن الدين والقيم الدينية، هي صمام الأمان للمجتمع والأسرة من التفكك، وأن الأزمات التي تعيشها المجتمعات الغربية هي بسبب القيم الليبرالية والابتعاد عن القيم الدينية، فقد أكد الرئيس الأمريكي الأسبق جون أدمز: أن الدين والمبادئ الأخلاقية هي وحدها صمامات الأمان، وأن الدولة لن تكون قادرة على كبح جماح الأهواء والنزوات غير المنضبطة.

وهناك كثيرون من المصلحين والمفكرين الغربيين والشرقيين من غير المسلمين، يُحسّون بخطورة ما وصلت إليه المجتمعات البشرية، وآثارها المدمرة حتى على بقاء الإنسان على ظهر كوكبنا، ناهيك عن السعادة والاستقرار، حيث عمّ القلق والاضطرابات وعدم الشعور بالسعادة، بل الشعور بالإحباط الذي من نتائجه الزيادة المطردة في نسبة الانتحار في العالم.

فلننظر الى العالم كيف يتعامل مع المرأة في ظل غياب نور الوحي بين الإفراط والتفريط، فكانت المرأة في المجتمعات القديمة اليونانية والرومانية والهندية والصينية والجاهلية العربية بمثابة المتاع والبضاعة وكانت محتقرة، حتى عبر عن ذلك خطيب الفلاسفة اليونان “ديمو ستين” فقال: ” إننا نتخذ العاهرات للذة، والخليلات للعناية بأجسامنا، والزوجات للولادة” فمن هذه المواقف المتطرفة في كبت المرأة إلى المواقف المتطرفة في فتح أبواب حريتها التى نراها من الحضارة الغربية المعاصرة، وهذا دليل على أن الأهواء الانسانية مثل الرياح العاتية التي تدفع بالإنسان إلى أقصى اليمين من التطرف ثم تدفعه إلى أقصى الشمال.

في حين أن أنوار الوحي ثابتة فقال تعالى (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَ?ئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) }البقرة:257{

فقد أخرج الإسلام المرأة من ظلمات الظلم، والجهل، والذل، والمهانة، وانعدام الحقوق، إلى أنوار الكرامة والعدل، والعلم، والمكانة التي تستحقها.

ايها الإخوة والأخوات

لقد عشت في كنف القران العظيم متدبراً في الحل الجذري لمشاكلنا، وبخاصة قضايا الأسرة، فوجدت أن كل الحلول التي تقوم على الفكر الغربي أو الشرقي لن تحقق السعادة، والخير، والنهوض، وكذلك النظريات التي تحاول أن تجعل الأفكار الغربية من المساواة بين الرجل والمرأة اساساً لفكرنا الإسلامي المعاصر بلّي عنق النصوص، ومحاولة العصرنة، حيث فقدت هذه النظريات اصالتها، وهويتها، فلا هي إسلامية، ولا غربية في معظمها.

ولذلك وجدت ان المبدأ الشامل الذي يمثل الحل الإسلامي لقضايا الأسرة، هو مبدأ “التوازن”، وهو مبدأ يقوم عليه الكون كله، كما يقول الله تعالى (وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ) } الحجر: 19{

إن التوازن: هو تحقيق التعادل بين أمرين متقابلين، بحيث يوزن كل واحد منهما بما له قيمة وثقل مع الآخر، بحيث يعطي كل واحد منهما حقه بالكامل دون زيادة، أو نقصان (أو افراط وتفريط)،

 وأن التوازن في الإسلام ليس إلغاءً لأحد الشيئين، أو مزجهما فيخرج منهما منتج ثالث، وإنما بتشغيل طاقة كل واحد منهما وتوجيهها نحو الخير وتوزيع الأدوار، ليقوم كل واحد منهما بدوره المنشود ضمن حركة الحياة الدائبة، كما هو الحال في التوازن بين مكونات الإنسان نفسه، فلكل منها وزنه، ودوره، وطاقته.

فالتوازن بين الرجل والمرأة يعني أن يعرف لكل واحد منهما دوره، ووزنه، ومكانه، ومكانته بدقة، فيعطى لكل واحد منهما حسب ما ذكر حقه، ودوره بالكامل، وهكذا التوازن بين كل أمرين متقابلين مثل التوازن بين متطلبات الدنيا والآخرة، والحق والواجب، وبين مصالح الشخص ومصالح الآخر، وبين مصالح الفرد ومصالح الجماعة والدولة، وبين العقل والعاطفة، وهكذا…

فاالتوازن في جوهره هو تحقيق العدل بين المتقابلين، والوسطية منهجاً في التنظير والسلوك، ورعاية الحقوق المتقابلة بين الإنسان وأخيه الإنسان، والإنسان والحيوان، والإنسان والبيئة، ثم الإنسان وأنشطته المتقابلة داخلياً، أو بين اي نشاط ونشاط متقابل لآخر…

إن القران الكريم أكد على أن الكون كله موزون (وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ) } الحجر: 19{ وأن الإسلام جاء لتحقيق الانسجام والتناغم بين الإنسان والكون من خلال التوازن نفسه، حتى يكون الإنسان متزناً ومتوازناً في أنشطته، وبذلك يكون قادراً على تعمير الكون وفق ما يريده الله تعالى من التعمير المتوازن المحقق لتوازن البيئة، فقال تعالى (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) }القصص:77{

وأن الوسطية الحقيقية للأمة لن تتحقق إلا من خلال المنهج المتوازن فقال تعالى (( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) } البقرة: 143{ وهذه الوسطية هي وسطية التصور والإعتقاد ، لا تغلو في التجرد الروحي، ولا في الإرتكاس المادي، وإنما تتبع الفطرة الممثلة في روح متلبس بجسد، أو جسد تتلبس به روح.. أمة وسط في التفكير والشعور، .. وفي التنظيم والتنسيق… وفي الارتباطات والعلاقات، لا تلغي شخصية الفرد ومقوماته، ولا تُلاشي شخصيته في شخصية الجماعة، أو الدولة…)

فالتوازن هو المقابلة بين وزن الشئ ومقابله، اي بين وزنه الحقيقي دون زيادة أو نقصان، ثم يعطى حقه وما يستحقه ليتحقق التوازن الحقيقي، ولذلك سمي الميزان ميزاناً، ولكن ميزان الحقوق والواجبات، والأنشطة الإنسانية يختلف عن ميزان الماديات، وأنه بهذا التوازن والميزان يتحقق العنصر الأول للعدل والاعتدال، والمنهج الوسط، والحق والقسطاص المستقيم، وأما العنصر الثاني فهو القران الكريم والسنة النبوية الصحيحة، حيث بهما يتحقق المرجعية، ولذلك ربط الله تعالى العدل بهذين العنصرين فقال تعالى (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) }الحديد:25{

وقد تكرر هذا الربط في سورة الرحمن حيث يقول تعالى ( وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ) }الرحممن:7-9{.

 فهذه الآيات الكريمات أكدت على الربط بين القرآن والميزان بالنسبة لسعادة الإنسان وكرامته وحياته في هذه الدنيا حياة سعيدة، ثم بينت أن الله تعالى هو الذي وضع الميزان الدقيق لكل شئ بما فيه الكون كله والإنسان، وأن على الإنسان إذا أراد حياة موزونة أن يحافظ على وزن كل شئ بدقة وعدم الظلم والطغيان في الميزان، وأن ينطلق من مبدأ الرحمة، ومبدأ أن الأرض خلقها الله تعالى لجميع البشر ذكرا أو أنثى بل لجميع المخلوقات (والأرض وضعها للأنام).

إن مبدأ التوازن في العلاقات الأسرية يجب تحقيقه في جميع الجوانب الفكرية والنظرية والتطبيقية والعلاقات الإجتماعية والأسرية والاقتصادية، ومن حيث الرؤية والفلسفة، ومن حيث الأهداف والمقاصد والغايات، ومن حيث الوسائل والأدوات.

أولاً: الجانب العقدي والفكري والفلسفي والمقاصدي هو: أن العقيدة الإسلامية تفرض أن تكون نظرة المسلم إلى كل شأن وبخاصة إلى جزئه الثاني، وشريكة حياته، نظرة قائمة على هذا التوازن الذي يحقق العدل والإنصاف، وذلك من خلال ما يأتي:

1- إن المرأة هي أصل عظيم كما أن الرجل أصل عظيم لبداية الخلق ولإستمراره، فكل إنسان مبدؤه إلى آدم وحواء ، وهما من الأرض القائمة على الزوجية، وكذلك استمرار الحياة حيث يتكون الجنين من 23 كروموسوماً من الزوج، و23 كروموسوماً من الزوجة ، فلا يمكن أن تستمر الحياة بأحدهما فقال تعالى (إِنّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ) }الانسان:2{.

2- إن الحياة الإنسانية لا يمكن أن تستقر وتزدهر إلا بالذكر والأنثى، وبتوزيع الأدوار عليهما، وهذا لا يتحقق إلا بالتوازن.

3- إن التصور الإسلامي يقوم فعلاً على أن الذكر ليس كالأنثى، والأنثى كذلك ليست مثل الذكر، فقال تعالى (وَلَيــْسَ الذَّكــَرُ كَالْأُنْثــَى) }ال عمران:36{ وهي حقيقة طبيعية وعقلية كما أنها حقيقة شرعية، فالأنثى تخلق من XX من حيث الجينات والكروموسومات والذكر تخلق من YX كما أن معظم المكونات الأساسية الجسدية مختلفة بالضرورة والبداهة، فالله تعالى اراد ذلك للتكامل وتوزيع الأدوار، ولو كانا متساويين لكانت المرأة نسخة من الرجل أو بالعكس، وحينئذ لما تحققت الغايات والمقاصد المرجوة من خلقهما.

4- إن مقاصد الشريعة من خلق الذكر والأنثى هو تحقيق العبودية لله تعالى، وتحقيق الاستخلاف والتعمير والبناء والحضارة من خلال التكامل الحقيقي بين الرجل والمرأة، وتوزيع الأدوار بينهما في الحياة الدنيا حتى يتحقق السعادة والمودة والرحمة، وحتى تكون العلاقة بينهما على أساس التآلف والتكامل وليست على اساس الصراع والغلبة والقهر والمغالبة فقال تعالى (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) }الروم:21{ ويقول سبحانه (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) }النساء:1{ ، كما أن من أهم مقاصد الزوجية التآلف والتعارف فقال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) }الحجرات:13{ .

5- إن رؤية الإسلام في التوازن بين الناس هي أن تصل الإنسانية إلى مرحلة النضج في توزيع الحقوق والواجبات بين الرجال والنساء بعيداً عن الظلم ، والإفراط والتفريط، وبعيداً عن الإزدواجية في المعايير، والحقوق والتطبيق.

6- إن حقوق المرأة المتوازنة مع حقوق الرجل هي التي تصنع المجتمع المتوازن دون تصارع ولا تصادم، في حين أن الوضع التصادمي يجعل آثاره واضحة على الفرد، والأسرة والمجتمع، ويؤدي إلى إبطال طاقة الآخر أو جزء منها على الأقل.

7- إن التوازن الحقيقي يقتضي أن يقر التساوي بين الرجل والمرأة في أصل الخلق، وفي كل نشاط أو صفة لا يكون للذكورة أو الأنوثة دور، أو تأثير كما هو الحال في الكرامة، والحقوق العامة من حرية العقيدة والرأي والفكر، ونحوها، وكذلك الحال في الأجر والثواب على العمل الصالح، وثمراته الدنيوية والآخروية، والعقوبات على الأعمال الإجرامية، مع ملاحظة أن بعض الواجبات، أو العقوبات مخففة على المرأة بسبب طبيعة المرأة، أو مدرأة عن المرأة. وكذلك المساواة الكاملة في الملكية، والأهلية الكاملة، فلا فرق بينهما، وبذلك سبق التشريع الإسلامي كل التشريعات الوضعية التي تأخرت كثيراً عن الإسلام في الاعتراف بحق الملكية التامة للمرأة، والأهلية التامة لها

 اذا توافرت شروطها المطلوبة في الرجل وكذلك الاعتراف بالذمة المستقلة للزوجة، في حين أن القوانين الغربية لم تصل إلى هذه النقاط الثلاث إلا في القرن العشرين 

ثانياً: إن التوازن الذي شرعه الله تعالى في الاسرة تكويناً وإستمراراً وانتهاءً وحقوقاً وواجبات هو ما يأتي:

1- تحقيق التوازن عند الاختيار بجيث يكون اختيار الطيبين للطيبات، واختيار الطيبات للطيبين، اي تكون رعاية الدين والأخلاق والقيم في سلّم الأولوية، ثم تأتي بقية المواصفات المطلوبة باختيار الطرفين ايضاً.

2- عند التعاقد فإن التوازن يتحقق بالاختيار المتبادل، وأن يتم تراضي الزوج والزوجة بإرادتين حرتين دون إكراه ولا غش ولا تدليس ولا تقرير ولا غلط من الطرفين، حيث العقد لن يتحقق إلا بهذا التراضي حسب النصوص الشرعية.

3- بعد التعاقد تتكون مؤسسة الأسرة من الزوج والزوجة، ويديرها الزوج، ولكن بالتشاور التام مع الزوجة، فقال تعالى (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى? بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ) }النساء:34{‘ علماً بأن هذه القوامة ليست استبداداً، ولا بالتغلب والمغالبة والقهر، وإنما يجب أن تكون بالتراضي والتشاور، حتى أن صوت الزوج مع أنه مدير، ليس مرجحاً على صوت الزوجة، وهذا ما أكده القران الكريم حيث يقول تعالى (فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا) } البقرة:233{ فهذه الآية الكريمة تضع مبدأ عظيماً لإدارة شؤون الأسرة، وهو أن جميع القرارات، حتى التي يتعلق بفطام الولد عن الرضاعة، يجب أن تكون وفقاً للتراضي والتشاور والتوافق التام. وذلك لأن الله تعالى اشترط لعدم الجناح على الزوجين أن يتم إدارة الاسرة بالتراضي، والتشاور، وإلا فيقع الإثم عليهما أو على الممتنع عن التشاور والتراضي، وبخاصة أن الله تعالى استعمل لفظة “تراض” و “تشاور” وهما من باب التفاعل الذي يدل على المشاركة المتساوية بين الطرفين، على عكس باب المفاعلة الذي يدل على غلبة الفاعل على المفعول به، وهذا يعني أن صوت المرأة ورضاها متساوٍ تماماً لصوت الرجل ورضاه دون زيادة.

4- وبعد التعاقد بحكم الشرع، أو في العقد لا بد من تنظيم مؤسسة الأسرة، وتوزيع الأدوار من خلال توزيع الالتزامات والحقوق على الطرفين، وقد أعطيت للرجل درجة القوامة فقط، ولكن وفق الشرط الذي ذكرته في البند 4 وهي وظيفة تشريفية مقيدة بالتشاور مع الطرف الآخر – كما سبق – وليست سلطة استبدادية أو دكتاتورية.

ومن هنا يقتضي مفهوم التوازن، العلم الكامل من الزوج والزوجة بجميع الحقوق والإلتزامات، ووجوب الحرص على تطبيقها من الطرفين، والسعي الجاد لتحقيقها بكل صدق وصفاء وإخلاص، ولا شك أن من أهم الرسالة الاساسية في الحياة هي قيام الأم بأمومتها بحيث تكون لها الأولوية على الأمور الأخرى.

وقد سعى الإسلام سعياً كبيراً لتنظيم هذه العلاقة بين مكونات الأسرة وحمايتها بجميع الوسائل، واستعمل لأجلها جميع الوسائل المتاحة من التقوى والرقابة الإلهية والدخول في التفاصيل حتى إننا لا نجد أن القران فصّل في شئ مثل ما فصّل في قضايا الأسرة والمرأة، حتى بلغ علاج الحالات الفردية فقال تعالى (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً) }النساء:128{

5- أوجبت الشريعة أن تكون العلاقة قائمة على الود والمحبة والرحمة، والوئام والإنسجام والإمساك بالمعروف، أو التسريح بإحسان بعد استعمال جميع الخطوات المطلوبة.

وبيّنت الشريعة بأن الحلّ الأمثل عند الخلاف هو التحاور بالحكمة (والله يسمع تحاوركما) والجدال بالتي هي أحسن، فإن لم يجد فالوعظ والإرشاد، ثم التحكيم، وعند التحكيم أوجب الإسلام التوازن من خلال (حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا)

6- إن التوازن الأسري يتحقق بأن يقوم كل واحد من الزوجين بواجبهما ومسؤوليتهما التي فرضها الله تعالى عليهما فقال تعالى (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا).

ثالثاً: إن اسس التوازن في الإسلام بالنسبة للأسرة وغيرها هي :

1- العدل من خلال رعاية الحقوق المتقابلة، أو الحقوق والواجبات.

2- التفاهم من الطرفين في جميع الأمور.

3- التعارف على البعض من خلال التعرف على الصفات والأخلاق والطبائع لدى الآخر.

4- الاعتراف بحق كل واحد من الطرفين، وبفضله.

5- التعاون البناء على البر والتقوى.

6- التراضي والتشاور في كل ما يتعلق بشؤون الأسرة.

7- النظر إلى الأسرة بأنها المؤسسة التي يبني عليها المجتمع والأمة، وبالتالي الإتفاق على التخطيط والتنظيم والتنسيق والإدارة الناضجة، والاهتمام بالخطط المستقبلية للأسرة والأولاد، وبيان الأهداف والرؤية والوسائل والمشاريع والبرامج.

رابعاً: أن التوازن متحقق تماماً في الميراث حيث تبين الدراسات العلمية أن النسب المالية في الفرائض مرتبطة بعدة عوامل اقتصادية واجتماعية ولذلك نرى أن الرجل يأخذ أكثر من المرأة في عدة مواضع، ولكن المرأة تأخذ أكثر منها في مواضع أخرى تزيد عن 30 موضعاً، كل ذلك لتحقيق التوازن الإجتماعي والإقتصادي.

وأخيراً فهذا المبدأ المأخوذ من القرآن والسنة هو الحل في عالم اختلت فيه الموازين، والامل في العلماء والمفكرين والمسلمين أن يقدموا للآخرين الرحمة التي أنزلها الله تعالى .

والله الموفق

المقترحات

1- أطالب بتبني مبدا التوازن باعتباره أحسن الحلول التي تحقق الاعتدال والاستقرار والإزدهار.

2- وضع ميثاق جامع مبني على هذا التوازن يدرس دراسة مستفيضة ويستفاد من الدراسات السابقة ثم نقدمه إلى عالمنا الإسلامي والعالم الغربي والشرقي ليكون شفاء ورحمة للعالمين.

3- الاستفادة من جميع الدراسات واللجان والمؤتمرات والندوات وورش العمل في العالم الإسلامي التي أقيمت لهذا الغرض، وجمعها لينبثق منها الميثاق المنشود، والموسوعة العالمية للأسرة في الإسلام.

4- العناية القصوى بمؤسسة الأسرة، وكيفية تحقيق التوازن منها من خلال تخصيص الدراسات الجامعية والرسائل العلمية، وفتح كليات أو أقسام خاصة بها، بالاضافة إلى مراكز البحث المتخصصة بعلم الأسرة.

5- أن يُدرس ميثاق الأسرة وجميع الحقوق المتقابلة، وكيفية إدارة مؤسسة الأسرة وجوانبها الشريعة والقانونية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية بدءاً من الابتدائية إلى الجامعة.

والله الموفق