أيها الاخوة المؤمنون لازلنا نعيش في واقع الثقافة التي يريدها الاسلام أن تتحقق للامة من أجل أن تستعيد قوتها بين الامم. هذه الثقافة التي يريدها الاسلام من الأمة المسلمة لها 5 عناصر أساسية كمابينا في الخطب السابقة والتي تطرقنا فيها بالتفصيل للخاصية الأولى وهي ثقافة الاخلاق أو دستور الأخلاق والخاصية الثانية والتي أطلقنا عليها خاصية الذوق الجمالي والخاصية الثالثة وهي التنظيم وسنتطرق اليوم ان شاء الله تعالى إلى الخاصية الرابعة وهي خاصية الاعمار والتعمير واستعمار الأرض بالمعنى القرآني للكلمة.

وتعني هذه الخاصية للثقافة أن الأمة كما تتميز بالجانب الأخلاقي والجمالي والتنظيمي فهي كذلك تهتم بالجانب العمراني الحضاري في حياتها وبذلك تصبح الثقافة الوحيدة التي عرفتها البشرية التي تجمع بين ثقافة الجمال وثقافة الاجلال أي القوة وبهذا تكون الأمة الاسلامية الأمة الوحيدة التي تتميز بالدمج بين هذين الركنين للثقافة ركن الجمال ممثلا في الأخلاق والذوق وركن الجلال ممثلا في التنظيم والعمران والعنصر الخامس الذي سنتطرق اليه في الخطبة القادمة ممثلا في ثقافة العمل.

فكثير من الأمم عرفتها البشرية تميزت بجانب أوبركن الجلال دون أن يكون لها نصيب يذكر في الركن الجمالي وما يحتويه من أخلاق وسلوك وذوق وعقيدة تنبع منها كل هذه العناصر، ومن هنا تختلف الحضارة الاسلامية عن جميع الحضارات السابقة حتى اعترف بذلك المنصفون من المستشرقين والغربيين بهذا التفوق عندما قالوا بأن الحضارات الغربية أصولها رومانية تعتمد على القوة وروحها القيسرية أي السيطرة على باقي الشعوب والهيمنة عليها وهذا ما حدث في زمن الحضارة الرومانية والاغريقية وهو نفسه ما عاشته البشرية ولا زالت تعيشه مع الحضارة الغربية بدءا من الهيمنة الأروبية زمن الحركة الاستعمارية وصولا الى الحقبة الأمريكية الحالية.

بينما الحضارة الاسلامية كما قال هؤلاء المنصفون روحها الإنسانية وهذا بطبيعة الحال هوكلام صحيح يؤكده النص القرآني بوصفه لهذه الأمة بأنها أمة الدعوة << كنتم خير أمة أخرجت للناس>> اخرجت لمنفعة الناس لخدمة الناس في كل شيئ وكل الناس وهذه الخيرية لم تبنى على عوامل عنصرية أو مادية وإنما بنيت على خدمة الناس واللام هنا للمنفعة أي تنفع الناس لهدايتهم لما فيه خير الدنيا والآخرة.

وعندما تخلفت هذه الأمة المتميزة عن دورها هذا من خلال ما تميزت به من خصائص وتقدمت عليها أمم أخرى اختل التوازن وعاشت البشرية ألوانا شتى من النهب والاستعمار والاستبداد لم تشهدها من قبل، حتى أن الفيلسوف غارودي الذي أسلم يقول ” إن الحضارة الغربية قامت على نهب ثلاث قارات بالكامل أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية” ولم يستثنوا حتى الآثار فجلبوها وعرضوها في متاحفهم نهيك عن نهب الثروات الباطنية من معادن وبترول والتي لا تزال متواصلة الى الآن.

إذا هذا العنصر الثقافي ممثلا في التعمير والتصنيع فقد أمر الله به أمرا الزاميا حتى لا تتخلى هذه الأمة عن القوة من تصنيع وتعمير كما لا يجوز لها أن تتخلى عن عقيدتها وصلاتها وعباداتها عامة فكما قال شيخ الاسلام ابن تيمية أن الغرض الاساسي من الانسان هو العبودية لله سبحانه وتعالى التزاما بأوامره وانتهاءا بنواهيه فالله سبحانه وتعالى فكما أمرنا بالصلاة والعبادات بنفس الدرجة أمرنا بالتعمير والتصنيع والعمل.

فعلى سبيل المثال سأضرب لكم أنموذجا لتتدبروا فيه، أنظر الى سورة الجمعة فتجد أمران للعبادة وامران للعمل << يا أيها الذين آمنوا اذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعو الى ذكر الله وذروا البيع>> فأمر الله سبحانه في وم الجمعة عند سماع آذان وصعود الإمام الى المنبر أن يسعوا الى الذكر والصلاة وأن يتركوا كل ما لديهم من عمل الدنيا إلا ما تعلق ببعض الأعمال الضرورية مثل الاطباء في المستشفيات ورجال الشرطة والأمن الذين يحرسون البلاد وما عدا ذلك من الاعمال الضرورية فإن كل ما سواها فهو عمل باطل بعد النداء الى الصلاة من يوم الجمعة وهذان الامران الأولان في العبادة السعي الى الذكر الله وترك البيع ولنتأتي الآن الى الأمرين المتعلقين بالعمل والظرب في الأرض << فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله>> أي انتشروا واخرجوا من المسجد فلا يجوز البقاء في المسجد الا بمقدار صلاة النافلة ثم بعد ذلك ابتغوا من فضل الله أي العمل المفضي الى الربح سواء كان هذا الربح ناتجا عن التجارة أو أو أي عمل آخر.

زمن هنا أيها الإخوة الكرام فإن الامرين الأولين عبادة كما أن الأمرين الأخيرين كذلك عبادة وفي نفس الدرجة فأنت في كلا الأمرين في عبادة ولذلك أيها الاخوة الكرام علينا أن نرسخ هذه الثقافة في عقول أبنائنا بحيث لا يكون عندهم ازدواجية في الفهم بين مايعبر عنه بالعبادات وما نطلق عليه المسائل الدنيوية.

بهذا المعنى تزول الازدواجية تماما فيصبح كل استجابة لأمر من أوامر الله تعالى هي نوع من أنواع العبادة بغض النظر عن ماذا يفضي هذا الأمر لأمر تعبدي بحت أو لأمر العمل والكسب في الحياة الدنيا ولذلك فكما أن كل العبادات مرتبطة بالنية فكذلك فعلى الانسان أن يصحح نيته في استجابة لأمر من أمور الله لكي يصح عليه وصف العبادة بالمعنى الصحيح والكامل.

ولذلك كان سلفنا الصالح عندما يهم بشرب الماء فيقول والله يار بي لو لم تأمرني بالشرب لما شربت ولو لا ما أمرتني بالاكل لما اكلت فيستجيب لأمر الله في كل شيئ ليتحول الى عابد لله على امتداد 24 ساعة .

لذل كأيها الاخوة الأحبة فإن هذه الأمة بهذه الثقافة فقط قادرة على أن تصمد أمام هجمات الاعداء فتكون قوية على جميع الاصعدة وحينما تضعف هذه الأمة في الجوانب الدنيوية وهو من سنن الله فنحن لسنا معصومون من الضعف والتفرق فيسري علينا ما يسري على باقي الأمم وهو ما نعيشه اليوم فلا تجد أمة أضعف من أمتنا بالرغم كل ما تملكه من مقدرات وامكانيات فتوجد دولة مثل اسرائيل تغتصب أرضنا وتدنس مقدساتنا وتفرض علينا شروطها كما تشاء فيقول مجرمهم الأول بأننا لن ندخل المفاوضات الا بشروط خمسة من أولها القضاء على حماس والمقاومة أو ما يسميه هو “بالارهاب” ولذلك تراهم من اهم النتائج التي حققوها فيما سمي بمفاوضات السلام هو كيف تتحول السلطة والاجهزة الامنية الى ذراع من أذرع القوات الصهيونية في القضاء على المقاومة والقبض على المقاومين من خلال ما سمي بمشروع دايتون.

يقول تعالى << وأعدوا لهم ما ستطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم>> فالمعادلة في هذا العالم المبني عل ألا عدل هي معادلة قوة وما دونها فلن يعيد لهذه الامة موقعها ولن يعيد لها حقوقها المغتصبة.

واننا حين نرهب الاعداء فنمنعهم من محاربتنا فليست القوة هنا للاعتداء على الغير وانما هي للردع أو ما يسمى اليوم بالردع الاستراتيجي والذي للأسف أصبح عند اسرائيل التي تملك حوالي 300 رأس نووي في حين العرب لا يملكون قنبلة نووية واحدة فتحولت المعادلة أن أمة الاسلام المأمورة بالقيام بعملية الردع الاستراتيجي لأعدائها تحولت هي الى ضحية لموازين استراتيجية هي فيها الاضعف

 الخطبة الثانية:

الحمد لله والحده والصلاة والسلام على أشرف الانبياء والمرسلينك

أيها الاخوة الأحبة حتى تتحقق هذه الشمولية في مفهوم التعمير والصناعة أمرنا الله سبحانه وتعالى بقوله << هو الذي أنشأكم من الارض واستعمركم فيها>> فقد قال علماؤنا وعلى رأسهم الإمام الجصاص المتوفى سنة 310 للهجرة فقال أن هذه الآية تدل بوضوح على وجوب التعمير في الارض والتعمير هنا ليس فقط ممثلا في زراعة الأرض لا فالارض مطلوب منا أن نعمل على ظهرها وفي باطنها من استخراج للمعادن وكل مكنوناتها. فالله قد خلق هذا الكون لنا وجعلنا خلفاء فيه ولكن وللأسف الشديد نجد أن أمتنا الاسلامية هي من أضعف الامم في التعمير والتصنيع.


روابط ذات علاقة:

خطبة الجمعة: العنصر الخامس من عناصر الثقافة الاسلامية- ثقافة العمل