أيها الإخوة المؤمنون

حذرنا اله تعالى في القرآن الكريم من الغرور والاغترار لأي سبب كان، سواء كان هذا الغرور بسبب كثرة الأموال والأولاد، أو بسبب زنة الحياة الدنيا وزخرفها، أو بسبب الجاه والقوة والسلطان، أو بسبب ما يملكه الإنسان من عقل مدبر وغيره من نعم الله تعالى التي وهبها الله تعالى للإنسان.

فلا يجوز للمسلم أن يتصف بالغرور في حياته وأعماله وتصرفاته وسلوكه، وقد توجه الله تعالى إلى الإنسان بسؤال استنكاري مستفسراً عن سبب الغرور الذي يصيبه فينأى به عن الطاعة وامتثال أوامره، { يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ*الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ*فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ}[1]، فهل حق الله تعالى بعد أن منحك كل هذه النعم أن يعصى؟

إذا كان الإنسان الذي يشعر بشيء من الوفاء لا يرضى أن يعامل إنساناً آخر أحسن إليه بشيء من متاع الدنيا إلا بالإحسان والشكر، فكيف يصح هذا التصرف ويقبل من الإنسان الذي يتقلب في أفياء نعم الله تعالى التي أسداها إليه، والتي لا تعد ولا تحصى؟

إن كان سبب غرور الإنسان هو العقل المفكر والمدبر، فمن الذي أعطاه هذا العقل ليتدبر به شؤون حياته، ويتفكر في مآلات أمره؟

وإن كان السبب الجاه والقوة والسلطان فما هي إلا أنواع ابتلاءات ابتلاه الله تعالى بها، عليه أن يحذر من التردي معها، وما ابتلاه الله تعالى بها حتى يختبر إيمانه، وينظر ما هو صانع فيها، فيقيم الحجة عليه.

إن المؤمن كلما زادت نعم الله تعالى عليه ازداد شكراً لها وتواضعاً لله تعالى، وله في رسول الله تعالى القدو ة الحسنة والأسوة الصالحة، يروى أصحاب السير والمغازي أن رسول الله r حي دخل مكة يوم فتح مكة، وقد خضع له من كان فيها من العظماء الذين كانوا يغترون بما لديهم من جاه ومال وقوة، وأذل الله تعالى له صناديد قريش وزعماء مكة، دخلها صلى الله عليه وسلم في قمة التواضع لله تعالى، لم يخطف قلبه الزهو ولا الغرور، بل كان من شدة تواضعه أنه أخفض رأسه كأنه ساجد على راحلته، شكراً لله تعالى الذي امتن عليه بالفتح المبين.

إن المسلم إذا لم يصل إلى هذه الحالة من الشكر والتواضع، ولم يتقلب قلبه بين رجاء الله تعالى والخوف منه، وأصابه الكبر والغرور، كانت نتيجته وخيمة، وكانت حاله غير محمودة.

ولنا فيما ذكر الله تعالى لنا في كتابه من قصة إبليس وغروره عبرة وعظات، إذ كان يعبد الله تعالى بسعادة السنين الطوال، فأكرمه الله تعالى وأدخله مع الملائكة يتعبد الله معهم، وفي أول اختبار وامتحان له فشل وأصابه الغرور بأصله، وذلك حين أمر الله تعالى الملائكة أن تسجد لآدم تكريماً له، سجد الملائكة كلها أجمعون، إلا إبليس أبى و استكبر، ورفض أن يسجد مغتراً بأصله قائلاً : {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ }[2]، لم يدرك أن النار والطين كلاهما من مخلوقات الله تعالى، ولم يدرك إكرام الله تعالى لآدم عليه السلام.

في هذ القصة من العبرة والعظات ما يجعلنا ننفر من الاغترار بالأنساب والأحساب، ومن الاغترار بالقوميات والقبيلة، لِمَ التفاخر ونحن جميعاً من أصل واحد، انحدرنا من سلالة آدم، وآدم خلق من تراب؟

إن من أشد أنواع الغرور وأخطرها اغترار الإنسان بأماني الأعداء، من شياطين الإنس والجن، إذ يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً، لينزلوا بالأمة من العياء إلى الحضيض، وليسهل لهم السيرة على الأمة فينهبوا مقدراتها وثرواتها، وإن المرء إذا اغتر بأماني الأعداء فإنه يضل طريقه، ويفقد صوابه، ويجهل مصيره، ويندحر نحو الهاوية والهلاك، ولربما تسبب في وبال الآخرين من أفراد المجتمع وأدخلهم في بؤر الفساد فأرداهم وألبس عليهم الأمر، وأهلكهم.

إن المتصفح للتاريخ والحصيف الأريب، ليجد أن الأعداء لا يريدون خيراً لهذه الأمة، وليدرك تماماً أنهم يكيدون بالأمة ليل نهار، ويحيكون لها دوائر السوء، يزينون الدنيا بزخرف القول، ويزرعون في قلوب ضعاف النفوس الغرور، ليبعدوا الأمة عن ساحات المجد وميادين العزة والكرامة، والأمة تفرح بأمنيات العدو، وتستبشر بها خيراً، ولا تتعظ ولا تنهل من عبر التاريخ دروساً.

ففي تاريخنا المعاصر لم تسمح أمريكيا لطائرة شاه إيران، شرطيها على منطقة الخليج، بالهبوط في أراضيها للعلاج، وكان قد قدم خدمات جليلة لأمريكا، فتنكرت أمريكا لكل ذلك، ورفضت علاجه، ثم استقبله مصر ومات فوق أراضيها.

وهذا ما يفعله الشيطان مع الإنسان، فإنه حين يستدرجه إلى الكفر  بالله تعالى وعصيانه والتمرد عليه، وجحود نعمه تعالى ونكرانها، بوسوسته التي تسيل حلاوة وتكتسي حسناً، حتى إذا أُشرب الإنسان حب المعصية في قلبه، وأُشبع من رغباته، واستسلم لشهواته، واستحكمت فيه أهواؤه، بحيث لا يستطيع الفكاك عن الكفر والعصيان، أعلن الشيطان البراءة منه، وظهر بمظهر الخائف الوجل من الله تعالى، وقال: { إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ }[3].

وهذا ما فعله مع أبينا آدم عليه السلام، حين يئس من الوصول إلى قلبه والتحكم في فكره، دخل إليه من مسرب الغرور الذي جبلت عليه النفس البشرية، وأقسم له الأيمان أنه إنْ استمع إلى نصحه، ليكوننَّ من أصحاب جنة الخلد، وليملكنَّ ملكاً لا يبلى، فأكل آدم من الشجرة، وكانت النتيجة هي الخروج من الجنة.

فمن اغتر بالدنيا وزينتها، وبالقوة وجاهها، وبالأموال وأنواعها، وبقوته الفكرية والعقلية كان مصيره مصير إبليس إلا إذا تاب توبة نصوحة، إذ باب التوبة مفتوح لا يغلق.

إن القرآن الكريم ذكر لنا من قصص الأولين الذين أوهنهم الغرور، وأصابهم في مقتل، وبدل حالهم من الأحسن إلى سوء النتائج والعاقبة، لتنهل الأمة من تلك القصص عبراً تنهض بها من أسفل إلى أعلى، ولتكون تلك القصص بمثابة وخزات تحرك فيها روح الانتماء إلى أمة فيها الخير إلى يوم الدين.

ذكر القرآن الكريم قصة فرعون، الذي آتاه الله تعالى ملك مصر، ورفض الاستجابة لدعوة نبي الله موسى عليه السلام، وحاربها واضطهد من آمن بها، وأعماه عن الحق الاغترار بالقوة والجاه والسلطان، وأعلن في قومه أنه ربهم الأعلى، واحتج بما يملك من مال وقوة، { وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ }[4].

وكذلك وزيره قارون الذي استولى الغرور على قلبه، وطبع على أحاسيسه ومشاعره، فتنكر لنعم الله تعالى، وتباهى على قومه، وخرج عليهم في زينته، فلم تخطف زينته قلوب الذي تذوقوا معنى الإيمان، ونصحوه: {لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ }[5]، فلم يعبأ بنصهم، ولم يعر اهتماماً بقولهم، وقال لهم، وقد أخذه الغرور، وسلك فيه كل مسلك، وقال لهم: { إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي }[6]، فكانت النتيجة أن خسف الله به وبداره الأرض، فما أغنت عنه أمواله، وما كان له من فئة تنصره.

إن الإسلام يركز في توجيهاته على الابتعاد عن الغرور، ويبين أن واجب الأمة أفراداً وجماعات أن تنصح من يصاب بداء الغرور، حتى ولو أوصل النصح إلى استشهاد الناصحين، قال صلى الله عليه وسلم:" سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ ، وَرَجُلٌ قَامَ إِلَى إِمَامٍ جَائِرٍ فَأَمَرَهُ أَوْ نَهَاهُ فَقَتَلَهُ"[7] .

إن غرور صاحب السلطة أشد من غرور المرء الذي لا سلطة لديه، فإن من يتولى منصباً إذا أصيب بمرض الغرور أورد قومه موارد الهلاك والضلال.

إن العدو يتزلف إلى بعض الحكام بالأماني الكاذبة، وينفخ فيه الوعود البراقة، التي تضعف النفس وتذهب بالعقل، فلا يتوانى هذا الأخير في سبيل إدراك تلك الأماني ويسعى بكل الوسائل إلى تحقيق تلك الوعود، ولو أراق الدماء، وأزحق الأرواح، ودمر البلاد، وشرد العباد.

إن الذي يتأمل مشاكل العالم الإسلامي عامة، والعالم العربي بخاصة، ليجد أن وراء كل تلك المشاكل الغرور، إذ يصاب بعض قادة العالم العربي بغرور يطيش معه العقل، ويطير الصواب، وتزيغ به الأهواء، حتى أمام الأعداء، كما حصل مع قادة دولة عربية ادعت في ستينيات القرن الماضي أنها سترمي إسرائيل في البحر، وما هي إلا دورة أيام قليلة حتى در العدو الإسرائيلي معظم عتا وقوة تلك الدولة، وكانت النكسة الكبرى.

الخطبة الثانية:

لو نظرنا إلى أحوال عالمنا الإسلامي لوجدنا أن الغرور الذي أصاب بعضنا هو أحد الأسباب الأساسية لمصائب هذه الأمة، وبخاصة اغترار بعضنا بأعدائنا، وإن تظاهر العدو بالصداقة.

يجب على الأمة الإسلامية أن تتعامل مع العدو على أساس المصالح ضمن استراتيجيات تقوم عليها المصالح المشتركة وفق النظرية المكيافيلية التي يتقن العدو اللعب عليها.

هذه النظرية التي تقوم على أساس أنه ليس هناك عدو دائم ولا صديق دائم، وهي ذاتها التي انبثقت عنها النظرية اليهودية في مجال العمل" الغاية تبرر الوسيلة"، وقد مارسها العدو بإتقان حين أرادوا إسقاط الخلافة العثمانية، حيث بثوا في نفوس الأمة العربية غرور الأولى بالخلافة، وأنهم من نسل أمة نزل القرآن بلغتها، وزرعوا الكراهية تجاه القوميات الأخرى التي تشارك الأمة العربية الوطن، فسقطت الخلافة، وتنازعت الأمة العربية وفشلت، وتكالب عليها العدو من كل حدب وصوب.

ونسيت الأمة العربية أن الإسلام نقي طاهر لا يفرق بين عربي وأعجمي، إذ كل القوميات التي دانت بالإسلام خدمت الإسلام والأمة العربية، وحرصت على تقديم نضارة الإسلام ونقاوته إلى العالمين، في أبهى حلة ، وأجمل منظر، مثل القومية العربية والتركية والكردية والأمازيغية وغيرها.

حتى على مستوى القضية الفلسطينية لم يترك العدو أمام العرب خياراً سوى الصلح والسلام، وبعد مؤتمر أوسلو وبعد 25 سنة استولت إسرائيل على معظم أراضي فلسطين، ثم مُنِحت القدس عاصمة لها بجرة قلم، والأمة العربية غرقى في الصراعات الداخلية فيما بينها.

إن المسلم لا يغتر بالشيطان ولا بالعدو، لا بالجاه والسلطان والقوة، وإنما يعتمد على الله تعالى أولاً، وعلى إيمانه وعلى العقل الصحيح والقلب السليم، ويستفيد من عبر التاريخ ودروسه مستخدماً في سبيل ذلك إيمانه بالله تعالى والعقل المجرد من التبعية لأي أحد.

أهم ما ترشد إليه الخطبة:

  1. التحذير من الغرور.
  2. المؤمن لا يتصف بالغرور.
  3. وجوب الحذر من الشيطان ومكائده.
  4. الغرور في عزيز القوم أشد خطراً منه في الأفراد.
  5. مصير الغرور الهلاك والضلال.
  6. الغرور أحد الأسباب الأساسية لمشاكل الأمة.
  7. وجوب الأخذ من عبر التاريخ والاستفادة منها في مجال الحياة.

 

اللهم أصلح أحوالنا

16 / 3 / 2018

 


[1] سورة الانفطار، الآيات 8،7،6

[2] سورة ص، الآية 76

[3] سورة الحشر، الآية 16                                    

[4] سورة الزخرف، الآية 51

[5] سورة القصص، الآية 76

[6] سورة القصص، الآية 78

[7] التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد: 13 /49