بسم الله الرحمن الرحيم

لحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه إلى يوم الدين.

أحييكم بتحية الإسلام فسلام الله عليكم ورحمة وبركاته.

يسعدني أن نجتمع اليوم في مؤتمر عظيم يجتمع فيه أهل الأديان السماوية لبحث قضايا الإنسان أو مشاكله الروحية والاجتماعية والاقتصادية، من منطلق الرحمة والعدالة اللتين جاءت الأديان السماوية كلها لأجلها، وهذا ما أكده القرآن الكريم والكتب السابقة من التوراة والإنجيل ونحوهما، وجاء القرآن الكريم مؤكداً لما جاء فيها ومصدقاً لها، ومكملاً لرسالة الرحمة ومتمماً لمكارم الأخلاق.

إن الإنسانية اليوم تعاني حقاً من مشاكل متنوعة، فالعالم المتقدم المتطور يعاني من مشاكل الفراغ الروحي، والتفككك الأسري والاجتماعي، وجاءت الأزمة المالية لتضيف إليها المشاكل الاقتصادية، ولتزداد المشاكل الاجتماعية والنفسية، والعالم الثالث يعاني من مشاكل التخلف، والطغيان، والاستبداد، والدكتاتورية، والاحتلال، والاستعمار، بالإضافة إلى مشاكل الفقر والبطالة والتضخم، والحروب الأهلية، ناهيك عن أن العالم كله يواجه مخاطر التلوث البيئي، والتصحر، ومشكل الأوزون ونحوها، بسبب الطغيان والجشع والبعد عن القيم الروحية والدينية، فقد قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41].

ومع كل هذه المشاكل، فإن الاضطرابات الدينية والعرقية والعنف والإرهاب – تحت أي مسمى – تحيط بعالمنا اليوم في كل جانب، مما يهدد فعلاً الأمن العالمي والسلم الاجتماعي، ويقوّض قيم الحوار ويقضي على روح التعايش والتعاون المشترك، وينهى عملية التسامح بين أهل الأرض جميعاً..

أمام هذه المخاطر يمكن القول: إن المنظومات البشرية قد فشلت في حلها، فلم تستطع القوانين الدولية علاجها، وبيان الشفاء لأمراض الإنسان الداخلية، وإعادة الرحمة – التي هي الأساس في العلاقات الإنسانية – إلى قلوب الناس ونفوسهم، وتركيز الحكمة في عقولهم، ونمو الأخلاق وعلوها إلى أرواحهم.

أيها الحضور الكرام:

لا أشك أنّ لدى كل دين الكثير من القيم، ولكن دعوني أتحدث عن هذا العلاج في القرآن الكريم بإيجاز شديد.

إن القرآن الكريم يعالج مثل هذه القضايا الكبيرة الخطيرة بمنهج عجيب لا يدركه إلا من ذاقه، وهو منهج التمهيد للأنفس، والتركيز على القناعات والبيِّنات، والأخذ بزمام الأنفس الإنسانية خطوة خطوة إلى أن يصل بها إلى الحل المطلوب.

ففي موضوعنا يريد القرآن الكريم أن يصل بنا إلى قناعة قطعية بضرورة التعايش السلمي والتسامح، بل تحقيق الأخوة الإنسانية وقبول الآخر من خلال المقدمات القطعية للوصول إلى مشتركات يقينية هي من البديهيات، ولكنها غائبة عن الإنسان وهي:

أولاً: شراكة كل البشر في الأصل وهو التراب، فالطين ثم آدم وحواء، وهذا ما يؤكده القرآن في عشرات الآيات لتحقيق هذه القرابة والأخوة، ثم يؤكد على رعاية هذه الحقوق فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، وقد قال علماء التفسير: إن هذه الأرحام أرحام البشرية جميعاً، وإن الله تعالى أمر برعايتها وأداء حقوقها، وبالتالي فالمفروض أن تنتهي العنصرية والظلم، وأن يسود العدل والمساواة والحقوقو المتقابلة، وهذه الأخوة تؤكدها السنة النبوية المشرفة، وسيرة العلماء الراشدين، حيث أكَّد ذلك سيدنا علي رضي الله عنه في رسالته إلى واليه بمصر. ومن هنا نرى القرآن الكريم يسمي بعض الأنبياء بلفظ قومهم، مثل قوله تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} [الأعراف:65]، وقوله تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} [الأعراف: 73]، وقوله تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} [الأعراف:85].

ثانياً: شراكة بني البشر جميعاً في أنهم مكرّمون بوجود نفخة من روح الله فيهم، حيث دلّت الآيات على أن الله تعالى حينما أراد خلق آدم نفخ فيه من روحه، وحينئذ أمر بسجود الملائكة له إيذاناً بخضوع الكون كله له من خلال مفتاح العلم، فقال تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر:29].

كما دلّت الأحاديث الصحيحة على أن كل جنين يأتيه الملك فيكرمه الله بالروح التي هي من خصوصية الانسان. ولهذه الروح أكرم الله تعالى جميع بني آدم فقال سبحانه: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:70].

والقرآن حينما يؤكد على هذه المعاني في آيات عدة، يؤيد من خلالها تنبيه الإنسان من أي نوع كان، مشيرا إلى أنه يتعامل مع مخلوق فيه نفخة الله، اذن كيف تعتدي عليه؟ وكيف تذله؟ وكيف تهينه؟ ولذلك حرّم الله الاعتداء على النفس دون حق، ولم يميّز بين كونها مؤمنة أو غير مؤمنة، فقال تعالى: {أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32].

ثالثاً: إن الله تعالى جعل مجموعة من القضايا والميزات لجميع بني البشر من ذلك:

1-    إن رحمة الله تعالى في الدنيا للناس جميعاً، بل لجميع المخلوقات، ولذلك وصف رحمته بأنها وسعت كل شيء {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156]، وبدأ كتابه الخاتم القرآن الكريم في بداية المائة وثلاث عشرة  (113) سورة  بالرحمن الرحيم، كما تكررت الرحمة ومشتقاتها، والرأفة، والحنان والغفران ونحوها أكثر من ألف مرة، وهو تنبيه منه تعالى على مكانة الرحمة وفضلها، والتعامل بها بين الناس، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء).

2-    إن الله تعالى خصّ رسالته الخاتمة بأنها رسالة الرحمة للعالم أجمع، فقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، حتى يقتدى به في الرحمة بالعالمين، ولذلك دخلت امرأة النار بسبب هرة حبستها حتى ماتت، ودخلت أخرى الجنة بسبب أنها سقت كلباً حتى ارتوى.

3-    إن الله تعالى جعل الكون بسمائه وأرضه وما بينهما للبشر جميعاً فقال تعالى: {سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ} [الجاثية:13]، وقال تعالى في سورة الرحمن: {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ} [الرحمن:10] أي المخلوقات جميعاً.

كل هذه المشتركات لأجل أن يتقرب أحدنا من الآخر، ويحسن بأخوته وقرابته، وبأن الكون ليس لفئة معينة بل يسعنا جميعا، ويجب أن نعيش فيه بالعدل والرحمة والسلام.

رابعاً: إن القرآن الكريم أكد على المشتركات الكثيرة بين الأديان السماوية السابقة، وجعل الاسلام خاتمتها، كما أن المسلمين اغتموا وانزعجوا حينما انتصر المجوس على أهل الكتاب، وأنزل الله تعالى في ذلك سورة سميت بسورة الروم.

ووصف الله تعالى جميع الأنبياء وبخاصة سيدنا إبراهيم عليه السلام بأوصاف عظيمة، وجعله قدوة لسيدنا محمد، وكذلك سيدنا موسى وسيدنا عيسى وصفهما بأوصاف عظيمة، وأمر رسوله محمداً بالاقتداء بهم فقال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90]، كما وصف التوراة والإنجيل بالهداية والحكمة والموعظة الحسنة.

كل ذلك يستدعي تماسك أهل الأديان، ومن أجل ذلك دعاهم إلى كلمة سواء، وهو ما نحتاجه اليوم، فقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاء} [آل عمران:64]، وتعالوا يعني تساموا وارتقوا، وهذا يعني أن الوصول إلى كلمة سواء يحتاج إلى السمو والتسامي فوق الجزئيات، والترفع عن كل ما يعكّر جو الصفاء والأخوة، وأن الاجتماع على كلمة سواء لا يتحقق في ظل الأنانية والنفوس المريضة بالاحقاد.

خامساً: إذا كان القرآن الكريم قد دعا أهل الكتاب وأهل الأديان إلى التسامي والأخوة والتعايش وقبول الآخر، فإنه لم يترك الذين لا يؤمنون بالله تعالى، بل دعاهم تحت إطارين:

1-    الإطار الإنساني الذي بيّناه في الفقرات الثلاث الأولى.

2-     الإطار العقلي الفطري الذي فطر الله الناس عليه، وهو البحث عن الحقيقة، فقال تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ * قُل لّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [سبأ:25،24]، فبهذا الأسلوب الرقيق العظيم دعاهم إلى هذه القاعدة المشتركة بين الناس جميعاً وهو البحث عن الحقيقة.

أيها الإخوة والأخوات في الدين والإنسانية، والبحث عن الحقيقة، إذا سرنا على هذا المنهج فبالله عليكم هل يبقى إشكال في العيش المشترك، بل والرحمة والعدل والمساواة، لكننا جميعا نحتاج إلى هذا التسامي، فلنحقق لأرواحنا هذا السمو والارتقاء وعلو الهمة والبناء، ولأنفسنا الصفاء، ولقلوبنا السلامة والنقاء، ولعقولنا الحكمة والاصطفاء، فعلينا أن نقدم للمستضعفين الرحمة والمودة، ولمرضى القلوب الشفاء والدواء.

فكلمة السواء المطلوبة منا بيننا بالاضافة إلى ما ذكرت هو ما يأتي:

1-    أمامنا قضية عادلة عمرها أكثر من نصف قرن، وهي قضية الشعب الفلسطيني الذي ظلم في أرضه، وحقوقه فلنقف معها بحق حتى يتحقق للشعب الفلسطيني جميع حقوقه السياسية والاجتماعية، وتعود إليه أرضه، ويطلق سراح أسراه وسجنائه، ويفك الحصار عنه ولاسيما في غزة العزة، فلنقل قول الحق كما أمرتنا به الكتب السماوية ولا نخاف في الحق لومة لائم.

2-    وأمامنا قضية حديثة تجاوزت كل الحدود من أكثر من سنتين وهي قضية الشعب السوري المظلوم الذي يقتل بأفتك الأسلحة والعالم يتفرج، يا لها من أنانية ويا لها من لاإنسانية، فلنقف صفاً واحدا ضد هذا الظلم، ولنضغط على الحكومات التي تقف مع هذا الظلم ضد الشعب السوري المظلوم.

3-    وأمامنا قضية أخرى إنسانية وهي قضية المنكوبين في ميانمار في أسوء كارثة إنسانية على مر التاريخ، شعب يباد أمام مسمع ومرأى العالم المتحضر، وكذلك قضية الاضطهاد الديني في بعض البلاد مثل سريلانكا، بالإضافة إلى قضية الفقر والمجاعة في العالم، وموت الأطفال والشيوخ بسبب قلة الغذاء والدواء، فلنقف صفا واحداً لدرء المظالم والاضطهادـ ولتقليل الفقر والمجاعة.

4-    وهناك كلمة سواء أخرى متفق عليها بين جميع الأديان والعقول السليمة، وهي مقاومة الظلم والاحتلال والاستعمار والاستعباد والتجارة بالانسان.

5-    وأمامنا ظلم آخر في توزيع الثروات، أي الظم الاقتصادي، حيث يأخذ حوالي 25% من البشر 75% من الثروات، فلا بد أن نقف مع عدالة التوزيع الاقتصادي والاجتماعي.

6-      وهناك كلمة سواء أخرى بين جميع الأديان وهي قضية أخلاقية، وهي محاربة الشذوذ الجنسي، والزواج المثلي الذي يهدد العنصر البشري بالزوال، فلنكن صرحاء جريئين، فالأديان الحقة لا يجوز لها أن تهبط وتنزل إلى مستوى الشارع، بل يجب عليها أن ترتقي وتسمو بالناس إلى القيم الشامخة.

7-     وأخيرا هناك كلمة سواء بين الأديان وهي الوقوف صفاً واحداً ضد إزدراء الأديان، والعمل على احترام الأديان، وهنا أشيد بدولة قطر ممثلة في وزارة العدل التي قدمت مشروع قانون بهذا الخصوص إلى جامعة الدول العربية فوافقت عليه، ثم تم التنسيق مع وزارة العدل القطرية والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين لعقد مؤتمر دولي عالمي لتقديم مشروع ينص على احترام الأديان جميعها دون المساس بالحرية المنضبطة إلى الأمم المتحدة والمنظمات الدولية.

أيها الحضور الكرام

فلنحوّل القول إلى الأعمال والمؤتمر إلى مشاريع، ولنجعل حوارنا حواراً بناءً كما أمرنا الله تعال، لتحقيق الخير للجميع، ثم لننطلق من الحوار البناء إلى التعارف الحقيقي مع بعضنا البعض، فالمشكلة في الجهل بحقيقة دين الآخر، ومن التعارف إلى الاعتراف إلى التعامل الجاد والتعاون المثمر، ومن التعاون المثمر إلى الأعمال المشتركة والمشاريع الجامعة على مستوى العالم، ومن خطة مدروسة ليكون لنا شرف المشاركة في إنقاذ العالم والمساهمة في تخفيف المعاناة وإطفاء نيران الكراهية.

فنحن جميعا مسؤولون أمام الله ثم أمام التاريخ والأجيال إذا قصرنا في حق أي إنسان مظلوم، أو مضطهد، أو فقير، أو جائع، فلنبدأ بحلف بيننا للتعاون على كل ما فيه الخير للإنسانية جمعاء.

{وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2].

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

                       أ.د علي محيي الدين القره داغي

الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين