أيها الإخوة المؤمنون

إن من سنن الله تعالى أن الأمة لا تتكون من الفراغ وأن القوة لن تتحقق من دون الأخذ بالأسباب، وأن الحضارة لا يمكن صناعتها أو تحقيقها إلا من خلال الأخذ بمقوماتها، والتضحية في سبيلها.

بين الله سبحانه وتعالى لهذه الأمة كل هذه المكونات وكل هذه الأسباب على الرغم من أن العقل السليم والفطرة السليمة يصلان إلى هذه القضية والنتيجة من أهمية الأخذ بمقومات الحضارة والقوة.

لكن الله أكد ذلك من خلال مئات الآيات التي تتحدث عن الإيمان، وحينما تتحدث عن الإيمان لا تترك الإيمان وحده، وإنما تتحدث كذلك عما يمكن أن تقوم بعد الإيمان والعقيدة من الأسباب و المكونات والمقومات لتحقيق القوة والحضارة حتى تكون هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس. لأن هذا الشعار ليس مجرد ادعاء ولا يمكن كذلك أن يتحقق بمجرد ادعاء ( ليس بأمانيكم ولا بأماني أهل الكتاب من يعمل سوءًا يُجزَ بِه) فقاعدة الثواب والعقاب وقاعدة النتائج والآثار المترتبة على الأسباب قاعدة إلهية ربانية كما أنها قاعدة عقلية فطرية.

ما ذكر الله لفظ الإيمان إلا وذكر معه العمل الصالح ، والعمل الصالح هو كل عمل نافع للفرد والجماعة والأمة، نافع لدينه ودنياه بل نافع لدنياه أولاً ثم لآخرته ثانياً فالدنيا مزرعة الآخرة ولا يمكن أن يخسر الإنسان في الدنيا وهو يطمع أن يكون ناجحاً في الآخرة فكلاهما مرتبطان ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) والعمل الصالح كما هو العقيدة والشعائر هو أيضاً العمل اليدوي والفكري والذهني والبناء والصناعة وكل ما ينهض بالأمة ويقويها.

رتب القرآن كل هذه الأعمال الصالحة في إطار العبادات، ففي سورة الجمعة يقول رب العالمين (إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أمرنا الله بأمرين يتعلقان بهذه الصلاة أن نترك العمل اليدوي ونترك البيوع والمعاملات حينما ينادي المنادي للصلاة ونسعى ولم يقل رب العالمين، ويذهب بل المطلوب من المسلم أن يسعى أي أن يركض ويجري بسرعة حتى ينال الشرف والأجر العظيم الذي أعده الله سبحانه وتعالى للمبكرين يوم الجمعة لأداء الجمعة .

إن تأخر البعض للصلاة في يوم الجمعة دليل على عدم تأثير القضايا الدينية في نفس الإنسان وأنها أصبحت عادة كما في صلاة التراويح  ولكن لو كان سعيهم عبادة حقيقية لنظم أمره وأحس بالمسؤولية . فبعد أن أمرنا الله  بالسعي وترك العمل اليدوي أمرنا أيضاً بأمرين ( فإذا قضيت الصلاة) فبعد انتهاء الصلاة والأوراد مباشرة لا يجوز لك أن تبقى في المسجد ( فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله) بل عليك الذهاب إلى أعمالك. أمران متساويان في العبادات وفي العمل الدنيوي لأننا نحن المسلمين مكلفون بإعداد الأمة على أن تكون قادرة على مواجهة التحديات والصعاب. والأمة التي تواجه الصعاب لا يمكن أن تنهض بفائض الوقت فقط، عملتْ دراسة حول فترة العمل بين الدول المتقدمة والدول الأخرى فوجدوا أن مستوى العمل في مقابل الإنتاج يعادل تسع ساعات يومياً لكل عامل أما النتيجة في إحدى الدول العربية وجدوا أن نسبة الإنتاج عشرين دقيقة يومياً لكل إنسان عامل.  

الغرب تقدم من مئتي سنة واليابان من خمسين سنة وكوريا الجنوبية من ثلاثين سنة وقد خرجت من حرب وما زالت في حرب مع كوريا الشمالية. أما حال الأمة خدرت ببعض الأشياء وخدرت ببعض مفاهيم دينية خاطئة مثل أن يقال نحن خير أمة تماماً ولكن هذه الأمة لها مواصفات فلها القدرة لخدمة الناس ولكن نحن مخدومون ومن شر البلية ما يضحك أن بعض الخطباء قالوا: إن الله سخر هؤلاء الكفرة ليصنعوا لنا الطائرات والسيارات لنركبها نحن !!! فمن المصائب أنك لا تستطيع أن تصنع ما تركبه وما تستعمله .

الأمة اليوم حتى لا تستطيع صنع السجادة التي تسجد عليها ولا السبحة التي يسبح البعض بها وحتى الأثواب التي نلبسها ليست من صناعاتنا.

الأمة لها عمق تاريخي وحضارة والغرب اعتمد عليها ولكننا اليوم في حالة يرثى لها.

القضية تعود إلى نظرتنا إلى العمل فهذا تقسيم خطير ، تقسم العمل إلى عبادة وغير عبادة ففي التصور الإسلامي كل الأعمال الصالحات عبادة بالنصوص الشرعية بكل ما تعني الكلمة بل العبادة بمعنى الصلاة والصيام تسمى بالشعائر التعبدية ولو سميت بالعبادات فهذا بالمعنى الخاص وليس هذا هو الهدف الأسمى من خلق الإنسان، بل الهدف الأسمى أن يعبد الله عبادة شمولية في صلواته وصيامه وأعماله وفي صناعته وتجارته وزراعته وفي كل الأعمال، ولو كانت العبادات فقط الصلاة والصيام وغيرها من الشعائر لكانت الملائكة هم الخليفة في الأرض وهذا الذي فهموه من البداية حينما عرض رب العالمين عليهم آدم فقالوا ( ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ) فأجاب الرب ( إني أعلم ما لا تعلمون) فالذي يعلمه رب العالمين أن هذا الإنسان خلق لتعمير الأرض والكون وأن العبادات والشعائر تصلحه وتجعله إنساناً عادلاً حتى لا يؤذي الآخرين كما يفعله الغرب حينما يعمرون ويحققون الحضارة يدمرون غيرهم فالله أراد من الإنسان أن يعمر الكون بما يحقق للناس أجمعين ( وما أرسلناك رحمة للعالمين )

نحن قصرنا في هذا المفهوم وحصرناه في مفهوم العبادات وحتى في العبادات لا يبدع فيها إلا قلة من الناس بصورتها الصحيحة والحقيقية .

إذا تحدثنا عن حديث السفينة فالرسول صلى الله عليه وسلم شبهة الأمة الإسلامية بالسفينة وإن السفينة لا يمكن أن تخطو خطوة واحدة إلا بالحركة والطاقة والطاقة تحرق بالعمل والنشاط وتحديث قوة تدفع بالسفينة للتحرك وكذلك هذه الأمة لا يمكن أن تتحرك سفينتها إلا إذا وجدت الأعمال الكثيرة التي تحرق الأنشطة والأمور للتكون منها الطاقة المحركة التي تدفع الأمة نحو التقدم نحن اليوم نحرق أشياء كثيرة ولكن لم تحول إلى طاقة لأن العمل لم يصل إلى المستوى الذي يريده الله تعالى.

ذكر الإمام الشافعي إذا لم تنزل من القرآن غير سورة العصر لكفت الأمة لأن سورة العصر تحدد للأمة مصيرها ومستقبلها وكيفية تحركها حيث يبين الله تعالى في هذه السورة العظيمة ( والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) في الجزء الأول من السورة يشير إلى الزمن والزمن هو الحياة والحضارة والقوة ولذلك لما درس الحضارة الغربية وجدنا أنها قامت على ثلاث أسس أولها تقديس الوقت والثاني تقديس العمل والأمر الثالث الإبداع الفردي.

الله سبحانه أقسم بالزمن كله وقد سئل الإمام الشافعي في نهاية القرن الثاني الهجري  عن رجل صلى صلاة الظهر ثم تذكر أنه صلاها بدون وضوء والرجل أجير. والأجير في لغة الفقهاء هو الموظف سواءً كان عاملاً أو رئيساً أو خليفةً. فقال الإمام الشافعي رداً على السؤال: إنه يجب على الرجل حقان، الحق الأول: أن يعيد الصلاة فوراً، والحق الثاني: أن يعيد حق صاحب هذا العمل أيضاً، إذا كانت إعادة الصلاة قد استغرقت مثلاً ربع ساعة، فيجب عليه أن يعوض ربع ساعة في آخر دوامه.  فلنقارن هذه الفتوى بما يعمل العمال والموظفون في أوقات دوامهم.

لذلك قلت نسبة الإنتاج عندنا وكيف النهوض بالأمة!

الصراع قائم بين الحق والباطل وبين الفلاح والخسران ( إن الإنسان لفي خسر) ولا يمكن لهذا الصراع أن يحسم لصالح الإنسان إلا بهذه الآية أولها الإيمان ولم يذكر الله تفاصيل الإيمان في سورة العصر والإيمان هو الإيمان بكل ما أنزله الله تعالى والإيمان الذي يخرجك من دائرة الكفر، أما في دائرة العمل والحضارة والقرآن فإن الإيمان وحده لن يغني إذا لم يكن معه العمل الصالح . ويجب تفعيل هذا الإيمان وجعله شيئاً حقيقياً وهو أن تعمل لله وأن تبذل كل جهدك.

لا يمكن للإيمان أن يكون له دور في نظر القرآن الكريم إلا إذا كان معه العمل الصالح وإلا دخلنا في الإرجاء الذي كان السلف الصالح ينهون عنه.

ويقول ابن تيمية في تعريف العبادة بأنه الالتزام بجميع ما أمر الله به والانتهاء عن جميع ما نهى الله عنه ولكن الأوامر والنواهي في القرآن حول الحضارة والقيم والعمل أكثر  عدداً وقوة من الأوامر والنواهي التي نزلت في الشعائر التعبدية.

والعمل الصالح هو العمل المتقن لأن القرآن بين لنا أن الصراع بين الخير والشر لن يحسم بمجرد العمل وإنما يحسم بالعمل الأحسن فقال تعالى في سورة الملك ( تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً) القرآن يتحدث هنا عن الملك والكون وصناعة الحياة والموت ثم يقول ليبلوكم أي يمتحنكم في كل الأعمال لذا يجب أن يكون عملنا اليوم أحسن من عمل الأمس وهكذا وأكد القرآن في عشرين آية على أهمية الأحسنية ولا يمكن أن تتقدم الحضارة بدونها كما تجد اليوم الصراعات بين المنتجات والأحسنية وأرباح هذه الشركات التي تدل على صناعة العقول.

توصية رب العالمين أن نعمل كل الأعمال الصالحات وأن نخدم أمتنا بما ينفع الناس ونكون قادرين على صناعة الأمم ونبنيها.

الخطبة الثانية

البعد الجغرافي للأمة من أعظمه فنحن نستطيع أن نتحكم الشرق والغرب والشمال الجنوب لكن هذا التحكم يحتاج إلى قوة ويحتاج إلى إرادة ولكن هم يتحكمون فينا وأمتنا أصبحت مفعولاً بها بدل أن يكون أمة فاعلة .

من سنن الله حينما تضعف الأمة تتفرق وتتمزق فأصبحوا يتلاومون وحينما تكون قوية يتوجه نحو الأمان وتنظم أنفسها وتبني نفسها بالداخل لذلك لما تكون الأمة ضعيفة لا تعمل ولا تبدع وحينئذ يتحكم فيها الآخرون فنسبة المواد الغذائية المستوردة تصل إلى 70% .

وحتى في صراعاتنا ننتظر تدخل الآخرين ليعملوا لنا شيئاً فصار لنا أربع سنوات ننتظر الدخول في الصراع في سوريا والآن في اليمن ضد الانقلابيين الحوثيين والعراق دمر تماماً وكذلك في الدول الأخرى وحتى في أذربيجان فقد سيطرت هناك دولة أرمينا ببعض مناطقها ولا نعمل لها مع أن أرمينيا لا يعترف بها كثيرون وليست لها المصالح مثل المصلحة مع أمريكا وغيرها حتى نخاف منها.

فالأمة بين الفلاح والخسر إذا لم تكن أمة قوية .