بسم الله الرحمن الرحيم

 

 الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين محمد ، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين .

وبعد :

 

 فإن الله تعالى قد اكمل هذا الدين وجعله خاتماً ، ثم تكفل بحفظه قرأنا وقراءة ، وبياناً لأحكامه ، فقال تعالى : (لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه)  ، وقال تعالى : (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)  .

 

 وقد مضى على نزول القرآن الكريم إلى اليوم أكثر من أربعة عشر قرناً واجه فيها أمماً وحضارات ، وظروفاً صعبة ، ومتغيرات ، ومحاولات مستميتة من قبل أعداء الإسلام لتحريفه وتغيير أحكامه وثوابته تحت مختلف الأسماء والادعاءات والمبررات ، وظهور الفرق الهدامة ، والمذاهب المنحرفة تحت مختلف المسميات مستهدفة النيل من الإسلام عقيدة وشريعة ومنهج حياة ، أو على الأقل تغيير بعض ثوابته في أي مجال من مجالاة الحياة ، ومع ذلك ظل الإسلام محفوظاً غضاً طرياً كأنه اليوم أنزل ، وهذا ما يعترف به الجميع ، حيث أثبت الدكتور موريس بوكاي أن: (القرآن الكريم هو الوثيقة السماوية الوحيدة التي لم تصل إليها يد التحريف والتبديل)  .

 وبما أن القرآن محفوظ لا يستطيع أحد النيل منه بالتحريف والتغيير في ألفاظه ومبانيه ، لذلك اتجه الأعداء إلى النيل من أحكامه ومعانيه ، والهجمة على السنة النبوية رواية ودراية ، ومع ذلك حمى الله دينه حتى من هذا الجانب الحكمي ، فلم تجتمع الأمة الإسلامية على ضلالة أبداً ، بل ظلت الأمة الإسلامية في عمومها وغالبها على الحق حتى ولو لم تطبقه الدول والحكام ، فالأمة الإسلامية ظلت تعلم الحق وتميزه من الباطل ، والصحيح من الفاسد . 

 

 ودلت التجارب على أن هذه المحاولات قد ذهبت أدراج الرياح تطبيقاً لقوله تعالى : (فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض)  .

 وقد أدرك الأعداء أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي لم ينله التحريف ، ولم يمسه التبديل ، وهذا ما قاله صموئيل هنتجون في مقالة له في (واشنطون بوست) قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 حيث بيّن بأن جميع الأديان قد أصبحت متأثرة بالعلمنة إلاّ الإسلام الذي ظل بعيداً عن هذا التأثير ،ولذلك يجب علينا جميعاً العمل الجاد لعلمنة الإسلام!!!!! .

 

 ففي مجال الربا قد حرّفت التوراة حيث خصصت حرمة الربا على اليهود فقط حيث نص الاصحاح 23 من سفر التثنية على أنه : (لا تقرض أخاك بربا ، ربا فضة ، أو ربا طعام ، أو ربا شيء مما يقرض بربا ، للأجنبي تقرض بربا) وقد ذكر القرآن الكريم من أسباب لعنة اليهود هو : (وأخذهم الربا وقد نهوا عنه)  .

 

 وأما النصرانية فقد حرمت الربا مطلقاً حيث نص إنجيل لوقا في الاصحاح السادس على أنه : (وإن أقرضتم الذين ترجون أن تستردوا منهم ، فأي فضل لكم ، فإن الخطاة أيضاً يقرضون الخطاة لكي يستردوا منهم المثل ، بل أحبوا أعداءكم ، وأحسنوا ، وأقرضوا وأنتم لا ترجون شيئاً….) وقد انعقد اجماع رجال الكنائس على أن هذه التعاليم والتوجيهات من السيد المسيح تعتبر تحريماً صريحاً قاطعاً للربا ونهياً عن التعامل فيه ، يقول سكويار : ( إن من يقول : إن الربا ليس معصية يعد ملحداً خارجاً عن الدين) وقال الأب يوني:(إن المرابين يفقدون شرفهم في الحياة الدنيا وليسوا أهلاً للتكفين بعد موتهم ) . 

 

 غير أن هذه الأحكام قد ضعف الالتزام بها في القرن السادس عشر الميلادي إثر الانتقادات الموجهة إليها من قبل الرأسماليين والليبراليين ؛ ولكن الذي جرأ الناس على اخذ الربا هو إقدام لويس الرابع عشر على الاقتراض بالربا لتسديد ثمن بضاعة عام 1662م  .

 

 غير انه مع ذلك لم يصبح الربا مشروعاً بين النصارى في الغرب إلاّ بعد أن أفتى مجمع انتشار الإيمان المقدس في روما بجواز أخذ ربح في مقابلة الخطر ممن فقد أصل المال ، ثم أثبت أينوشيدس العاشر هذه الفتوى عام 1645م واستثنى من ذلك قرض الفقير ، لأنه يلزم إقراضه من باب الوصية  .

 

 وفي انجلترا كان الربا محرماً وجريمة يعاقب عليها المرابي في تشريع 1341م ، وتشريع 1363م ، وتشريع 1391م ، ولقد أمر ادوارد الأول في 1275م بالقبض على جميع يهود انجلترا ومصادرة أموالهم وشنق 280منهم في لندن  ، ثم تغيرت الأمور بسبب ضغوط العوامل الاقتصادية والسياسية التي أدت إلى إباحته .

 وحتى إن رائد الإصلاح المسيحي الزعيم لوثر نادى بتحريم الربا والفائدة وشنّ حرباً شعواء على المرابين  .

 

 وقد شدد القرآن الكريم والسنة النبوية في حرمة الربا حتى وصل التحذير لآكلي الربا بإعلان الحرب من الله ورسو عليهم ، ولذلك احتاط المسلمون في مسائله ، ووضعوا له ضوابط دقيقة حتى لا يقع المسلم في هذه الكبيرة الموبقة المهلكة ؛ ثم جاء الغزو الفكري الغربي للقضاء على الإسلام ونظمه السياسية والاقتصادية ، فطبق القوانين الوضعية ، وأنشأ البنوك الربوية ، ثم جاءت الفتاوى الفردية خلال القرن الماضي ، حتى تمخضت هذه الفتاوى عن قرارات جماعية كان أولها قرار مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر الشريف عام 1965 الذي نص على حرمة الفوائد الربوية ، ثم توالت قرارات المجامع الأخرى في العالم الإسلامي ـ كما سيأتي ـ .

 

 ثم فوجئنا عام 1989 بفتوى فضيلة الدكتور محمد سيد طنطاوي “مفتي جمهورية مصر العربية” في ذلك الوقت التي أباحت فوائد البنوك التقليدية ، ثم أصبح فضيلته شيخاً للأزهر ، وظل يبحث عن قرار جماعي يدعم موقفه فكانت فتوى مجمع البحوث الإسلامية الأخيرة.

 

 وأخوف ما أخاف عليه هو أن نتبع سنن اليهود والنصارى في مسألة الربا أيضاً ، فيخضع بعض من ينتسب إلى العلم للظروف الاقتصادية ، والضغوط السياسية فيبيحون الربا كما أباحت من قبل الكنائس تطبيقاً لما رواه أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم : (لتتبعن سَنَن من كان قبلكم شبراً بشبر ، وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا حجر ضبّ تبعتموهم ، قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال : فمن ؟ )  .

 

 وفي رواية صحيحة للبخاري عن أبي هريرة بلفظ : (فقيل يا رسول الله كفارس والروم؟ فقال : ومن الناس إلاّ أولئك)  وذكر الحافظ ابن حجر أن لا تعارض بين الحديثين ، فالأول يشير إلى الجانب السياسي ونحوه ، والثاني يشير إلى الجانب العقائدي والفكري ، والعادات والتقاليد . 

 

 ونحن في هذه العجالة نناقش الفتوى الأخيرة التي صدرت من مجمع البحوث الإسلامية في رمضان 1423هـ الموافق 2/12/2002 التي هي صورة طبق الأصل من فتوى فضيلة الدكتور محمد الطنطاوي ، حيث نناقشها مناقشة علمية فقهية اقتصادية وقانونية وواقعية ، مركزاً على الرد على أسسها الفقهية التي اعتمدت عليها الفتوى ثم نعرج على التعريف بالربا الجاهلي ، أو ربا النسيئة ، وبالبنوك ، وفوائد البنوك ، والتكييف القانوني والاقتصادي لفوائد البنوك ، ثم نختم البحث بقرارات المجامع الفقهية في العالم الإسلامي والفتاوى الصادرة عن المؤتمرات الفقهية والاقتصادية والندوات الفقهية والعلماء الأجلاء ، وكلي تضرع ودعاء أن يهدينا سواء السبيل ، ويجعل كل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم ، وهو حسبنا ومولانا فنعم المولى ونعم النصير (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب) .