أيها لإخوة المؤمنون

إذا قرأنا التاريخ الإنساني، وتدبرنا في أحداثه ووقائعه على مر التاريخ، لوجدنا أن الإنسان في معظم مراحل حياته؛ إما أن يكون ظالماً أو مظلوماً، إما أن يكون طاغية فيفرض نفسه ورأيه وفكره ودينه على قومه، أو أن يكون تحت سطوة الطاغوت فيُذل أو يعيش في ركب الطاغوت فينافق له ويداهن، ولا يقيم لحقوق الإنسان وكرامته أي وزن أو اعتبار.

هكذا كانت الدنيا في معظم مراحل الحياة قبل الإسلام، كان الطغيان يضرب أطنابه في كل مكان، وكان الظلم يسدل سرادقه على كل مجتمع، وكانت الاعتداءات قائمة على قدم وساق، كل العالم يعيش في ما يشبه الغابة؛ إذ السيادة للقوة والغلبة، ولم تكن السيادة لمنطق العدل وقوته.

ولما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم أعاد للإنسان كرامته من حيث هو الإنسان، وأعطاه جميع حقوقه،  وسوَّى بين الجميع دون أن يميز عرقاً عن عرق، ودون أن يفضل قوماً على قوم، ودون أن يمنح مزايا للون على لون، بل أسعد الإنسانية كلها حين وهب الجميع بما معه من التشريع ضرورة الحياة، وجعل الكل في حق الحياة ، ومن حيث الحقوق والواجبات سواء، { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا } بهذا القسم العظيم، وبهذا التأكيد العظيم أكرم الله تعالى الإنسان من حيث هو الإنسان دون النظر إلى دينه وعقيدته وفكره وعرقه وطائفته ومذهبه، ولم يقل الله تعالى: ولقد كرمنا المؤمنين، لأن المقام هنا مقام تكريم الإنسان كله من حيث هو الإنسان.

مظاهر تكريم الله تعالى للإنسان

ولقد تجلى هذا التكريم حين خلْق الإنسان؛ حيث :

  1. خلقه الله تعالى وسواه بيده، ثم نفخ فيه من روحه، ثم أسجد له الملائكة أجمعين، ولم يرفض هذا الأمر إلا إبليس، فإنه كان من الجن وفسق عن أمر ربه.
  2. ومن مظاهر تكريم الله تعالى للإنسان أن الله تعالى يرسل على الإنسان حين يتكون جنيناً في رحم الأم، بعد مرور 120 يوماً الملائكة لتهبه نفخة من روح الله تعالى.

هذه بداية التكريم، فإن الإنسان على أي أمر كان فهو ابن الإنسان الأول الذي خلقه الله وكرمه، وأي اعتداء على أي إنسان ما هو إلا اعتداء على حق الله تعالى، وعلى هذه الروح التي هي نفخة من روح الله سبحانه وتعالى.

  1. ومن مظاهر تكريم الله تعالى للإنسان أن أعطاه الحرية في اختيار الدين، ولم يلزمه بالدين الحق، { لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } و الحق الواضح البين من الله تعالى { فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ }.
  2. من مظاهر هذا التكريم أن الله تعالى منح الإنسان الحرية في العمل، وذلك من خلال التشريعات التي تكفل له الحياة الطيبة، والتي تسعده في الدنيا دون النظر إلى العقيدة، وتسعده في الآخرة إن كان ممن اتبع الدين الحق.
  3. كما يتجلى هذا التكريم في قوله تعالى: { وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ }، أي رتبها ونظمها وجعل فيها أوقاتها وبارك فيها لكل مخلوق، دون التفرقة بينها، ولا اعتبار لما يعتقد المرء أو يدين به.

هكذا تكفل الإسلام للإنسان بالحقوق، وحفظ للإنسان كرامته، وصان حقوقه، ولم يفرق بين إنسان وآخر ،كما تفعل اليوم بعض النظم والشرائع؛ إذ تدعي انها شعب الله المختار، بل إن الله تعالى جعل مقياس التفاضل بين أمم الأرض وشعوبها العمل الصالح ــــــــــ  في ذاته، والذي يتعدى نفعه إلى الآخرين ــــــــــ، والتقوى { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }.

  1. ومن مظاهر تكريم الله تعالى للإنسان ما يسمى بتحقيق العدالة وحرية العدالة، فلا فرق بين من له الحق أو عليه الحق في تحقيق العدالة، إن كان مسلماً أو غير مسلم، فكل الإنسانية في ظل تحقيق العدالة سواء، والقوي ضعيف حتى يؤخذ الحق منه، والضعيف قوي حتى يؤخذ الحق له.

كيف تحققت الحرية في العدالة؟

  1. لقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم تحقيق العدالة في سيرته العطرة، سواء كان على نفسه أو على أهله، ولم يحابِ أحداً في تحقيق العدالة والعدل، وتأكيداً لإقامة العدل بين أفراد المجتمع دون النظر إلى اللون والعرق والعقيدة، ما ورد في سبب آية: {  إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا } حيث رويت عدة مصادر أن نفراً من الأنصار – قتادة بن النعمان وعمه رفاعة -غزوَا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في بعض غزواته. فسرقت درع رفاعة، فحامت الشبهة حول رجل من الأنصار من أهل بيت يقال لهم: بنو أبيرق، فأتى صاحب الدرع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: إن طعمة بن أبيرق سرق درعي، فلما رأى السارق ذلك عمد إلى الدرع فألقاها في بيت رجل يهودي، وقال لنفر من عشيرته: إني غيبت الدرع، و ألقيتها في بيت فلان. وستوجد عنده، فانطلقوا إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقالوا: يا نبي الله: إن صاحبنا بريء، وإن الذي سرق الدرع فلان اليهودي، وقد أحطنا بذلك علماً، فاعذر صاحبنا على رؤوس الناس، وجادل عنه، فإنه إن لم يعصمه الله بك يهلك، ولما عرف رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن الدرع وجدت في بيت اليهودي، قام فبرأ ابن أبيرق وعذره على رؤوس الناس، وكان أهله قد قالوا للنبي – صلى الله عليه وسلم – قبل ظهور الدرع في بيت اليهودي إن قتادة بن النعمان وعمه عمَدَا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت! قال قتادة : فأتيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فكلمته، فقال: "عمدت إلى أهل بيت يذكر منهم إسلام وصلاح وترميهم بالسرقة على غير ثبت ولا بينة؟" قال: فرجعت، ولوددت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في ذلك، فأتاني عمي رفاعة فقال: يا ابن أخي ما صنعت؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: الله المستعان.. فلم نلبث أن نزلت:  { إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا }.

هذه الآية تحكي قصة لا تعرف لها الأرض نظيراً، ولا تعرف لها البشرية شبيهاً.. وتشهد – وحدها – بأن هذا القرآن وهذا الدين لا بد أن يكون من عند الله؛ لأن البشر – مهما ارتفع تصورهم، ومهما صفت أرواحهم، ومهما استقامت طبائعهم – لا يمكن أن يرتفعوا – بأنفسهم – إلى هذا المستوى الذي تشير إليه هذه الآيات، إلا بوحي من الله.. هذا المستوى الذي يرسم خطاً على أفق تحقيق العدال، وإرساء قواعده لم تصعد إليه البشرية – إلا في ظل هذا المنهج – ولا تملك الصعود إليه أبداً إلا في ظل هذا المنهج .

  1. ما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كان يمشي في سكك المدينة، يتفقد الرعية، فرأى رجلاً يهودياً طاعناً في السن يتسول، فقال له: ما لذي دعاك إلى هذا؟ فقال: أكل عمر شبابي، ونسيني في كبير، فأخذه إلى بيت المال، وأكرمه، وأمر خازن بيت المال أن يحصي من طعن في السن من المسلمين ومن غيرهم، وأن يجري لهم راتباً شهرياً أو ما يسمى اليوم بالتقاعد، أو التكافل الاجتماعي.

إن التاريخ حافل بما كان عليه الطواغيت من فرض ديانتهم على شعوب الأرض، حيث كان الحاكم يفرض عقيدته على شعبه، وعلى كل من ينضوي تحت لوائه، فاليهودية كانت تمارس الاضطهاد ضد النصارى، ولما وصلت النصارى إلى الحكم في الرومان قاموا باضطهاد اليهود والمسلمين، وما جرى في الأندلس، وما كان من أخبارها خير شاهد على قسوة التعذيب وسوء الاضطهاد الذي تعرض له المسلمون.

بينما لم يذكر التاريخ اضطهاداً واحداً لطائفة أو أهل ملة في عهد الإسلام وتحت حكه، فإن باكورة أعمال النبي صلى الله عليه وسلم التي قام بها، بعد أن استقر في المدينة المنورة، أن وضع وثيقة بين سكان أهل المدينة، من المسلمين وعرب مشركين، ويهود، جاءت هذه الوثيقة في 52 بندٍ، يضمن 27 مادة منها حقوق المواطنة تحت راية الإسلام، ويضمن لم رضي بالبقاء في ظل حكم الإسلام العيش الرغيد، وكذلك فعل المسلمون على مر التاريخ، وسعد من عاش معهم و جاورهم، حتى كان أهم بعض البلاد التي فتحها المسلمون، ثم أُخذت منهم، يفضلون أن يحكمهم المسلمون، ويشتاقون إلى أيام الحكم الإسلامي.

هذا هو الإسلام، وهكذا صان الحريات وحفظ الكرامة، من خلال الأخلاق والقيم النبيلة التي جاءت بها الرسالة الإسلامية، ومن خلال العقيدة التي تأمرنا أن نرعى الحقوق ونصون الواجبات.

وإذا كان الغرب اليوم يتبجح بحقوق الإنسان، كان بودنا أن يستمر في هذا الادعاء إلى المطاف الأخير، ولكنه فشل في أول اختبار حقيقي حول حقوق الإنسان، لا يعرفون إلى حقوق أنفسهم، ولا يرعون إلا حقوق من ينتمي إلى دينهم، أما غيرهم فلا حقوق لهم، بل تهتز كل الحقوق بصورة واضحة، خاصة إذا كانت هناك مشكلة أمنية، فلا المبادئ تبقى ولا الحقوق تراعى، وما هذه الضجة الكبرى التي تنادي بها عاصمة النور باريس، أو التي تبنتها ام الديمقراطية بريطانيا، أو التي تنعق بها أمريكا إلا فشل حقيقي لادعاءاتهم، وانقلاب على مبادئهم، وهتك لكرامة الحقوق التي هتفوا بها زمناً.

إننا اليوم بحاجة شديدة إلى أن نصحح هذا التاريخ، وأن نفضح هذه النظم، وأن نعري حقيقتها أمام المجتمعات والأمم، بانها نظم قائمة على الفاشية، ولا تعترف بحق إلا بناء على مصلحة، فهي مستعدة أن تتخلى عن كل القيم والمبادئ، حتى عن مصالحها المادية، إذا كان الحق يتعلق بغيرهم، فهي أبعد الناس عن كرامة الإنسان وحفظ حريته، وأسرع الناس إلى إذلال الإنسان وهدر كرامته، من أجل متاع الدنيا.

علينا جميعاً ان نقوم بواجبنا، وأن نعود إلى ديننا وإلى أخلاقنا وقيمنا، وأن لا تكون مواقفنا ردة فعل مهما فعلوا، علينا أن نحافظ على العقيدة وأن نربي أولادنا وأجيالنا على العقيدة والقيم في المحافظة على حقوق الإنسان وحريته وكرامته من حيث إنه إنسان، دون النظر إلى لونه وعرقه وطائفته ومذهبه، ولا نفرق بين أحد من بني البشر إلا على أساس العمل الصالح والإخلاص والتقوى.

الخطبة الثانية

إن من أهم المبادئ التشريعية والقانونية في العالم كله { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى }، غير أن عادة المحتلين والمستعمرين والطامعين في أموالنا وثرواتنا وخيراتنا، يعاملوننا بازدواجية لا تعقل، إذا ارتكب أي واحد ممن يدين بالإسلام جرماً اتهموا كل المسلمين بذلك، ووسموا الإسلام بالفاشية والإرهاب، بينما إذا ارتكب نفس الجريمة أي واحد منهم فلا يدان، ولا يؤاخذ، بل يقولون عنه: إنه يعاني من اضطراب نفسي، أو خلل عقلي.

إن ما فعله المستعمرون بالإسلام وأهله، وما ارتكبوه من مجازر، لا تطاق، بل تخزى بها الإنسانية، ويندى لها الجبين، و كميرات الصحافة لا تبخل علينا كل لحظة بصور تلك الجرائم، ووسائل الإعلام مكتظة بصور الفظائع التي ترتكب في حقنا، وفي بلادنا.

فلنلجأ إلى الله تعالى، ولنتضرع إليه لعله يخفف عنا ما نحن فيه.