ربما يكون السؤال غريباً لدينا نحن المسلمين ، ولكنه سؤال وجيه في الغرب ولدى الغربيين ، وذلك لما ذكره الفيلسوف الفرنسي جارودي من أن الحروب الصليبية خلفت صورة مشوهة مبغضة للإسلام ، وجسّدها الاستشراق ورجال الكنيسة، بحيث لا يمكن فهمه إلاّ إذا أزيح هذا الغطاء [1].
ولما ذكرته عميدة الاستشراق الدكتورة أناماري : من أن الجهل بالشيء يورث الكراهية والبغضاء والخوف ، … والإسلام مثل نمطي لتلك التأويلات الظالمة المشوهة ، كما نعهد في لوحات فناني القرن التاسع عشر الغربيين الذين شغفوا بتصوير المسلمين برابرة غير متحضرين محاربين شاهري السيوف ، أو مترفين غارقين في اللهو والنساء ، وكما نعهد اليوم إذ تقفز إلى الأذهان عند ذكر الإسلام صورة إرهابي وقح منحط لا وازع له …لكننا ينبغي أن نتلمس العذر لمسيحي القرون الوسطى الذين ظنوا أن الإسلام زندقة وارتداد ، وأن محمداً لم يكن سوى كاردينال كاثوليكي خرج على البابا .. ذلك التصور تشويه وإجحاف للإسلام [2].
أو لما ذكره الأستاذ علي عزت بيجوفيتش من أن الغرب لم يفهم الإسلام على حقيقته لسببين اثنين هما :
طبيعة العقل الغربي : ( أحادي النظرة أي إمّا الدين ، أو الدنياأي ) في حين أن الإسلام وحدة ثنائية القطب ، وقصور اللغات الأوربية عن استيعاب المصطلحات الإسلامية بمفاهيمها الحقيقية ، وذلك لأن الإسلام باعتباره الدين الشامل الكامل المنـزل على محمد ، يختلف عن الأديان السائدة التي وصلت إلينا ، فاليهودية تمثل الفكر المادي الدنيوي وتتجه نحو إقامة جنة على الأرض لا في العالم الآخر وأن مملكة الربِّ التي كان اليهود يتنبأون بها قبل ظهور المسيح كان مفروضاً أنها ستحقق على الأرض وليس في السماء كما يؤمن المسيحيون [3].
فالدين اليهودي الحالي منصب على المادية المجردة وعلى الواقع الخارجي ، في حين أن المسيحية لفتت الروح الإنسانية إلى نفسها وإلى القيم الأخلاقية السماوية ، لذلك لاحظت السلطات الكنسية منذ زمن بعيد وجود اختلافات جوهرية بين روح ( العهد القديم ) وروح ( العهد الجديد ) حيث يذهب إنجيل مرقص إلى أن المسيح عيسى قد ألغى قانون موسى ، واستبدل ( يهوى ) ـ إله العدالة ومنقذ العالم المادي ـ بإله الحب الذي خلق عالم الغيب اللامرئي ، فكان شعار المسيحية الفصل بين الجانبين ( دعْ ما لله لله وما لقيصر لقيصر ) بل وخيرت الإنسان بين أحد الأمرين حيث نص إنجيل متّى ( 6:4 Matt hew) على أنه : ( فلا يستطيع إنسان أن يخدم سيدين ، فهو إما أن يكره أحدهما ويحب الآخر ، أو يتمسك بأحدهما ويستخف بالآخر ، إنك لا تستطيع أن تخدم الله وتخدم مامون )[4] وهذا ما عبر عنه الفيلسوف ( تولستوي ) حيث يقول : ( لا يستطيع إنسان أن يعنى بروحه ، وبمتاع الدنيا في الوقت نفسه)[5].
إضافة إلى بعض القيم المثالية التي من الصعب تطبيقها مثل ( إذا ضربك العدّو من خدك الأيمن فأدر له خدّك الأيسر ) ومثل ( حُبَّ أعداءك وبارك لاعنيك ) مما جعل الغربيين إلى توجيه هذه الأخلاقيات إلى عالم المثال وعالم الآخر تطبيقاً لقول المسيح في انجيل يوحنّا ( YOHNI 8 : 36) : ( مملكتي ليست في هذا العالم ) ولذلك لم تلتـزم الدول المسيحية أبداً عند التطبيق بهذه المبادئ .
ومهما حاول الغربيون أن يلبسوا أنفسهم ثوب العلمانية فلا يستطيعون التجرد عن المغروسات المسيحية والثقافة الدينية المجردة .
لذلك لا يفهمون إلاّ هذا الفصل الذاتي بين الدين والدنيا ، وبين السياسة والعقيدة ، وبين الأخلاق والحكم ، فالإنسان إما متدين مترهب في الكنيسة ، أو غير متدين يهتم بشؤون الدنيا ومصالحه الخاصة ، وإذا وجد فيه تدين فهو أمر ذاتي داخلي بين الإنسان وربه ليس له علاقة بالدنيا والسياسة والمال .
فالأنموذجان السائدان للدين على مرّ آلاف السنيين هما إما الدين المجرد ، أو الدنيا المجردة ، أما الدمج بينهما والتوازن فهذا أمر غير مفهوم لدى الغربيين أو من الصعب فهمه عندهم يحتاج إلى بذل الجهود لشرح المصطلحات الإسلامية بالخطاب الذي يفهمونه .
ولهذه الخلفية الثقافية اعتبر بعض الفلاسفة الغربيين مثل ( هيجل ) أن الإسلام امتداد لليهودية[6] ، لأنهم نظروا إلى جانب واحد من الإسلام وهو عنايته بتنظيم أمور الدنيا ، ورأى آخرون أنه امتداد للمسيحية ، لأنهم نظروا إلى الجانب الأخلاقي ، والقيم السامية في الإسلام ، وبعضهم اعتبروه ديناً مادياً نفوا عنه الغيبيات ، واعتبره الآخرون حركة اجتماعية سياسية ـ أي اتجاهاً يساريا ـ [7] .
وكل رأي من هذه الآراء نابع من النظرة الأحادية في حين أن الإسلام توحيد خالص لله تعالى في مجال العقيدة ، ووحدة ثنائية القطب فيما عداها ، فهو دين ودنيا ، وعقيدة وشريعة ، وسياسة وأخلاق ، وبناء لسعادة الإنسان ومملكته وجنتّه في الدنيا والآخرة ، ومن جانب آخر فهو يجمع بين الثبات والتطور ، وبين الأصالة والمعاصرة ، وبين الواقعية والمثالية ، وبين الروحية والمادية ، وبين الفردية والجماعية ، وبين التخيير والجبر للإنسان ….
كل هذه المفاهيم إذا نظرت إليها بنظرة جامعة ثنائية يتبين لك بوضوح كيفية توزيع الأدوار والتوازن بينها ، والتناغم والانسجام بين الأمرين ، وقد جاء الإسلام بهذا الجمع الدقيق في أول آية وأول سورة تنـزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم حيث تأمر بالقراءة ، قراءة كل شيء ، قراءة القرآن : كتاب الله المسطور ، قراءة الكون : كتاب الله المفتوح ، لكن هذه القراءة كانت في السابق باسم الإنسان وقوته فقط ولكنها في رسالة الإسلام لا بدّ أن تكون باسم الرب ( اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق )[8] حيث يربط هذه القراءة بربّ الإنسان الذي خلقه من نطفة ثم علقة ، ثم يأمره بالقراءة المطلقة مرة أخرى ولكن مع ذكر إكرام الله تعالى للإنسان حيث أعطاه مصادر للمعرفة من خلال القلم الذي يعني جميع مصادر المعرفة المادية من الحواس ، والتجربة والعقل ، وأضاف إليها مصدراً آخر وهو الوحي الإلهي للرسل عليهم السلام .
وتتجسد هذه الفكرة الثنائية منذ بداية الدعوة حيث إن الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم اعتبره القرآن بأنه بشر لكنه رسول ، فكان يذهب في بداية دعوته إلى الغار للتعبد والتنسك ، فيأمره الله تعالى بأن يعود من الغار إلى الدعوة والتبشير والانذار ( يا أيها المدثّر قُمْ فأنذر وربك فكبّر وثيابك فطهّر والرجز فاهجر ولا تمنن تستكثر ولربك فاصبر )[9] كما يأمره الله تعالى بقيام الليل إلاّ قليلاً للراحة والنوم مع توجيهه إيّاه بالجهاد في سبيله ، والقراءة والتعلم ، والتجارة( يا أيهّا المزّمل قم الليل إلاّ قليلا نصفه أو انقص منه قليلاً)[10] ، ثم قال : ( علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرؤا ما تيسر منه )[11] وهكذا تم الامتـزاج بين العالم الداخلي للإنسان وعالمه الخارجي الواقعي بين الوحي والعقل ، وبين العبادة ومظاهر الحياة الدنيا ، بين الصلاة في الليل والجهاد في النهار .
فالنظرة الأحادية إلى مكان العبادة جعلت الكنيسة معبد الربّ فقط ، وأن تصاميمها في ارتفاعها وظلامها كأنها مملكة الآخرة ، في حين أن المسجد ثنائية النشاط الجامع بين ذكر الله تعالى والآخرة ، وهموم الدنيا وبؤرة النشاط المختلف من القضاء والجهاد حتى الرياضة فيه ، وكذلك النظرة إلى البابا حيث هو معصوم ، ووسيط بين الإنسان والرب ، في حين أن العالم الديني في نظر الإسلام ليس معصوماً ولا وسيطاً كما أنه لا يوجد برنامجان واحد للمختارين وآخر لعامة الناس [12].
ولذلك يجب أن نولي عناية قصوى بشرح الإسلام الصحيح للغربيين بشكل خاص ، يقول الدكتور موريس بوكاي : ( والواقع أننا ملزمون بملاحظة أن المعطيات الخاصة بالإسلام التي ذكرناها مجهولة عموماً في بلادنا الغربية ..؛ وزيادة على ذلك فهناك بعض أوساط مسيحية تحتقر المسلمين ، ولقد خبرت هذا حين حاولت إقامة حوار من اجل دراسة مقارنة حول عدد من الأخبار المذكورة في القرآن والتوراة معاً في موضوع واحد ، فلاحظت أن هناك رفضاً باتاً للنظر بعين الاعتبار ولو لمجرد التأمل فيما يحتويه القرآن..فكان الرجوع عندهم إلى القرآن يعني الاعتماد على الشيطان) [13].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روجيه جارودي : لماذا أسلمت / ط.مكتبة القرآن ( ص99 ـ 102 )
مقدمة د. آناماري : لكتاب الإسلام كبديل لمراد هوفمان ، ط.النور بالكويت (ص9)
الرئيس علي عزت بيجوفيتش : الإسلام بين الشرق والغرب ط. النور الكويتية عام 1994 (ص271 ـ 272 ) ترجمة الأستاذ محمد يوسف عدس
لفظ ( مامون ) في الكتابات الانجيلية يشير إلى شيطان الشهوة والمال .
عزت بيجوفيتش : المرجع السابق (ص275 )
عزت بيجوفيتش : المرجع السابق ( ص278 )
المصدر السابق ( ص 281 )
سورة العلق / الآية ( 1 ـ 2 )
سورة المدثر / الآية ( 1 ـ 7 )
سورة المزمل / الآية ( 1 ـ 3 )
سورة المزمل / الآية ( 20 )
عزت بيجوفيتش : المرجع السابق ( ص282 )
د. موريس بوكاي : التوراة والإنجيل والفرآن والعلم ، دراسة الكتب المقدسة على ضوء المعارف الحديثة ، طبع ونشر دار المعارف بالقاهرة _ ص6 ،7 )