لماذا كل هذا مع رجل مشلول منذ أن كان عمره ست عشرة سنة ، ويعاني من أمراض خطيرة في العين ، والكلى ، وغيرهما ؟
لذلك استعملت للوصول إلى النتيجة الطريقة الاستقرائية الأصولية في باب القياس المسماة بطريقة السبر والتقسيم فقلت:
ـ هل السبب في كل ما سبق أن الشيخ أحمد ياسين رجل قوي البنية يخاف من قوته وبطشه واستغلال قوته لدحر الأعداء ؟
فلا شك أن الجواب ينفي ذلك قطعاً ، لأن ظاهره وواقعه يشهد بعكس ذلك ، فهو مشلول الحركة مريض غير قادر على السير خطوة واحدة دون الاعتماد على أحد .
ـ هل السبب أن الشيخ أحمد ياسين يملك أموالاً كثيرة يمكن أن يستعملها ضد اليهود الغاصبين ، أو يكوّن بها إمبراطورية مالية يمكن أن تخيف إسرائيل وتعرقل نشاطها المالي ، وينافس بها نشاط اليهود أصحاب الملايين ، بل المليارات ؟
الجواب عن ذلك أيضاً بالنفي بالقطع ، حيث كان معلماً يستلم راتباً لا يكاد يكفي لقوت عياله ، كما أنه قد هُجّر من قريته وهو صغير ، فلم يعد يملك الأراضي ولا شيئاً من ذلك ، كما أنه لم يشتغل بالتجارة المادية ، فلم يعرف عنه أنه يملك شيئاً يذكر ؟
ـ وهل السبب في ذلك أنه رئيس عشيرة كبيرة تلتفّ حوله بالرجال والأموال والبنين ، والجاه ، وتحقق له ركناً شديداً ورهطاً كبيراً ، وقوة وقدرة يمكن له أن يستعملها ضد إسرائيل فتكون خطراً عليها ؟
الجواب عن ذلك أيضاً بالنفي بالقطع ، فهو كان رجلاً قروياً هجر من قريته ، جاء إلى مدينة غزة ضيفاً عليها ، أو مواطناً فيها دون قبيلة تعرف ، ولا قوة تذكر .
ـ وهل السبب في كل ذلك أنه رجل دولة خطير يتحكم في دولة ذات عدد وعدة ، وأموال وبترول وغاز وخيرات يستطيع أن يهدد بكل واحد من هذه الأشياء الدولة المحتلة حيث يمكنه أن يجيش جيشاً ضد إسرائيل ، او يهدد مصالحها من خلال المقاطعة الاقتصادية للبترول والغاز ونحوهما ، وبالتالي يجب القضاء عليه قبل أن يستعمل هذه الوسائل الخطيرة ، كما اغتالوا الملك فيصل رحمه الله حينما تبني فكرة المقاطعة البترولية في حرب العاشر من رمضان ….. ؟
الجواب عن ذلك أيضاً بالنفي قطعاً حسب المشاهدة والواقع فلم يكن رئيس دولة ، ولا من رجالات الدولة ، بل كان فرداً تحت احتلال إسرائيل منذ عام 1948م إلى الآن .
إذن أين السرّ ؟ وما هو السبب في كل ما سقناه في بداية المقالة ؟
الجواب أيضاً بالقطع هو أن الشيء الوحيد الذي كان يملكه الشيخ أحمد ياسين هو إيمانه القوي ، وعقيدته التي لا تتزعزع بالثقة بالله تعالى بالنصر المبين ، وبوجوب المقاومة إلى أن يحقق الله تعالى النصر أو الشهادة (إحدى الحسنيين) ثم العمل الجماعي المنظم لذلك من خلال تربية الشباب والشيوخ والنساء والأطفال تربية إسلامية جهادية قائمة على العزة والكرامة مرددة قول الشاعر :
فإن إراقة ماء الحياة دون إراقة ماء المحيّى
وقد جعل الله تعالى قوته في ضعفه البدني ، فآتاه الله تعالى إيماناً لم يعرف التنازل عن الحق ، وعقيدة لم تعرف إلاّ الشموخ والعزة والكرامة ، فقد عوضه الله تعالى عن ضعفه البدني بقوته المعنوية والعقدية والفكرية والايمانية ، وبقدرته في التربية والتنظيم والعمل الجاد المثمر البناء ، وبالحكمة ، وبالقبول بين الناس ، وبالمحبة بين المسلمين ، فقد كان محبوباً ومقبولاً لدى جميع قادة الفصائل الفلسطينية ، والحكومات العربية والإسلامية ، فحينما جاء إلى قطر واستقبل استقبالاً طيباً كان ضمن البرنامج زيارة صاحب السمو الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني أمير البلاد ، وما أن سمع سموه بوصوله إلاّ وذهب بنفسه إلى جناحه في فندق شيراتون وقبّل رأسه وجلس معه واستمع إليه ، وهكذا حينما زار السعودية والكويت ، وإيران …..
أما إيمانه الراسخ وعدم خوفه من الموت أبداً ، انه بعد محاولة اغتياله قبل حوالي شهر قال : هؤلاء اليهود لا يعرفوننا لو قتلوا أحمد ياسين فسيظهر مائة شخص مثل أحمد ياسين كل فلسطين أحمد ياسين ، وكل المسلمين المجاهدين أحمد ياسين ، إنها قضية العقيدة وليست قضية الشخص ، وكان يردد هذا القول : نحن طلاب الشهادة لا نخاف الموت ، ولسنا طلاب الدنيا البائسة ( نحن نريد أن يرضى الله عنا) .
وحتى صبيحة استشهاده بعد صلاة الفجر قال له بعض المصلين : يا شيخ أحمد : أسمع أزيز الطائرات ، فقال لهم : (قل لن يصيبنا إلاّ ما كتب الله لنا) .
هكذا عاش أحمد ياسين بهذه العقيدة القوية التي هي أرسخ من الجبال الشّم الراسيات ، وأعمق وأهدأ من المحيطات الهادئات ، فكان قدوة لكل فلسطين ، بل كرامة لكل المسلمين ، وخوارق عادة خلق الله تعالى فيه هذه القوة والقدرات مع هذا الضعف في جميع أعضاء بدنه .
بعد أربعين سنة من تربية الشباب وأهل فلسطين ظهر جيل الجهاد والكفاح والمقاومة القائمة على الإسلام من خلال الانتفاضة الأولى عام 1987م أي بعد أربعين سنة من ظهور دولة إسرائيل المحتلة الغاصبة وتقسيم أرض فلسطين عام 1947م أي نفس فترة سنوات التيه لبني إسرائيل في عهد سيدنا موسى عليه السلام ثم عهد سيدنا يوشع .
إذن الخطر كل الخطر في إحياء هذه الروح الإيمانية الجهادية ، وتحويل المعركة من خلال معركة وطنية أو قومية ، أو على الأرض إلى معركة إسلامية فاصلة بين الحق والباطل ، بين الظالم المحتل وأهل الحق البين .
وهذا ما كان زعماء بني إسرائيل وحكماؤهم يخافون منه ، من تحويل مسار القضية الفلسطينية إلى مسار إسلامي ديني رباني فقد حذر من ذلك بن جوريون ، وموشي ديان وغيرهما في مذكراتهما وبينوا أن الخطر على إسرائيل غير متوافر ما دامت العرب تحاربنا باسم القومية أو باسم الأرض ، وهذا الكلام هو كلام حيي بن أخطب رأس اليهود في بني قريضة حيث قال : ( لم تنتصر يا محمد لأن الحرب بيني وبينكم ، وإنما انتصرت لأن الحرب تحولت إلى أن تكون بيننا نحن اليهود وبين الله تعالى ) .
فقد غيّر الشيخ أحمد ياسين طريقة الحرب والصراع بيننا وبين الصهاينة ، فقد حاول الآخرون أن يجعلوا الصراع بين العرب واليهود ، ثم بين فلسطين واليهود ، ثم بين منظمة واحدة واليهود ، ثم اختزلت القضية في مقررات أوسلو ، ثم في خريطة الطريق ، ثم أصبحت القضية قضية الجدار العنصري الفاصل ، في حين أن الشيخ أحمد ياسين أعاد القضية إلى مسارها الصحيح ـ كما قلنا ـ فجعلها قضية إسلامية ، صراعاً بين الإيمان والكفر ، وبين الحق والباطل ، بين الظالم والمظلوم ، بين جند الله تعالى وجند الشيطان.
وقد ذكرتني حالة الشيخ أحمد ياسين بما حدث في عصر الخليفة الراشد عمر رضي الله عنه عند فتح المدينة المقدسة حيث وجه أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه لفتح المدينة المقدسة ، وكان معسكراً في الجابية ، ولما وصله رسول عمر قام أبو عبيدة بتوجيه خالد بن الوليد في خمسة آلاف فارس نحو بيت المقدس ثم أتبعه بخمسة آلاف آخرين بقيادة يزيد بن أبي سفيان ، ثم خمسة آلاف بقيادة شرحبيل بن حسنة ، واجتمعت الجيوش كلها ولحق بها أبو عبيدة ، وضربوا الحصار حول المدينة المقدسة في أيام برد شديد ، حتى استيأس أهل إيلياء من مغالبة الحصار بعد مرور أربعة أشهر ، فطلبوا الصلح مع أبي عبيدة على أن يتولى الخليفة عمر بنفسه استلام المدينة ليضمنوا العهد والأمان منه ، فأجابهم أبو عبيدة إلى مرادهم وأرسل طالباً إلى الخليفة عمر رضي الله عنه أن يحضر لتسلم المدينة ، وجاء وفد أبي عبيدة إلى المدينة وبصحبتهم وفد من النصارى ، فسألوا عن أمير المؤمنين ليبلغوه طلب رؤسائهم ، واشتد عجبهم عندما رأوا قائد دولة المسلمين مفترشاً الأرض تحت ظل شجرة يحتمي بها من قيظ الحر .
أجابهم عمر وقرر الخروج إلى إيلياء ، وكانت لا تزال تسمى بهذا الاسم ، ووصل عمر إلى المدينة في شهر رجب في السنة السادسة عشرة للهجرة في شهر الإسراء والمعراج ، ليحرر مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم من آثار الشرك الصليبي ، ودخل القدس عن طريق جبل (المُكبر) الذي سمي بهذا الاسم لأن عمر رضي الله لما أشرف على المدينة المقدسة من فوقه كبّر وكبّر معه المسلمون .
وكان عمر رضي الله عنه ممتطياً بعيراً أحمر عليه غرارتان في إحداهما سويق وفي الأخرى تمر ، وبين يديه قربة مملوءة بالماء ، وخلفه جفنة للزاد ، وذكر ابن الجوزي أنه كان يتبادل مع غلام له الركوب على الراحلة ، فعندما بلغ الخليفة سور المدينة كان دور الركوب لغلامه ، فنزل عمر وركب الغلام وعمر يمسك بخطام البعير ، فلما رآه المحصورون آخذاً بمقود الراحلة وغلامه فوقها أكبروه ، وبكى بطريك النصارى (صفر ونيوس) وقال : ( إن دولتكم باقية على الدهر ، فدولة الظلم ساعة ، ودولة العدل إلى قيام الساعة) .
وكتب عمر وثيقة الأمان ، وبعد أن انتهى من كتابتها طلب من البطريك أن يدله على مكان مسجد داود ، فسارا وسار معهما أربعة آلاف من المسلمين متقلدين سيوفهم ، وراوغهم البطريك ليعمى عليهم مكان المسجد ، وفي النهاية مضى بهم إلى مكان مسجد بيت المقدس حتى وصلوا الباب المسمى (باب محمد) وكان الباب يكاد أن يغلق لانحدار ما في داخل السور من الزبالة على درجه ، فتجشم الجميع الدخول إلى الصحن ونظر عمر يميناً وشمالاً ثم قال : ( الله أكبر ، هذا والذي نفسي بيده مسجد داود عليه السلام الذي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أسرى به إليه ) وكان على الصخرة زبل كثير مما طرحته الروم غيظاً لبني إسرائيل ، فبسط عمر رداءه وجعل يزيل هذا الزبل والمسلمون يحذون حذوه ، ومضى عمر نحو مكان محراب داود فصلى فيه وقرأ سورة ص ، وسجد ( أي سجدة التلاوة والشكر).
وذكر المؤرخون أن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما دخل الساحة سأل كعب الأحبار الذي كان من جنود الفتح وكان يهودياً فأسلم رضي الله عنه ، سأله عن مكان الصخرة ، فدله عليها وكانت مغطاة بالزبل ، فأزال عمر ومعه المسلمون الزبل من عليها ، وقرر أن يبني هناك مسجداً ، فاستشار كعب الأحبار فأشار عليه أن يبنيه خلف الصخرة لتجتمع قبلتا موسى ومحمد عليهما السلام ، ولكن عمر رفض وقال له 🙁 ضاهيت اليهودية يا كعب ) وأقام المسجد أمام الصخرة وجعلها في مؤخرته .
وقد ذكر المؤرخون ان عمر رضي الله عنه حينما قرب من سور المدينة المقدسة ذهب إليه بعض الصحابة ورأوا حالته حيث الثوب المرقع ، وأنه يقود البعير بنفسه وأن الغلام راكب ، فقالوا : هذا لا يتناسب مع موقعكم باعتباركم خليفة للمسلمين ، وأن هؤلاء القسيسيين قد رأوا حكام الرومان وهم في قمة من الأبهة ومظاهر العظمة ، فغضب عمر وقال : لو كان هذا الكلام من غيركم ؟ ثم قال : نحن قوم من أذل الأقوام أعزنا الله بالإسلام ، ومهما نطلب العزة من غير الإسلام فقد أذلنا الله .
هذا القول هو كان منهج الشيخ أحمد ياسين الذي عمل به منذ حوالي نصف قرن فسلام الله عليه يوم تبنى هذه العقيدة ، ويوم بنى الأجيال الجهادية ويوم تحدى بكل ضعفه البدني قوة إسرائيل العسكرية والإعلامية والاقتصادية والنووية ، وسلام الله عليه يوم استشهد في سبيل الله بعد صلاة الفجر ، وإنا لله وإنا إليه راجعون .