أولاً : مسؤولية الأمة في تحمل دورها نحو كتاب الله العزيز في حفظه والحفاظ عليه على مر العصور بجميع الوسائل المتاحة في كل عصر ، فقد كان سلفنا الصالح يحافظون على القرآن الكريم من خلال الحفظ في الصدور ، وكتابته في الألواح والسطور ، والحفاظ على جميع ما يتعلق به .
ثانياً : الحفاظ على جميع ما يتعلق بالقرآن الكريم من حيث حروفه ، وكتابته ، وإعرابه وبناؤه ، وحركاته ، وسكناته ، وقراءته المتواترة ، وغير المتواترة ، وأوجهه الكثيرة ، وكل ما يخص شكل القرآن الكريم ، حتى إن الإنسان ليستغرب من العلوم التي ابتكرها المسلمون لأجل ما يخص لفظ القرآن الكريم ، من علوم النحو ، والصرف والبناء ، والبيان والبديع والمعان (أي علوم البلاغة) والإعجاز اللفظي ، والنظمي ، وما يتعلق بأوائل السور ، والآيات ، وأواخر السور ، وأوائل الآيات والربط بينها من خلال السياق واللحاق واستنباط الكثير والكثير من كل حرف ، وكلمة ، ومن كل نظم أو سياق أو لحاق.
ثالثاً : الحفاظ على هذا الدستور الإلهي العظيم الخاتم المحفوظ غضاً طرياً كما انزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حيث كانت الكتب المنزلة تحرف بعد فترة من الزمن كما حدث ذلك للتوراة والانجيل وجميع الكتب السابقة على القرآن الكريم ، وحينئذٍ يبعث الله تعالى في كل فترة رسولاً ومعه كتاب أو صحف منزلة من عند الله ، فيعيد الناس إلى الحق إلى الدين الذي يريده الله ، فلم تكن المشكلة مستديمة ، ولكن لما جعل الله القرآن الكريم خاتم الرسالات ومكملها ومتممها ، وجعل رسوله محمداً خاتم الأنبياء والمرسلين ، ختمت به الرسالات ختماً لا فتح بعد ، وحينئذٍ لو حدث أي تحريف يكون إلى الأبد لذلك تكفل الله تعالى بذاته العلية بحفظ هذه الرسالة الخاتمة (القرآن) فقال تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) سورة الحجر/ الآية 9 ، وقال تعالى : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) سورة القيامة/ الآية 16 ـ 19 .
ولكن مع هذا القدر الإلهي بحفظه الذي لا يرد ، أمر الله الأمة ببذل كل جهودها للحفاظ على القرآن الكريم ، فكانت الأمة التي أخرجها الله للناي خير أمة أخرت للناس جديرة بهذا التكليف والتشريف فقامت بواجبها جيلاً بعد جيل إلى أن جاء جيلنا جيل العلم والتقدم التكنولوجي ، ثورة الاتصالات والمواصلات فأشغل هذا التقدم العلمي لحفظ القرآن الكريم من خلال التسجيل بالتسجيل العادي ، والفيديو والتلفاز ، والانترنيت ونحوها ، وانتشرت مراكز تحفيظ القرآن الكريم ، وكثر القراء وحفظة القرآن الكريم .
رابعاً : إن من أهم مقاصد الشريعة أيضاً فهم القرآن الكريم ، والتفقه فيه ، والتدبر فيه حيث يقول تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) سورة صّ/ الآية 29 فقد بين الله تعالى بوضوح أن التدبر في آيات القرآن الكريم والتذكر والتفكر فيه من أهم مقاصد نزوله ، وأكد ذلك في قوله تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) سورة محمد/ الآية 24 وقد فسر بعض السلف قوله تعالى : ( وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) سورة البقرة / الآية 269 أي بفهم القرآن .
ولذلك يجب أن لا يقتصر دورنا وعلاقتنا بالقرآن عند حفظ القرآن الكريم ، وإنما يصاحبه التدبر والتفكر والتذاكر ، والفهم العميق ، والفقه الدقيق من خلال فهم كلماته ، والاستنباط من آياته وأخذ العظة والاعتبار من قصصه ، وحكمه ، ولذلك وصفه الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود رضي الله عنه فقال:(إن هذا القرآن مأدبة الله ، فتعلموا من مأدبته ما استطعتم ، إن هذا القرآن حبل الله ، والنور والشفاء النافع ، عصمة لمن تمسك به ، ونجاة لمن اتبعه…. ولا تنقضي عجائبه ، ولا يخلق من كثرة الدر ….) الدرامي (1/310) وروى الدرامي بسنده عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي وصف القرآن بأنه : (كتاب الله) فيه نبأ من قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، هو الفصل ليس بالهزل ، هو الذي من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله ، فهو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم ، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا تلتبس به الألسنة ، ولا يشبع منه العلماء ، ولا يخلق من كثرة الرد ، هو الذي قال به صدق ، ومن حكم به عدل ، ومن عمل به أجر ، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم) .
خامساً : لا ينبغي الاكتفاء بالتعلم ، وإنما الخيرية تتحقق بالشق الثاني وهو التعليم حيث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) رواه الدارمي وأحمد.
ولذلك لا ينبغي لحافظ القرآن أن يكتفي بحفظه بل لابد أن يقوم بتعليمه للغير ، وفي ذلك الخير الكامل .
سادساً : تعاهد القرآن الكريم بالتلاوة المستمرة وعدم نسيان ما حفظه ، فلا ينبغي نسيان ما حفظه .
سابعاً : الدعوة بالقرآن ، والتبشير به كما قال تعالى : (فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) سورة التوبة /الآية122) .
ثامناً : أهمية العمل بالقرآن ، فهو كتاب هداية وعمل وتطبيق ، لذلك كان وصف عائشة للرسول صلى الله عليه وسلم : (كان خلقه القرآن) .
تاسعاً : عدم الافتاء في أمور الدين بمجرد الحفظ والقراءة ، لأن الفتوى لها شروطها وضوابطها ، لأنها توقيع عن رب العالمين بالحل ، أو الحرمة ، ولذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك ، وجعل كثرة القراء دون الفقه من علامات الساعة في أحاديث كثيرة ، وتترتب عليها مخاطر كبيرة ، ولذلك عقب الله تعالى على الأمر بالقراءة بالعلم فقال : (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) سورة العلق/ الآية 3 ـ 5 فلا ينبغي الاكتفاء بالقراءة بل لا بد من يعقبها العلم ، وعلى الأقل إذا لم يتحقق العلم والفقه فلا يجوز الافتاء بمجرد القراءة ، ولا يحكم علىالناس بمجرد الحفظ .
ومن هنا كان تفسير الإمام الشافعي للحديث الصحيح الذي يقول بشأن المستحق للإمامة : (يقدم الأقرأ) فقال الشافعي : كان الأقرأ من الصحابة هو الأفقه ، وهذا يؤكده حديث ابن عمر رضي الله عنه في وصف الصحابة بأنهم ما كانوا يتجاوزون عشر آيات إلاّ بعد فهمها ووعيها والعمل بها .
ومن الجانب التطبيقي لم يكن ينقص هؤلاء الذين خرجوا على سيدنا على رضي الله عنه وحكموا عليه وعلى أتباعه بالكفر لم ينفعهم الحفظ والقراءة والتدين كما وصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم : (يحتقر أحدكم صلاته عند صلاتهم ، وصومه عند صومهم ولكنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) ، فهذا أكبر دليل على أن الحفظ وحده والقراءة وحدها لا يكفي ، بل لا بد للفتوى والحكم على الناس من الفقه الشرعي بالنصوص والدلالات ومقاصد الشريعة وغير ذلك ، وإلاّ تكون النتيجة وخيمة ، وللسبب نفسه أمرنا الله تعالى بالعلم بالشهادة وليس مجرد النطق بها فقال تعالى : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)سورة محمد / الآية19 .
عاشراً : الالتزام بآداب حفظ القرآن الكريم وآداب التعلم والتعليم مع أهل العلم والناس أجمعين .
هذه هي الوصــايا العشــر التي هي من مقاصــد الشريعة في الحفظ والقراءة .
والله الموفق