بسم الله الرحمن الرحيم

أيها الاخوة الكرام

اذا نظرنا الى الحضارات السابقة، والتجارب السابقة، وكذلك الى النصوص الشرعية، لوجدنا ان الحضارات القوية العظيمة، لايمكن ان تبنى بالجهود العادية، وانما تحتاج الى جهود متميزة، والى ارادة قوية، والى تماسك قوي بين افراد تلك الامة، هكذا كانت الحضارات السابقة، كل حضارة حسب نوعيتها، ولذلك رأينا ان الحضارة الاسلامية استطاعت ان تقفز خلال 150 سنة، قفزة رائدة رائعة. ويقول كثير من المنصفين، حتى من الغربيين، ان هذه القفزة التى قطعها المسلمون خلال 150 سنة، ما كانت باستطاعة الحضارة الرومانية او الساسانية ان تقطعها باقل من الف سنة، لو قسنا الحضارة الاسلامية في القرن الثاني الهجري، مع الحضارة الرومانية او الساسانية، لوجدنا بينهما فرقا كبيرا وشئوا بعيدا، فقد تطورت الحضارة الاسلامية بشقيها، الشق التكليفي والعلوم الشرعية، حيث ظهرت العلوم المنظمة للفكر الاسلامي، متمثلة بعلم اصول الفقه، وكذلك باصول الحديث والتفسير، بالاضافة الى علوم النحو والصرف، وبقية العلوم اللغويا والبلاغة والبيان والبديع، فقد تطورت العلوم التكليفية التي تخدم الدين مباشرة، او بواسطة كونها ادوات لتطوير العلوم الشرعية، مثل علوم النحو وعلوم الآلة كما يقولون، وفي المجال الاخر تطورت العلوم الطبيعية والانسانية والفلسفية والفكرية، تطورا هائلا حتى اضاف المسلمون في عالم الفكر، اضافات مبدعة، وتطورت علوم الطب بكل ألوانها واشكالها  من البصريات وعلوم الصناعة والتكنلوجيا، حسب ذلك العصر، تطورا رهيبا، واستطاع المسلمون ان يرتبوا لانفسهم منهجا تجريبيا خاصا بهم، حتى جعلوه الاساس للتقدم والتطور، وهو منهج التجريبي ، وهذا يعني توجيه العقل الى مجالاته، ومجالات العقل هي المجالات المحسوسة والمجالات المادية والمجالات التي يستطيع العقل ان يبدع فيها، وقد وصل هذا المنهج المسلمين الى ما غيره، او ما يسمى بعالم ما واء الطبيعة، ومن هنا وجه عقول المسلمين الى الطبيعة، في حين علماء اليونان وفلاسفتهم والاغريق، وجهوا كل جهودهم الى ميتافيزيقيا وماوراء الطبيعة ، ولم يستطيعوا ان يجنوا الثمار الكثير من هذا العلم، بينما اكتفى الاسلام بما بينه الله سبحانه وتعالى في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، حول قضايا الغيبيات، وكان فيه الكفاية والكفاية ، ثم وجهوا عقولهم نحو الامور الماديات والكون والفلكيات ونحوها،  فنجح المسلمون نجاحا  عظيما في هذا المجال، ولكن المسلمين حينما وصلوا الى هذه المرحلة لم يكونوا ليصلوا بسهولة، وانما بذلوا الجهود المضنية والعظيمة في هذا المجال، ولكن مع الاسف الشديد لم يستمر المسلمون الا عدة قرون، حيث توقفت الابداعات في المجالين في مجال العلوم الشرعية والتكليفية وكذلك في المجالات الاخرى منذ القرن الخامس الهجري او السادس الهجري، الا ما ظهر من جهود فردية لم ترقى الى المستوى المطلوب، ومن هنا بدأت التاخر يصيب المسلمين وبدأ الجمود تنتشر بين المسلمين، وفي هذه الاثناء كانت الاوروبا تعيش في الظلام الدامس، ولكن اوروبا نهضت لأنها وضعت لنفسها برنامجا اعتمدت فيه على المنهج التجريبي، وبذلوا جهودا كبيرا في اصلاح النظام السياسي والتعليمي وتشجيع الابداع  ومؤسسة الابداع، فوصلت اوروبا الى ما وصلت اليه، ومن هنا بين الله سبحانه وتعالى لهذه الامة بان امتحان هذه الامة وكذلك بقية الامم ليس في الاقوال، ولا يمكن ان تبنى الحضارات بالاقوال مهما كانت رائدة ومهما كانت رائعة وجميلة، ولا تبنى كذلك بالافعال العادية، بل ولا بالفعل الحسن، وانما تبنى الحضارات خاصة على المستوى الكبير ولاسيما في ظل الصراعات الحضارية اذا استطاعت ان تضع لمنهجها برنامجا قائما على ماهو الاحسن في كل شئ وفي كل الامور، وهذا ما بينه القران الكريم في سورة الملك حيث يقول الله سبحانه وتعالى ” تبارك الذي بيديه الملك وهو على كل شئ قدير، الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا ” فالله سبحانه وتعالى ذكر الملك وهو الكون كله، من حيث ما فيه من خزائن وما فيه من عجائب وكنوز، وذكر كذلك صناعة الحياة وصناعة الموت والانشطة الانسانية كلها ثم عقب على ذلك بان الامتحان ايها الأمة الاسلامية، فيمن يعمل ليبوكم ايكم احسن عملا ، وهذا تعبير قرأني عظيم جدا لانه عبر بكلمة تسمى باللغة العربية بالنكرة، التي هي تدل على النسبية، لأنه لم يقل رب العالمين الأحسن عملا حتى يكون معرفا  وانما “احسن عملا” لأن احسن العمل اليوم يختلف عن أحسن العمل الغد واحسن العمل الغد يختلف، وهنا تتطور هذه الاحسنية من يوم الى يوم وهذا لو عمقنا في هذه الاية الكريمة وفي غيرها من الايات التي توجب على هذه الامة على ان يكون جميع تصرفاتها على الاحسن وليس على الحسن، هذه الايات وغيرها تدل على ان الاسلام يريد ان يصنع داخل الفرد المسلم عقلية ديناميكية متقدمة متطورة تبحث وتسعى دائما نحو الاحسن، ولا ترضى بالحسن ابدا، ولذلك بين الله سبحانه وتعالى في ايات اخرى الاحسن في كل شئ ” فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه” ويقول ” واتبعوا احسن ما انزل اليكم من ربكم” فالله سبحانه ربط الجزاء بالاحسن، وربط الاتباع بالاحسن، وكذلك أمر الانسان دائما أن يتبع الاجود والاحسن، ولذلك علمنا الرسول صلى الله عليه وسلم ان الدخول للمسجد ان يكون على الاحسن، فنقدم الرجل اليمنى ونقرأ الدعاء المعروف، وكذلك حينما نخرج وكذلك حينمت ندخل الحمام، ولما ندخل السوق، ولما ننام حتى يكون ذلك منهج حياة المسلم للبحث عن الاحسن، والغريب ان الغرب اليوم يعيش على هذا الاحسن، فالجيل الرابع الذي طور كل هذه، ثورة الاتصالات و الانترنت قائمة على احسن السيناريوهات ، فأحسن السيناريوهات في الاعلام، واحسن سيناريوهات في السياسة، واحسن سيناريوهات في الاقتصاد. وهذا ما بين الله لنا، ان نكون هلى أحسن الوجه، وفي كل شئ في مظاهرنا وفي شكلياتنا وحقائقنا، فكل ما نستطيع ان نقوم به، يجب ان يكون على احسن الوجه المتجدد، لذلك الرب العالمين لم يكتفي بهذا المجال وانما ايضا بين ذلك فقال حتى في الصبر “فصبر جميل” اي حتى الصبر يجب الا يكون عاديا بل صبرا جميلا، والجميل صيغة بمالغة يدل على افضل الصبر، فهجرنا يجب ان يكون هجرا جميلا، فكل شئ في الاسلام يجب ان يكون في احسن الوجه،

لماذا رب العالمين يطلب منا ان نكون الاحسن؟ لأننا أمة الوسط، وامة الوسط هي امة الشهود، ويجب ان تكون هذه الامة قادرا على اداء الرسالة وقادرة على واجب الشهادة، وان تكون هذه الامة متمكنة في الارض وهذه التمكن لا يتحقق الا بالاحسنية واستمرار في الاحسنية في كل شئ، لأنه لو قامت أمتنا فستقوم امة الاخلاق وامة العقيدة وامة الرحمة للعالمين، بينما الحضارة الاوروبية، على رغم تقدمها هي في الحقيقة امة مادية، ودائما تسعى الى الجانب المادي على حساب الجانب ، لذا ظهرت المشاكل، واسرفوا في استخدام بعض الجينات على مستوى الحيوانات والنباتات، وادت الى ظهور مشاكل من جنون البقر وانفلونزا الخنازير والطيور، وحتى وصلت هذه الامراض الى الخضروات، بينما لو حكمها الامة التي يريدها الله سبحانه وتعالى، امة الاخلاق والقيم، فلا بد ان تكون رحمة للعالمين.

 فمن هنا بين الله سبحانه وتعالى بأن الامة المكلفة بالتمكين الكامل ” ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الارض يرثها عبادي الصالحون، ان في هذا لبلاغا لقوم عابدين، وما ارسلناك الا رحمة للعالمين ” اي ان الارض كلها او الارض المقدسة، سواء فسّرنا الارض المقدسة بفلسطين، أو فسّرناه، وهوالراجح عندي وعند جمهور المفسيرين، ان الارض جميعا يرثها هذه الامة، ولكن بهذه الشروط: بأن يكونوا عبادا لله سبحانه وتعالى، والعبودية لله تقتضي الحرية والكرامة وان لا يخاف من احد، ولا يركع او يسجد الا لله، اما الصالحون اي الحاملون للامانة ،الصالحون لأخذ سنن الله سبحانه وتعالى فهؤلا ء،هم الذين يستحقون ان يكونوا وارثين لهذه الارض.

 فمن هنا بين الله سبحانه وتعالى، كيف نتمكن من هذه الارض؟ نتمكن بالعبودية والصلاح وكذلك بمنهج الاحسن عملا في كل شئ وفي كل التصرفات، فلذلك لما تخلت الامة الاسلامية عن هذا المنهج، وصلت الامور الى ما وصل اليه، فضعفت الامة،وتفرقت وتمزقت واحتلت ارضها وديارها خلال القرون السابقة، اي منذ ثلاثة قرون والعالم الاسلامي يعاني من مشاكل الاحتلال، ومن مشاكل الاستعمار والاستعباد، ثم من مشاكل الاستبداد والدكتاتورية وما تركه هؤلاء المستعمرون من عملاء، هم في معظم الاحيان، ليقودوا العالم الاسلامي والعالم العربي، لان المسلمين تخلوا عن العبودية الخالصة لله، ومن التهيئة ليكونوا من الصالحين ولحمل هذه الامانة التي يقتضي الاخذ بسنن الله وسنن الذين من قبلكم والذي ذكره الله سبحانه في القران الكريم التي تخص النصر والهزيمة والحضارة والتقدم وكذلك التجارب السابقة. ولذلك جعل رب العالمين لنا امرين الكتاب والحكمة، والحكمة: هي كل امر نافع، او كل تجربة نافعة، او كل تطبيق نافع، وبالتالي ايها الاخوة الكرام ان الامة لا تستطيع ان تنهض ابدا لتقوم بدورها كما ينبغي الا اذا عادت الى هذه المنهجية منهجية العبودية الخالصة لله والمنهج التجيربي والمنهج القائم على الاحسن في كل شئ والتي تبحث دائما عن الاحسن ” قل ان صلاتي ونسكي ومحياي لله رب العالمين “

هذا هو المنهج الصحيح عند الله سبحانه وتعالى واذا عادت الامة الى منهجها في ظل هذا الحراك العظيم فان الامة اذا استطاعت ان تأخذ بالصورة الصحيحة والبوصلة الصحيحة فستوصلها الى شاطئ البر والامان ، ولكن نحن لدينا البوصلة ولكننا لانجيد ان نضع في مكانها الصحيح والاخذ بكل ما هو الاحسن لدينها ودنياها،  وهذا يرجع الى التربية والى منهجية المتكامل والارادة القوية لتنفيذ ما اراده الله سبحانه وتعالى، فكما يجب ان نكون مصلين، ساجدين، وبنفس المقدار ان نهتم بالتعمير في ظل منهج الله سبحانه وتعالى، والتمكين منها، وتقوية الامة بقوة العلم والاقتصاد، فليس هناك قوة بعد الايمان من قوة العلم، لذلك بدأ الله سبحانه وتعالى دستور هذه الامة المتمثلة بالقران بكلمة اقرأ ولم يبدأ القران الكريم بأي عبادة اخرى، لأن القراءة والعلم هما مفتاح للعبادة والتمكين، وقد مكن الله ادم بالعلم وأسجَدَ له الملائكة بالعلم ،فاذا اسجد الله الملائكة لادم بسبب العلم، فان بقية الكون ليست اشرف من الملائكة، فانها تخضع لك بالعلم ، لعلم الوحي، وكذلك للعلم التجيريبي

  

الخطبة الثانية

وفي ظل هذه الابتعاد لهذه الامة عن المنهج السابق الذي ذكرناه، وصلت الامة الى ما وصلت اليه، من حالات التخلف وكذلك ومن حالات الضعف والهوان الذى اصاب هذه الامة، فحينما كانت هذه الامة قوية، كانت قادرة على حماية نفسها وثرواتها وارضها وديارها ،بل حماية الغير بل كانت كذلك مهابة والاخرون يقدرون لهذه الامة قدرها وكرامتها، اما اليوم فتحتاج الامة الى المزيد من التفكير فيما وصلت اليه، وانها وصلت اليه بسبب هذه الابتعاد، لان سنن الله سبحانه وتعالى لا ترحم وان سنن الله تطبق على جميع الاقوام والشعوب والامم والحضارات.

 ومن هنا نرى ما نراه الان في عالمنا اليوم، ويبدو ان الصحوة الاسلامية التي بدات منذ اكثر من قرن، بدات هذه تؤثر في الشعوب، وجعلت الشعوب تحس بهذا الضعف، وهذا التخلف ومن هنا ثارت الشعوب ضد كل هذه المصاءب، وضد هذه المشاكل التي اصابت هذه الامة بما اقترفت يداها “ما اصابكم من مصيبة فبما كسبت ايديكم ويعفوعن كثير” فالله سبحانه وتعالى عفا ولم يحاسبنا عن كثير من امور، وانما حاسبنا على بعض التخلف، وبعض الامور التي ارتكبناها مخالفة لمنهج الحق، ومنهج الله سبحانه وتعالى، فثارت هذه الشعوب ضد التخلف بعد التحضر والحضارة، ضد التفرق بعد الوحدة ، وكل مقوماتها بعد الغنى، ثارت ضد الفقر بعدما كانت هذه الامة غنية قادرة على توفير كل متطلبات الحياة الاقتصادية وغيرها، اليوم اصبح الفقر في عالمنا الاسلامي مشكلة كبيرة جدا، ثارت هذه الشعوب ضد الظلم والطغيان والاستبداد، ونحن نتفائل الخير في هذه الثورات الشعبية، لعلها تعيد الامة الى منهجها الصحيح بالحرية المنضبطة، وبكرامة الانسان، لينطلق الانسان من منطلق الحرية الى الابداع في كل مجالات الحياة ، هذه الثورات كلها لأجل هذه المشاكل، ولذلك قامت هذه الشعوب بما قامت، فعلينا نحن ان ندعم هذه الثورات في كل الاماكن التي قامت فيها، وان نحمي كذلك الثورات التي نجحت فيها، فمسؤليتنا امام الله كبيرة في دعم مصر، لتحقق الثورة اهدافها، ولدعم تونس لتحقق الثورة اهدافها ، ولا نترك هذه الثورات، وهذا واجب الامة، حكاما ومحكومين، ان يقوموا بهذا الواجب، والا فنكون آثمين ونتحمل المسؤلية امام الله سبحانه وتعالى ، فعلى سبيل المثال يجب علينا ان ندعم وان نقوي وان نبذل كل الجهد لتحقق ثورة مصر نتائجها لخدمة الامة الاسلامية والعربية من خلال الدعم الاقتصادي والدعم السياسي والغذائي، ومن خلال توفير الاموال الكافية وخاصة في هذه المرحلة حتي تقوم بمشروعاتها للبنية التحتية، لان هؤلاء الظلمة اخذوا اموال الشعب، كما يظهر الان الاول بالاول، وكذلك في تونس والتي في الحقيقة تعيش على السياحة وبعض الموارد فيجب علينا ان ندعم تونس لتكون قادرة على الوقوف على رجليها وكذلك يجب علينا ان ندعم الثورات الحالية في سوريا ودعم شعبها بالدعاء والقنوت والصلاة وبالاعتصامات بكل الوسائل المتاحة وهكذا الامر في اليمن وفي ليبيا .